التلقيح الذاتي والتلقيح الخلطي شكري إبراهيم سعد

من الحقائق العلمية الثابتة أن زواج الأرقاب كثيراً ما ينجب أطفالا ضعافا معوقين ترتفع بينهم نسبة الأطفال المصابين بالعمى والتخلف والصمم والبكم، ولذلك تنادي جميع المؤتمرات الطبية بعدم الزواج من الأقارب. وإذا كان هذا ينطبق على الإنسان فهل يا ترى ينطبق أيضاً على النبات؟

لقد أثبتت التجارب أن النباتات التي يتم فيها التلقيح الخلطي (زواج الأباعد) تنتج عدداص من البذور أكثر مما تنتجه النباتات التي يتم فيها التلقيح الذاتي (زواج الأقارب). وليس هذا فقط، بل ثبت أيضاً أن هذه البذور إذا أنبتت ونمت كونت نباتات أقوى وأفضل وأرقى من النباتات الناتجة عن طريقة التلقيح الذاتي.

وإذا كان الإنسان بعقله وبصيرته يستطيع إدراك ذلك واتباع النصح والمشورة، فكيف يتحقق ذلك في عالم النبات وقد خلق الله سبحانه وتعالى الأزهار خناثى يتجاور فيها الجنسان جنبا إلى جنب، إن عالم النبات يبدو ساكنا ولكنه أوتي من الغرائب ما يفوق التصور والخيال، ترعاه قدرة الخالق عز وجل وتمده بالعناية فتجعله يقاوم ويتكيف ويحس وينمو ويتأقلم ويتنافس ويتطور ليحافظ على بقاء جنسه. ومن الحقائق أن التجمعات الجينية الناتجة عن اتحاد جنسين مختلفين يكسب النوع القدرة على التكيف والتجاوب مع تحديات البيئة المتغيرة، أما الأنماط الجينية الناتجة من جنس واحد لا يمكنها القيام بالاستجابة اللازمة وتتدهور وقد تنعدم. هذه الأنماط الأخيرة كثيراً ما تحدث نتيجة التزاوج من الأقارب في الإنسان أو حدوث التلقيح الذاتي في النبات.

التلقيح الخلطي

ولهذا وبالرغم من وجود الأعضاء الذكرية والأنثية متجاورة في الزهرة الواحدة ففي كثير من الأحوال لا يتم التلقيح الذاتي، بل يحدث التلقيح الخلطي نتيجة تحورات كثيرة في الأزهار يكون من نتيجتها حدوث التلقيح الخلطي، وعدم حدوث التلقيح الذاتي؟ ومن أهم هذه التحورات ما يأتي:

أولا: تلون الأزهار بالألوان الزاهية الجميلة، وتجمع الأزهار الصغيرة في نورات كبيرة ظاهرة، وكذلك انبعاث الروائح العطرية وإفراز الرحيق؟ كل ذلك لجذب الحشرات لزيارتها. كما أن بعض الأزهار يتشكل بأشكال مختلفة مثل إناث الحشرات والطيور لجذب الذكور إليها لتتزواج وعند الالتصاق بها تتم عملية التلقيح الخلطي.

ثانيا: كثيراً ما يكون النبات نوعين من الأزهار وعادة يحملان كل نباتين مختلفين كما لي أزهار الربيع Primula ويختلف النوعان من الأزهار في طول القلم وموضع الأسدية، فإذا زارت الحشرة زهرة ذات قلم قصير وأدخلت خرطومها لامتصاص الرحيق علقت حبوب اللقاح بأسفل خرطومها، فإذا أنتقلت هذه الحشرة إلى زهرة أخرى ذات قلم طويل لامست قاعدة خرطومها الميسم وعفرته بحبوب اللقاح وفى الوقت نفسه تعلق حبوب اللقاح بوسط الخرطوم والتي تحملها الحشرة إلى الزهرة ذات القلم القصير. وهكذا تتم عملية التلقيح الخلطي ولا يتم التلقيح الذاتي.

ثالثا: عدم بلوغ ونضج المتك والمياسم في وقت واحد، فالزهرة إما مبكرة طلع أو مبكرة متاع، ولذلك يأتي اللقاح اللازم لتلقيحها من أزهار أخرى على نباتات أخرى أصغر أو أكبر عمرا منها، ومن مثل هذه الأزهار نشأت الأزهار وحيدة الجنس والثنائية المسكن، أي أن الأزهار المذكرة تحمل على نبات بينما تحمل الأزهار المؤنثة على نبات آخر كما في النخيل، ولذلك يمكن اعتبار الأزهار المذكرة أزهاراً مبكرة طلع، ولكنها شديدة التبكير، وكذلك يمكن اعتبار الأزهار المؤنثة أزهارا مبكرة متاع لم تنضج فيها المتوك، ومما يثبت ذلك أن بعض النباتات تحمل أزهارا وحيدة جنس بجوار الأزهار الخنثي.

رابعا: حدوث العقم في النباتات، وهنا يجب التفرقة بين العقم وعدم الإثمار وإن كانت الألفاظ قد تؤدي إلى المعنى نفسه وهو قلة الإثمار أو انعدمه، وعدم الإثمار مؤقت وسببه عوامل خارجية طارئة كالري والتسميد والمناخ والحشرات، أما العقم فهو دائم وسببه إما ضمور أو غياب المحيطات الأساسية في الزهرة أو عدم التوافق الجنسي أو العقم الذاتي.Self sterility ومعناه أن حبوب اللقاح في الزهرة لا تنبت على ميسم الزهرة نفسها أو ميسم زهرة أخرى على النبات نفسه، وفي بعض الأحيان لا تنبت إلا على ميسم زهرة أخرى من صنف آخر كما في بعض أصناف البرقوق والكمثرى، وفي جميع حالات العقم يكون العلاج زراعة أصناف مختلفة من هذه الفاكهة متجاورة مع الأصناف العقيمة لكي تثمر إثماراً غزيراً، وتزرع هذه الأصناف كملحقات وليس إنتاج ثمار بشرط توافر جماعات النحل التي تقوم بعملية التلقيح الخلطي.

النحل وخدماته العامة

والنحل يزور الأزهار لجمع الرحيق الذي يصنع منه العمل وكذلك حبوب اللقاح لغذائه وغذاء صغاره، ويمتاز النحل على جميع الحشرات بمميزات مهمة أهمها خاصية الوفاء أو الإخلاص Floral Fidelity ومعناها أن النحلة إذا جمعت الرحيق من نوع أو صنف من النباتات فهي لا تزور إلا نباتات من النوع أو الصنف نفسه أو أنواع وأصناف أخرى قريبة، هذا بعكس الحشرات الأخرى التي تزور نباتات مختلفة الأنواع فلا يتم التلقيح الخلطي، بالإضافة إلى ما يمتاز به النحل بالمثابرة على العمل برغم تغير الظروف الجوية، بجانب طول خرطومه لامتصاص الرحيق من الأزهار طويلة الأنابيب التويجية، ومما يزيد من أهمية النحل في إتمام عملية التلقيح الخلطي النقص الشديد في كثير من الحشرات الأخرى التى كانت تساعد النحل في أداء هذه المهمة وذلك نتيجة عدة عوامل أهمها استعمال المبيدات الحشرية.

وفي حالات ضمور أو غياب أحد المحيطات الأساسية في الزهرة يكون العلاج توفير اللقاح اللازم في الأوقات المناسبة، ويقتضي ذلك حفظ وتخزين حبوب اللقاح، ومن أجل ذلك أقيمت بنوك اللقاح Pollen Banks التي تمد الزراع والباحثين في أي وقت من أوقات السنة بأنواع وأصناف حبوب اللقاح المطلوبة واللازمة لعمليات التلقيح اليدوي والتهجين وإنتاج الطفرات.

وتعتبر العلاقة التي تربط النباتات بالحشرات وخاصة النحل هي المسئولة عن التطور العضوي الذي حدث للنباتات، وهو مستمر استمرار الحياة على الأرض؟ ولعل هذه العلاقة هي أهم أسباب انتشار كاسيات البذور وتطورها وتفوقها على عاريات البذور حيث إن الأخيرة هوائية التلقيح.

ولأهمية النحل في عملية التلقيح الخلطي ووفرة المحاصيل، فقد وجد أن 80% من عمليات التلقيح الناجحة ترجع إلى نحل العسل لذلك اهتمت الدول المتقدمة بتربيته والإكثار منه وتحسين نوعه عن طريق التهجين والانتخاب وذلك لإنتاج مالكات قوية لها القدرة على وضع عدد كبير من البيض الذي يفقس معطيا شغالات كبيرة قوية تستطيع الطيران البعيد وجمع أكبر كمية من الرحيق وحبوب اللقاح، وللقيام في الوقت نفسه بعملية التلقيح الخلطي بين النباتات. والمصريون القدماء هم أول من عرف أهمية النحل في نقل حبوب اللقاح بين النباتات ووفرة الحب المحاصيل الزراعية، وكانت لهم قوارب في النيل تحتمل خلايا النحل لتوزيعها كل الزراع بالمجان. وفي البلاد المتقدمة يستأجر المزارعون خلايا النحل لوضعها بين المزروعات في أثناء تفتح الأزهار.

ومع الأسف الشديد يعتقد الكثيرون أن الغرض الأساسي من تربية النحل هو الحصول على عسله دون الاهتمام بعملية التلقيح الخلطي التي يقوم بها بين النباتات، وهذا خطأ كبير يجب تداركه وعلاجه بالإرشاد والنصح. والمعروف أن أهمية النحل في إتمام عملية التلقيح الخلطي تفوق أهميته في إنتاج العسل عشرات المرات، وقد ثبت أن من أهم أسباب تدهور كثير من المحاصيل الزراعية على المستويين الرأسي والأفقي هو تدهور وغياب جماعات النحل بين المزروعات، ومن أهم الأسباب التي أدت فى هذا التدهور هو تغذية النحل بالسكر.

غذاء النحل البروتيني

ومن الحقائق العلمية الثابتة أن حبوب اللقاح هي الغذاء البروتيني الوحيد لجماعات النحل فهي التي تمده بالبروتينات والهرمونات والفيتامينات والمواد المعدنية اللازمة لحياته وحياة صغاره وبدونها لا يمكن نمو اليرقات، وأي نقص في كمية حبوب اللقاح يؤدى إلى تدهور طائفة النحل. ولقد أثبتت التجارب أن تغذية النحل بالسكر تؤدي إلى نقص شديد في أوزان النحل ومحتواها النتروجيني كما تسبب موت عدد كبير من أفراد النحل يصل إلى 60% من مجموع النحل في مدة ثلاثة أسابيع، وعكس ذلك فإن تغذية النحل بحبوب اللقاح يطيل من عمر الشغالات كما يسرع في تطور الغدد البلعومية والأجسام الدهنية لذلك كان على النحال أن يتدارك ذلك في فترات نقص حبوب اللقاح بإمداد الخلية بحبوب اللقاح المختزنة أو ببدائل لها، وقد دلت البحوث التي أجريناها على بدائل لحبوب اللقاح وهي فول الصويا والخميرة. وردة القمح وجرمة الأرز أن أحسن البدائل هو كسب فول الصويا كبديل لحبوب اللقاح، على أن تضاف إليه نسبة قليلة من حبوب اللقاح كمصدر لجذب الحشرات وفي الوقت نفسه تزيد من قيمته الغذائية مع إضافة نسبة قليلة من الخميرة كمصدر لفيتامين "ب" للحصول على بديل كامل في محتوياته الغذائية للنحل.