موسيقى الكلمة

موسيقى الكلمة

لعل الأخطل الصغير بشارة عبدالله الخوري بغزلياته المرحة الخفيفة الظل، وبلغته السهلة المتصلة أوثق اتصال بلغة الناس ومواجدهم وحياتهم اليومية، هو الذي مهّد الطريق لشاعر مثل نزار قباني عُرف بغزله المكشوف ولغته الوسط بين الفصيحة والدارجة. وكان نزار قباني معجبًا بالأخطل، ومعتبرًا إياه أحد أساتذته. والواقع أن مَن يقرأ ديوان الأخطل الصغير، ويتأمل لغته وأسلوبه وصوره، يجده سبق زمانه على صعيد التيسير والتسهيل. فلغته الشعرية تختلف عن لغة معاصريه كخليل مطران وحافظ إبراهيم والزهاوي والرصافي وشفيق جبري.

وإذا كانت لغة أكثر هؤلاء لغة عصر الإحياء، أي لغة تنهل من المعاجم والقواميس، وتربطها صلات وثقى بلغة الشعر القديم، فإن لغة الأخطل، في الأعم الأغلب، كانت حديثة في زمانه، أو عصرية إلى حد بعيد. فهو لا يتردّد في مدّ يده إلى اللهجة الدارجة مستعينًا بتعابير، أو صور، «يفصّحها» إن جاز التعبير، ويدخلها في قالب قصيدته. فكأنه يترجم أحيانًا من الدارجة إلى الفصيحة، وكأن ليله ونهاره هما كباقي ليل الناس ونهارهم من حيث خضوعه لهموم الحياة اليومية ومتطلباتها ومواضعاتها، إلا أنه يختلف عن هؤلاء الناس في أنه عندما يريد أن يكتب الشعر، يكتبه باللغة الفصيحة، لا بالعامية على عادة شعراء هذه الأخيرة.

ولعل اقترابه من حياة الناس والشارع، وتسرّب لغة هذه الحياة بالذات إلى شعره، هو الذي وهب هذا الشعر بقاء لم يكن ليسلم له لو أنه توسل تلك اللغة المقعرة القديمة والصور المصاحبة لها.

سببان جعلا الأخطل الصغير يختلف في لغته عن لغة معاصريه، أو أكثرهم على الأقل: أولهما أن الأخطل لم يعرف الحياة الدراسية المنتظمة، كما لم يتخرج في كلية آداب، أو في جامعة. فما قرأه من أدب عربي، أو غير عربي، قرأه في الغالب على نفسه. وقد قرأه تلك القراءة المنتقاة أو العجلى، لا تلك القراءة المنهجية المتأنية التي توسلها عباس محمود العقاد، على سبيل المثال، وهو عصامي مثله لم يتخرج لا في مدرسة ولا في جامعة. فالأخطل لم يتمكن من معرفة أو إجادة القديم، ولم يهتم بأن يتمكن منه. فما اهتم به أيما اهتمام، وعلى مدار حياته كلها، هو ممارسة تلك الحياة الماجنة التي خضع لها، على سبيل المثال، زميله القديم الحسن بن هانئ.

ثاني هذين السببين اللذين جعلا الأخطل ينجو من معتقله القديم، وينهج نهج اللغة الوسطى أو الميسرة التي نتحدث عنها، هو أنه فور تركه المدرسة الثانوية التي كان يدرس فيها في بيروت، اتجه إلى الصحافة، محررًا في البداية في بعض صحف بيروت (ابتداء من عام 1905) قبل أن ينشئ بعد ذلك بثلاث سنوات جريدته الأسبوعية (ثم اليومية) الخاصة به واسمها «البرق». فإذا علمنا أنه من مواليد بيروت عام 1885، أدركنا أنه امتهن الصحافة، وهو في العشرين من عمره. ولاشك أن الصحافة أحسنت إليه كشاعر، إذ جعلت لغته لغة قريبة من القارئ العادي، ومن قدرة هذا القارئ على فهم ما يصل إليه من شعر وأدب. وفي الوقت الذي كان زميله ومعاصره خليل مطران أو حافظ إبراهيم أو أمين نخلة يلهث وراء قافية أو مفردة يجد أن قصيدته بحاجة إليها، كان الأخطل الصغير يكتب شعرًا كهذا الشعر:

بلّغوها إذا أتيتم حماها
أنني متُّْ في الغرام فداها

أو

عِشْتُ فالعبْ بشعرها يا نسيمُ
واضحكي في خدودها يا كرومُ

أو

لو أن بعض هواكِ كان تعبّدًا
وحياة عينكِ ما دخلتُ جهنما

إنه يصطحب معه تعابير العامة إلى شعره وصورهم. فعبارة (عشتُ) عبارة مألوفة في حياة الناس اليومية، تتضمن دعاء بطول العمر. فهو يحرّض النسيم على أن يلعب بشعر حبيبته، ويشيد بضحك الكروم في خدّيها... أما عبارة (أنني متّ في الغرام فداها)، فهي عبارة عامية أصلاً وفصلاً. أما (وحياة عينك ما دخلت جهنما)، فمن لغة شعراء الزجل عندما يتبارون بوصف الحبيبة، بل من لغة أي عاشق يتوجه إلى حبيبته بصريح مشاعره تجاهها.. والأبيات الثلاثة وهي من قديم شعر الأخطل، تدلّ على أنه من البداية لم يستخدم العبارات المتقعرة أو غير المأنوسة، بل استخدم ما هو ذو صلة وثيقة بقاموس الحياة اليومية العادية البسيطة.

وقد لا نقع في الخطأ إذا زعمنا أن الأخطل لم يكن على حظ واسع بمعرفة القديم، أو التراث، كما كان يعرفه أقرانه وزملاؤه الكبار. وعلينا أن نثني عليه بسبب قلة معرفته بهذا القديم، فلو أنه كان يعرفه كما كان يعرفه شعراء جيله الكبار، فلربما خضع لنفوذ هذا القديم كما خضع له هؤلاء الشعراء. ولربما، وبسبب قوة هذا النفوذ، ألحق نفسه بالأخطل الأموي القديم. ولربما، وبسبب ذلك، لم يلتفت إليه المغني العربي الحديث في القرن العشرين كمحمد عبدالوهاب وأسمهان وفيروز.. والمعروف أن الأخطل الصغير تعاون مع عبدالوهاب مرة في كتابة قصيدة فصحى وعامية مصرية معًا، هي قصيدة «يا ورد مين يشتريك»، استئناسًا ربما بالشعر العامي الذي كتبه أمير الشعراء شوقي لعبدالوهاب. وحسنًا فعل الأخطل بنظم شعره بهذه اللغة العربية الحديثة يومها، وحتى بمشاركته عبدالوهاب بنظم قصيدة فصحى وعامية معًا. وحسنًا فعل بإدخال الظرف والمرح والابتسامة إلى شعره فكل ذلك جلب لشعره نكهة حداثة لاتزال واضحة في قصائده إلى اليوم، وكل ذلك جعل المغنين يتهافتون عليه لغناء شعره. ولاشك أن غناء عبدالوهاب لبعض شعره، (وقد أشار عليه بذلك أمير الشعراء شوقي)، شكل مناسبة كبيرة لذيوع هذا الشعر على نحو واسع.

فعبدالوهاب، ولو لم يكن حاضرًا يوم تكريمه (أو مبايعته بإمارة الشعر في قصر الأونسكو ببيروت يوم 4 يونيو 1961) أنعم عليه أكثر مما أنعم صالح جودت أو محمد الفيتوري أو سواهما ممن بايعه يومها بإمارة الشعر. إن صوت عبدالوهاب هو من جملة العوامل التي تبقي شعر الأخطل الصغير حيًا اليوم، في حين درست قصيدة صالح جودت كما درست قصيدة الفيتوري في حفل المبايعة.

ويمكن للمرء أن يلتمس لغة الأخطل الشعبية السهلة في أكثر أو في كل قصائده أو فيها كلها، لا في بعضها وحسب. فالشاعر الذي أمضى عمره في الحانات والمقاهي في ساحة البرج، وفي سواها، لم يبذل جهدًا كبيرًا ليجعل قصيدته وثيقة الصلة بمناخ تلك الحانات والمقاهي، وبلغتها وصورها على الخصوص. في هذه الأمكنة، أمضى الأخطل جزءًا كبيرًا من شبابه ومن حياته، لم يشاهده أحد يومًا ومعه «العقد الفريد»، أو هذا الجزء أو ذاك من «الأغاني»، ولا أي كتاب تراثي آخر، بل شوهد مرارًا، ومنذ مطلع شبابه إلى ما قبل منتهى حياته بقليل، عضوًا بارزًا في حلقات نواسية نجد صدى لها في الكثير من قصائده. فهو، لهذه الجهة، لم يُضع وقته لا مع ابن ربّه، صاحب «العقد الفريد»، ولا مع أبي الفرج الأصفهاني، صاحب «الأغاني»، بل أضاع وقته مع الندامى، والماجنين، ومسامراتهم وكئوسهم. ولعل قصيدته «اسقنيها بأبي أنت وأمي» من وحي حياته، لا من أي وحي آخر، ولعلها نموذج الليل الذي عاشه، ونموذج الغزل الصريح الذي كتبه. ولا تغرّننا عبارة «بأبي أنت وأمي» لنلحق شعر الأخطل بالقديم، فهي مجرد قسم قريب جدًا من قسم الناس العاديين عندما يقسمون. وعلينا أن نلتفت أكثر إلى صور هذه القصيدة وجو المرح المختال فيها. لم يدع الأخطل الفن يلتهم حياته، بقدر ما جعل الحياة المصدر الأول للفن:

اسقنيها بأبي أنت وأمي
لا لتجلو الهم عني، أنت همي
املأ الكأس ابتساما وغراما
فلقد نام الندامى والخزامى
زحم الصبح الظلاما، فإلاما
قم نُنَهْْنِهْ شفتينا
ونذوّبْ مهجتينا
رضي الحبُّ علينا يا حبيبي..

ولا يفارقة الظرف في قصائد كثيرة يطلب فيها الرحمة من امرأة ما، أو يتغزل بمفاتنها:

ما للشفاه الكسالى لا تزوّدنا
فقد حملنا على أفواهنا القربا
بمهجتي شفة منهن باخلةٌ
جاران، تحسبنا إن تلقنا غُرَبا
أهم بالنظرة العجلى وأمسكها
إذا قرأتُ على الحاظُها الغضبا
أفدي الشفاه التي شاع الرحيق بها
وهمّ بالكأس ساقيها وما سكبا

أما معاني (إن عشقنا فعذرنا أن في وجهنا نظر) فلا أعتقد أنه استقاها إلا من حياته اليومية ومن ذاك القاموس الذي تشيع مفرداته على الألسن، وكذلك معاني قصيدته الأخرى:

يا أمةً غدت الذئاب تسوسُها
غرقت سفينتها فأين رئيسُها
موتوا كرامًا أو فعيشوا أمةً
تهوى على يدها العلى وتبوسُها

فهي قصيدة، كباقي قصائده، تؤهله لأن يحمل لقب «الشاعر الشعبي الفصيح»، وهو اللقب الذي حمله بعد ذلك الشاعر نزار قباني.

وفي شعره ما يُلحقه أحيانًا بالظرف والمرح والمداعبة المألوفة في الحانات والمجالس والدواوين. فلنتأمل هذا العتاب الشجي في إحدى قصائده:

ما للاقاحية السمراء قد صرفت
عنا هواها، أرقّ الحسن ما سمحا

ولاشك أن نظم كل ما تقدم كان مغامرة تُحسب لصاحبها. وكان كل ذلك مقدمة لهجوم العامية على القصيدة الفصيحة الذي اضطلع به نزار قباني وآخرون في ما بعد.

وكذلك الصور الرقيقة العذبة التي أدخلها هذا الشاعر اللبناني الشغوف بالجمال إلى قصيدته. فلا ريب أنه الذي شقّ الطريق الذي عبّده آخرون من بعده.

ولفرط الألفة التي نشأت بينه وبين لغة الغزل، تسرّبت لغة الغزل هذه إلى شعره الوطني:

قُمْ نقبّلْ ثغرَ الجهاد وجيدُهْ
أشرق الكون يوم جدّد عيدَهْ

على أن المعاني العميقة لا تخونه في بعض أشعاره، ومنها هذه القصيدة التي يردّد فيها فلسفة الخيام المعروفة:

حكمةُ الدهر أن نعيش سكارى
فاجمعا لي الكئوس والأوتارا
واجلواها دنيا ممتعةَ الحسنِ
كما تجلوان إحدى العذارى
كلنا كنا نجاذبها الوصل
ونجني اللذائذ الابكارا
فانهب العيش لا أبالك نهبا
واطرّحْ عنك وجهك المستعارا
لستُ مهما عُمّرتَ غير جناحٍ
حطّ في الدوحِ لحظةً ثم طارا

وكما أحيا الخيّام في هذه القصيدة الجميلة، أحيا النواسيّ في قصائد كثيرة، منها قصيدة مشهورة له تحمل في الديوان اسم أدب الشراب، تبدأ على الصورة التالية:

فتنُ الجمال وثورةُ الأقداحِ
صبغتْ أساطيرَ الهوى بجراحي
يا ذابحٌ العنقود خَضَّبَ كفَّهُ
بدمائه، بوركتَ من سفّاحِ
أنا لستُ أرضى للندامى أن أرى
كسلَ الهوى وتثاؤبَ الأقداحِ
أدبُ الشرابِ إذا المدامة عربدت
في كأسها أن لا تكون الصاحي!

ومع أن ديوانه يضم قصائد وطنية كثيرة، لعل من أجملها قصيدته في فلسطين (سائل العلياء عنا والزمانا...) وقصائد أخرى عن لبنان والشام، إلا أن الأخطل الصغير أكثر تردّدًا على شعر الغزل منه على شعر الوطنية. ومع أنه كان وطنيًا بما فيه الكفاية، وذا حسّ عروبي واضح،. وهذه تُحسب له زمن الانتداب الفرنسي على الخصوص، أي زمن الفرنكوفونيات، إلا أننا نجده أكثر في شعره الغزلي شاعرًا كلفًا بالجمال، منبهرًا به على الخصوص. ولعل الشاعر سعيد عقل الذي أعدّ ديوانه للنشر، ووضع مقدمته، كان دقيقًا عندما وصف الأخطل الصغير بأنه «قضى عمره خادمًا للحسن»، وكذلك عندما قال عن ديوانه: «تتصفحه خطفًا فتخالك لا على المنبر، وإنما متوغلاً في ممرّ الياسمين». وبقية كلمات سعيد عقل هي التالية: «قبب مكوكبة بالزهر، بالعناقيد تعلّل بانقطاف، بالكئوس تمدّ بها أيدٍ من الغيب لا تُرى. عرسٌ للهنيهة. نفس باعدت في ذاتها تكشف عن كنز الوجود، بحكمةٍ مرة ومرارًا بغرابات ما لها عدّ، حتى ليُفاجأ ذوّاقة الطُّرَف فيهتف: شعر الشاعر هو هنا غير ما هو. أنه، لعمري، أزليّ الميلاد».

ممر الياسمين، هو الممر الذي تردّد إليه الأخطل الصغير أكثر مما تردّد إلى أي ممرّ آخر، ولدرجة الظن أحيانًا أنه لم يتردد إلى سواه، لأنه أجاد وصفه كما لم يجد وصف سواه، ولأن ما بقي منه، ومن شعره، أكثر ما بقي، هو عبق هذا الممرّ وياسمينه وورده وشوكه وبقية أشياء الجمال فيه!.

 

 

جهاد فاضل 





 





حلب في 12 / 10 / 1935 (بفندق بارون) الاحتفال بألفية المتنبي ويبدو في الصف الأول من اليسار: عمر أبو ريشة، محمد سعيد الزعيم، الاخطل الصغير، أنطوان حامض، مصطفى سالم، وفي الصف الثاني سعيد فريحة ومجموعة من أدباء حلب





رفيقا الكلمة والنغم، الاخطل وإلى يساره محمد عبد الوهاب