إمارة الشعر بعد شوقي

إمارة الشعر بعد شوقي

بعد غياب شاعر «الهوى والشباب» بشارة عبدالله الخوري الذي عرف بـ «الأخطل الصغير»، يقف الباحث مذهولاً خائبًا إزاء التهافت المصيري الخطير الذي أصاب الشعر العربي في أقل من نصف قرن.

تحوّل الشعر العربي من فرط ما عبث به المغرضون والجهلة العاجزون متذّرعين افتراء وزورًا بوجوب تحديثه وتبديل أساليبه وأغراضه البيانية، إلى نوع من الهذيان المعيب، الفارغ في معظم الأحيان، من أي إبداع فكري أو بلاغ تعبيري أو جاذبية موسيقية، وهي القواعد الأساسية الواجبة لعمود الشعر، ذلك الإنجاز الحضاري المميّز الذي يعتبر بحقّ رأس الفنون الجمالية في جميع لغات الأرض.

ولمّا كان الشعر، بعد القرآن الكريم الذي تنزّل عربيًا صافيًا من لدن الله سبحانه وتعالى، هو ديوان العرب، وعنوان ثقافتهم، والحافظ المثالي الأمين لعبقرية لغتهم، وصحيح أدائها شكلاً ومضمونًا، فقد تعيّن ألا ينحطّ ذلك الشعر إلى مستوى التعبير السوقي الخاص بالأدلاّء السياحيين الذين يحسنون النطق بلغات عدة دون أن يلمّوا بعبقرية أي منها، كما تعيّن في الوقت نفسه ألاّ يتغمّر بالأساليب النثرية أيّا كانت خصائصها الجمالية لأنه يعرّض هويته للهجانة والالتباس.

ومهما تكن خطورة الأزمة التي يعانيها الشعر العربي في هذه المرحلة الزوالية من حياة الأمة وحشرجات مصيرها، ثم حاجتها أكثر من أي وقت مضى، وقبل فوات الأوان، إلى «نيابة عامة ثقافية» تعيد الأمور إلى نصابها بتأديب العجزة المخربين في صناعات الأدب والفكر والفن، فإنّ ذلك يجب ألاّ يزهّد الرعيل المتقدم من المفكرين الصابرين والنقّاد الثقات في إيلاء عباقرة الشعر والأدب حقهم، عبر أبحاث ودراسات كاشفة ومفيدة، كالتي نفتتح بها اليوم سلسلة من الفصول النقدية والتاريخية حول الأخطل الصغير وبعض المميّزين من شعراء زمانه، تكون فيها العبرة والموعظة للأدباء الشباب، من أصحاب المواهب القادرة على حمل الرسالة، وحثّ الخطى في الاتجاه الصحيح، كي لا يتحوّلوا إلى جمهرة يائسة من شهود الزور من مهرجان المساخر.

إمارة الشعر

كان «الأخطل الصغير» بشارة عبدالله الخوري قد أتمّ الخامسة والسبعين عندما تنادت الهيئات الثقافية والحكومية في بيروت إلى تكريمه في احتفال باهر قلما عرف له مثيل في لبنان والعالم العربي. وقد أقيم ذلك المهرجان في القاعة الكبرى بقصر الأونسكو في الرابع من يونيو 1961، برعاية رئيس الجمهورية يومذاك الأمير اللواء فؤاد شهاب وحضور جمع غفير مميّز من رجال الفكر والسياسة والأدب والشعر في لبنان والبلاد العربية كافة.

وقد تناوب على الكلام في الاحتفال إلى جانب الرئيس صائب سلام ممثل رئيس الجمورية والدولة اللبنانية الراعية، كلّ من الأدباء اللبنانيين الذين خطبوا نثرًا، وهم الشيخ عبدالله العلايلي، أنطوان قازان، حافظ المنذر، سعيد عقل، وعفيف الطيبي، ثم أربعة من كبار شعراء العرب تباروا في تكريم الأخطل الصغير بقصائد من عيون الشعر، هم: صالح جودت باسم الجامعة العربية، عمر أبو ريشة باسم الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية)، محمد مهدي الجواهري باسم العراق، وأمين نخلة باسم لبنان.

وكان الحدث الأبرز في ذلك المهرجان أن هؤلاء الأربعة انتهزوا المناسبة الفريدة لمبايعة الأخطل الصغير إمارة الشعر، بعد مرور ثلاثة عقود على شغور هذا المنصب المعنوي الكبير بوفاة أمير الشعراء أحمد شوقي سنة 1932.

فقد استهلّ أمين نخلة المبايعة باسم لبنان حيث قال في مطلع قصيدته:

أيقولون أخطلٌ، وصغيرُ؟
أنتَ في دولةِ القوافي أميرُ
فاسحَبِ الذَيْلَ ما تشاءٌ وجَرِّرْ
إنَّ مُلْكَ البيانِ مُلْكٌ كبيرُ

وطابقت هذه المبايعة ما ورد في قصيدة عمر أبو ريشة الذي قال مخاطبًا لبنان:

جمعتهُمُ شِيَمُ الوفاءِ لماردٍ
في الشِعرِ جَوّابِ الأعالي قاهرِ
ضفروا له من دَوْحِ أرزِكَ تاجَهُ
أكرِمْ بمضفورٍ لهُ وبضافِرِ
يكفيك أن تلقاهُ يُطلعُ دولة
من مجدِ أقلامٍ وعزِّ منابرِ

أما قصيدة الجواهري فقد جاءت في مجملها مبايعة كاملة رفع فيها الأخطل الصغير إلى أعلى مراتب الخلود، كما جاءَت معارضة شعرية لقصيدة بشارة الخوري في بغداد التي يقول فيها:

بغدادُ ما تركَ السُرى منّي سِوى شَبَحٍ مُريبِ
وَجَفَتْ لهُ الصّحراءُ والتَفَتَ الكَثيبُ إلى الكثيبِ
وتَطَلَّعَتْ زُمَرُ الجَنادٍبِ
من فُويْهاتِ الثُقوبِ
يتساءَلون من الفتى
العربِيُّ في الزيِّ الغريبِ

وتجري قصيدة الجواهري على الوزن والقافية أنفسهما، ومطلعها:

لبنانُ يا خَمري وطيبي
هلاّ لَمَمْتَ حُطامَ كوبي

ثم جاءَت المبايعة بالعبارة الواضحة في قصيدة صالح جودت ممثل الجامعة العربية حيث قال:

كلُّ تلكَ المعادِنِ المختارةْ
صاغَ منها حبيبُنا أوتارهْ
وجَلا من خُيوطِها أشعارهْ
فَعَقَدْنَا لهُ لِواءَ الإمارةْ

وكانت للأخطلِ الصغير مقطوعة شعرية فائقة الروعة مدرجة في صحائف الخلود، لاتزال الأجيال العربية تردّدها وستبقى إلى أجل بعيد، فقد أرادها مسك الختام لذلك المهرجان، وهي آخر ما قرأنا له من روائع الشعر سوى أبيات قليلة متفرقة في مناسبات مميّزة كان يحدث خلالها الحضور بنثره الشائق بعدما غلب سليقته ريب الزمان، وتناهت حياته تحت أعباء التسعين ليلقى وجه ربّه بالتسليم والرضا والأمان.

قال الشاعر في مهرجان مبايعته:

أَيَوْمَ أصبحتُ لا شَمسي ولا قَمري؟
مَنْ ذا يُغَنّي على عودٍ بلا وتَرِ
إنّ القوافي إذا جاذَبتُها نفَرَتْ
رَعَتْ شَبابي وخانتني على كِبَرِ
كأنّها ما ارْتَوَتْ من أدْمُعي ودَمي
ولا غَذَّتْها ليالي الوَجدِ والسَّهَرِ
أينَ القصائدُ تُنْدي من جَوانِحِها
رَيْحانَةَ السَّفْحِ أو أُغنيَّةَ النَّهَرِ
شعرٌ كما شاءَهُ الإبداعُ مُبْتَكَرٌ
تَدفَّقتْ فيه أمواجٌ من الصُوَرِ
غنّى العُروبَةَ ألحانًا مُجنّحةً
من دَمعةِ الليلِ أو من بَسمةِ السَحَرِ
من صَخرِ لبنانَ من شلاّلِ قِرْنتِهِ
وما تَسلسَلَ من آياتِهِ البُكُرِ
ما لي بأضوعَ ما في الروضِ أنشرُهُ
على المفارقِ من إخواني الغُرَرِ
صُغْتُ القريضَ وما لي في القريضِ يدٌ
يدُ الطبيعةِ فيه أو يدُ القَدَرِ
إنَّ المواهبَ لا فضلٌ لِصاحِبِها
كالصوتِ للطيرِ أو كالنَفحِ للزهَرِ

مبايعة شعراء المهجر

وسرعان ما نقلت جوائب الصحافة وبرقيات الإذاعة وقائع المهرجان الكبير الخاص بمبايعة الأخطل الصغير إمارة الشعر، إلى المغتربين العرب وخصوصًا اللبنانيين منهم، والسوريين الذين حفظوا تراث الضاد في مجتمعاتهم البعيدة المنتشرة عبر «الأندلسيات الجديدة» ولاسيما في أرض كولومبس بين الأمريكتين، كما عمّم الشاعر المهجري الكبير شفيق المعلوف، من «العصبة الأندلسية» في سان باولو (البرازيل)، خبر المبايعة على من بقي حيًا من شعراء «الرابطة القلمية» في الولايات المتحدة، وغيرها من المهاجر النائية، طالبًا إليهم تدوين تلك المناسبة شعرًا في تكريم الأخطل الصغير، وكلّف الأستاذ فارس الدبغي باسم أدباء الاغتراب إرسال القصائد إلى الدكتور فؤاد صرّوف في جامعة بيروت الأمريكية، لإقامة احتفال خاص بمبايعة شعراء المهجر.

وفي الخامس من نوفمبر 1961، أي بعد ستة أشهر فقط من مهرجان الأونسكو في العاصمة اللبنانية، احتفل في قاعة «وست هول» الكبرى في الجامعة الأمريكية بـ «مبايعة شعراء المهجر للأخطل الصغير» وذلك بحضور مميّز حظي بمشاركة الحكومة اللبنانية وسائر الهيئات الثقافية والوطنية، ونخبة أهل القلم ورجال الفكر والصحافة والعلم والأدب والاقتصاد، فضلاً عن المؤسسات الجامعية والتربوية كافة في لبنان والدول العربية الشقيقة.

وبعد كلمة الافتتاح التي ألقاها الدكتور فؤاد صرّوف. وكلمة أدباء البرازيل التي ألقاها الأستاذ فارس الدبغي، ارتجل عرّيف الحفلة الشيخ أحمد يوسف حمود، كلمة لطيفة تلا على إثرها أبياتًا للشاعر الشيخ حنا زخريا، ثم أعقبت ذلك تلاوة القصائد المهجرية، وسط جوّ من الحماسة الفائقة والتذوّق العارم والتصفيق الحاد، وقد جاء في قصيدة حنا زخريّا قوله:

يكرمُ العلمُ فيكَ والأدبُ
يكرمُ الفنُّ فيكَ والحَسَبُ
هذا أميرُ دولةٍ شملَتْ
كلَّ الدُويلاتِ دينُها الأدَبُ

وجاء في قصيدة الشاعر إبراهيم البسيط التي قرأها الأستاذ حسيب عبدالساتر:

ما كَرّموكَ ولكنْ كَرَّموا الأدَبا
تا اللهِ ما ذاكَ إلاَّ بعضَ ما وَجَبا
إنْ كانَ للشعرِ أهلٌ يُستَعزُّ بِهِمْ
فأنتَ للشعرِ أهلٌ أَنْ تكونَ أبا

وقرأ الشاعر رياض المعلوف أبيات أخيه الشاعر شفيق المعلوف محفورة على صحيفة من الذهب قدّمها إلى المحتفى به باسم أدباء البرازيل، ويقول فيها:

عبقريٌّ نفرشُ التبْرَ لَهُ
ولو اسطَعْنَا فَرَشْنَا المُهَجا
واندَفَعْنَا زَغْرَداتٍ في المدى
نقْحُمَ الريحَ ونَطوي اللُّجَجا
وحَملناها إلى سُدَّةِ مَنْ
أرْقَصَ العِقْدَ وهَزَّ الدُمْلُجا
أملُ الشعرِ المُرَجّى يومَ لمْ
يبقَ للشعرِ بَقَيّاتُ رَجا

وكان مسك الختام للأخطل الصغير الذي توجه إلى الحضور ومنظمي الاحتفال بكلمة شكر طافحة بأرق العواطف وأطيب المشاعر، استهلّها بالقول «تبسّمي يا جروحي - روحي تعانق روحي». وختمها بالتحية إلى لبنان المغترب والمقيم حيث يقول:

شطرانِ قلبي، شطرٌ للمقيمِ بِهِ
على الوفاءِ وشطرٌ للذي نزحا

الذكرى الأولى بعد النكبة

ومرّت هزائم الستينيات على الأزمة مرورًا صاعقًا بلغ من الهول حدّا أخرس الشعراء، وقد أرتج عليهم في غمرة الأخطار والمآتم والأحزان التي بلغت مداها في يونيو 1967، حيث طغى اليأس على أعماق النفس العربية وغلغل في طيات كيانها الذبيح، فمضت تكفكف دموع النكبة في خجل واكتئاب لم تعرف له مثيلا في تاريخها، وممّا قاله لي الشاعر عبدالله الخوري كبير أبناء الأخطل الصغير، رحمهما الله، أن أباه غرغر بهزيمة العرب في حرب يونيو المشئومة، وأصابه النزع قبل أوانه، فكان يحشرج بأبيات من الشعر القديم، وخصوصًا مرثاة أبي ذؤيب الهُذَلي الذي مات أولاده الخمسة بالطاعون، ومطلعها:

أمِنَ المَنونِ ورَيْبِها تَتوجَّعُ
والدهرُ ليسَ بمُعْتِبٍ مَنْ يَجْزَعُ

وظلَّ الأخطل الصغير على تلك الحال من الكآبة والضنى، إلى أن وافاه الأجل سنة 1968 بعد أقلّ من عام واحد على الكارثة.

وكانت مصادفة عارضة ما لبثت أن حالت وبالاً على لبنان خلال السبعينيات، وهي أنه لم يشترك في حرب يونيو 1967، فلم يصبه بالتالي ما أصاب مصر وسورية والأردن من ذيول النكبة وآثارها السلبية المباشرة، لكنه بقي مكظومًا يحبس مرارته في ألم واحتساب، ولجأ إليه الكثيرون من شعراء العرب وأدبائهم في تلك المرحلة، حيث كانوا يشعرون فيه على الأقل ولو إلى حين، أن طبيعة الأشياء لم تنقلب على ذاتها، كما حصل في أرض الكنانة وسائر بلاد الشام.

وما كاد العام الأول يمضي على وفاة أميرهم، حتى وجدوا في الدعوة إلى الاحتفال بذكرى الأخطل الصغير التي صدرت عن نقابتي الصحافة والمحرّرين وآل الفقيد برعاية الدولة وعلى رأسها رجل الثقافة والأدب الرئيس شارل حلو، مناسبة نادرة للتعبير عن انفعالاتهم وما يعتلج في قرائحهم وصدورهم من مشاعر الخيبة والمرارة لانهزام العرب أمام عدوّهم، وتآمر بعض المتخاذلين في صفوفهم مع القوى الأجنبية الكبرى، على الأمة العربية وحكوماتها وجيوشها، مما ألحق بها تلك الهزيمة النكراء.

التطرف الذي أسقط التضامن

وحدّد يوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر 1969 موعدًا للاحتفال بالذكرى في القاعة الكبرى بقصر الأونسكو، فكان للشعر يوم مشهود حضره رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة وأعيان لبنان من القطاعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية جمعاء، فضلاً عن رعيل ألمعيّ من رجالات العرب وأرباب السيف والقلم في الديار القريبة والبعيدة. وتبارى على المنبر في عكاظ بيروت عشرة من كبار الشعراء يمثلون معظم الأقطار العربية هم على التوالي، وفق ما أعلنه العرّيف صلاح الأسير، كلّ من عزيز أباظة (مصر) عمر أبو ريشة (سورية) لميعة العمارة (العراق) عبدالمنعم الرفاعي (الأردن) أحمد السقّاف (الكويت وإمارات الخليج) محمد الفيتوري (السودان) حسن القرشي (السعودية) كمال ناصر (فلسطين) وسعيد عقل (لبنان)، بالإضافة إلى نجل الأخطل الصغير الشاعر عبدالله الخوري، بينما اعتذر شفيق المعلوف الذي كان يفترض أن يمثل المغتربين العرب، وحالت ظروف قاهرة دون حضوره من البرازيل.

وتحوّل عكاظ بيروت في مناسبة الوفاء للأخطل الصغير، إلى مهرجان سياسي بامتياز صبّ العديد من خطبائه جام غضبهم شعرًا ضدّ بعض الأنظمة العربية، ممّا أحدث انقسامات عريضة في الرأي بين اللبنانيين وعتبًا معلنًا في معظم الأوساط العربية المعنية. ويمكن القول إن تلك المناسبة التي أرادها البلد فرصة ذهبية تؤلف بين أبنائه من طريق الشعر، وهو مرآة الحق والخير والجمال، كانت بمنزلة الإسفين الأول الذي وسع الشرخ بين الأحزاب والتيّارات الأيديولوجية المتناصبة، فتوقفت بعدها مهرجانات الشعر، ومباريات الأدب وأغاريد الفن والتسامح والسلام. ليحلّ محلّها صراع الأفكار والآراء الحاقدة ودعوات التطرف والتنابز التي جسّدتها الحرب الأهلية ابتداء من مطلع السبعينيات، ولاتزال مفاعيلها وزلازلها الارتدادية تتواصل إلى اليوم.

رفيق المعلوف 





الشاعر الأخطل الصغير إلى يمين الشيخ عبد الله السالم الصباح أمير دولة الكويت (1951 - 1965)





الشاعر في مكتبه أيام الشباب





الأخطل الصغير في أواخر أيامه