أسود الزبد ومرآة المثقف الهامشي

أسود الزبد ومرآة المثقف الهامشي

ماذا يحدث عندما يكوّن العامة من السفلة والرعاع دولة خاصة بهم؟ ماذا لو استغلوا ساحة النبذ والإقصاء المفروضة عليهم ليفرضوا سطوتهم على الناس؟!

على الرغم من هيبة الدولة وسطوتها، فإن ما يرويه لنا التوحيدي في الإمتاع حول محلات العامة والفقراء، يقدم لنا صورة مختلفة ومثيرة للدهشة والانتباه! ذلك أن العامة، قد كونوا دولة خاصة بهم داخل الدولة، وكانت رئاستها وزعامتها للعيارين المشهورين الذين كانوا يتزعمون الناس ويقضون في أمورهم ويحققون مصالحهم ويحمون أمنهم وسلامتهم! وكان الناس بدورهم يشكلون سياجا وقائيا لحماية هؤلاء الشطار والعيارين، وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، إذ اعتبروهم أبطالهم الأسطوريين الذين يحققون حلم الانتصار على السادة وإذلالهم، ولو عبر الحكايات الخيالية!

ووصل الأمر إلى حد أن كون بعض هؤلاء العيارين المشهورين عصبيات مذهبية، فعلى سبيل المثال، انقسم الناس بين فضل ومرعوش، وكانا من سقط الناس وسفلتهم، في ما يقول التوحيدي، ولهجوا لهما، وتعصبوا لهما حتى صار الناس (العامة) جميعا في بغداد، إما فضليا أو مرعوشيا.

قاضي القضاة

يروي لنا التوحيدي نادرة لها دلالتها الرمزية الواضحة في هذا السياق حول أن معروف قاضي القضاة، حين كان مجتازا الباب، فتعلق المجان من العيارين بلجام بغلته، وسألوه إن كان فضليا أم مرعوشيا، فتحير في الجواب خوفا من العاقبة، ووجد أن الحل في الجواب الرفيق، فسأل من معه (الحراني) في أي محلة نحن؟ فقال له محلة مرعوش. فقال القاضي ردا على العيارين: كذلك نحن من أصحاب محلتنا لا نختار على اختيارهم، ولا نتميز فيهم، فقال العيار: امش أيها القاضي في ستر الله، مثلك من تعصب للجيران!

وهكذا ينقلب التراتب، وتتبدى لنا مكامن التهديد الذي يشكله هؤلاء العامة والأسافل على الخاصة بكل مستوياتها وتجلياتها! وتبرز لنا هذه النادرة مدى سطوة هؤلاء وخطورتهم داخل فضاءاتهم المعزولة عن السلطة، والمنفلتة تماما من قبضتها وقوانينها! بل إنها تومئ مشيرة إلى خطورة التعصب المذهبي، وما ينجم عنه من صراعات تساعد على إذكاء الفتن والثورات، خاصة في ظل خلافة كرست بصورة أو بأخرى للانقسام المذهبي، وأمراء بويهيين شيعيي الهوى فرضوا سطوتهم على الخلافة السنية وحاصروها بكل الوسائل القمعية الممكنة! لقد وعى المثقفون خطورة العامة، وخطورة المواقع الاجتماعية المستقلة والخاصة بهم في توليد خطاب مستتر يعبر عن تجربتهم المشتركة حين يعانون المذلة نفسها والفقر والحاجة الهاتكة، ويكونون عرضة لأساليب السيطرة والقمع ذاتها، إذ يسعون إلى خلق خطاب مشترك حول الكرامة والعدل والرفض والتمرد، ويمتلكون مصلحة مشتركة في إخفائه بعيدا في حيز آمن نسبيا عن رقابة السلطة وأصحاب السيطرة! بل لعلهم وعوا خطورة تراكم ممارسات القمع السلطوي، وسوء الأوضاع المتردية والفاسدة ودورها في نمو هذا الخطاب المستتر، وتراكم ممارساته المتنوعة إلى أن يصل في لحظة، غير متوقعة إلى الانفجار واندلاع الفتنة والثورة! ولقد آمن المثقفون بأن فتن العامة وثوراتهم تتسم بالفجائية والغفلية وعدم التنظيم، نتاج جهل هؤلاء الرعاع وهمجيتهم وتعصباتهم العمياء، وهنا تكمن خطورتها، وصعوبة السيطرة عليها، ولذا وجب الحذر والتحوط لكي لا تصل الأمور إلى هذا الحد، وتقمع الفتنة في مهدها!

القمع المراوغ

إن هذا الخطاب الثقافي على الرغم من وعيه بخطورة القمع السلطوي، وضغط الأوضاع الفاسدة والمتردية على الرعية، وما ينجم عن هذا كله من كوارث لابد من تداركها، بإصلاح الأوضاع، وعدل السلطة وحكمتها ورحمتها، فإنه خطاب، معضد للمفهوم السلطوي ومروج لمفاهيمه الأساسية، بل لعله يرسم استراتيجية قمعية أخرى لكنها مراوغة ناعمة منسوجة من خيوط حريرية لا تنقطع، على الرغم من ملمسها الناعم الرقيق. وها هم المثقفون الكبار، من أمثال ابن المقفع والجاحظ، يجسدون هذه المسألة خير تجسيد.

يقدم ابن المقفع العامة بوصفهم حشدا هلاميا، وخليطا عديم الملامح، جمهرة سائبة، فاسدة متزرة، عاجزة عن الإنصاف، ترد على القسوة بالهياج، وعلى الرقة بالاستبداد.

أما الجاحظ فإنه يقول في كتابه الحيوان:

«فإذا ظهرت للجراد أجنحته صار أحمر إلى الغبرة، فهو الغوغاء ولذلك يستقل ويموج بعضه في بعض، ولا يتوجه جهة، ولذلك يقال لرعاع الناس غوغاء».

وهكذا ينظر المثقفون للعامة بوصفهم سديما على شاكلة سحابة الجراد، الأفراد داخله مجرد عينات مستنسخة من الكل، فاقدة للتميز أو الخصوصية، أو الحرية والإرادة، أو القدرة على الفهم والتواصل الحقيقي المتبادل.

ولسنا في حاجة إلى إعادة الحديث عن استناد هذا التراتب الهيراركي إلى النظام الطبيعي والإلهي والأخلاقي المثالي. إن ما يعنينا هنا على وجه الخصوص هي تلك الأوصاف المتكررة لهذا الحشد بالهياج والتموج والاضطراب أو الرجرجة كما وصفهم التوحيدي قائلا (إنهم رجرجة بين الناس) والكلمة تعني كذلك ضعفاء الناس، وشرارهم ورعاعهم والذين لا عقل لهم من الحمقى والجهال. فضلا عن وصف الجراد الهائج الذي لا يبقي ولا يذر إذا ما انتشر مدمرا الزرع والضرع. هذه الأوصاف تشي جميعها بالخطر أو التهديد الذي يمثله هؤلاء العامة بالنسبة لكل طبقات المجتمع أو من يصوغون المتن الاجتماعي الرسمي المستبعد لهؤلاء الغوغاء. أي أن هذه المبالغة في الاستهانة والاحتقار، تضمر في أعماقها وثناياها كما هائلا من الخوف والتوجس والتربص والقلق والتوتر إزاء هؤلاء الدهماء الذين لا يمكن التنبؤ بردود أفعالهم تجاه أي ضغط يمارس عليهم أو إقصاء لهم أو ظلم واستبداد يطولهم، بل حتى رقة ورحمة تبسط لهم.

من الواضح لدينا في هذا الصدد، مدى سوء الفهم، بل عدمه الذي قد يعانيه المثقفون بل النخبة الحاكمة إزاء هذه التفجرات الفجائية الغفلية للعامة، إذ يتصورونها مجرد تفجرات عشوائية تدل على انعدام التنظيم السياسي لدى العامة والبسطاء. ترى هل هذا صحيح بإطلاقه، ألا يمكن أن تكون هذه الأشكال الفجائية الغفلية أحد تجليات الحكمة الشعبية التكتيكية في مواجهة أشكال القمع السلطوي ومداهمته، بل مباغتته بما يهز أركانه، ولا يسمح له بالتدبر والروية في المواجهة؟! إنها حالة من حالات خلق الخلل والاضطراب داخل فضاء التوازن السلطوي الوهمي، وكونها ممارسة غفلية الطابع، فإن هذا يقلل من أثر العقاب وخسائره مهما كان عنيفا قاسيا! بل قد تواجه السلطة الفتنة بطريقة لايتوقعها أحد تحقق النتائج المطلوبة والمرجوة، حين تدرك عبر وقع الصدمة خطورة الإفراط في المزيد من القمع. وأيا كانت مساحات الفهم أو عدمه بين النخبة بجميع مستوياتها، والعامة الرعاع، فإن هؤلاء الحمقى الضعاف الجهال المتعصبين شكلوا إمكانا دائما لإثارة الشغب، وخلخلة الأوضاع في عمق النظام القائم والتراتب المستقر بمستوياته المختلفة، أي أنهم مثلوا تهديدا حقيقيا وواضحا له.

عندما ينهار السد

من المثير للانتباه حقا أنه كلما زاد القمع وتعددت ضروب المذلة والإهانة والإحباط اليومي كان هذا دفعا نحو المواجهة العلنية السافرة أو انهيار السد، أي أن الأنظمة الأشد قمعية هي الأكثر تعرضا لأعنف تعبير عن الغضب. ويفسر لنا جيمس سكوت هذه المسألة تفسيرا مهما لافتا، حيث يرى أن الخضوع والإذعان الإكراهي، لا ينبئ عن استسلام حقيقي أو اقتناع فعلي بل إنه نتاج الخوف من العقاب والرقابة المهددة. ويؤدي التهديد الشديد إلى رد فعل عكسي حيث ينمو خلف قناع الخضوع التمرد والمخالفة وليس العكس، وكأن الإكراه يحصن الخاضع ظاهريا ضد الإذعان المنشود ويولد لديه الرغبة العارمة في التمرد العنيف. وسواء كانت هذه المواجهات أو أعمال التحدي والعنف المعلنة التي يمارسها المقموعون مدبرة ومنظمة أو عفوية وغير مدروسة، وسواء كانت نتاج تراكم طويل لتراث مكتوم مستتر مقاوم للسلطة بأشكال متخفية ومراوغة، أو نتاج رقابة صارمة حالت دون نمو هذا التراث المكتوم وتراكمه، بل عزلت المحكومين بعضهم عن بعض، وحرمتهم إمكانات التفاعل والتواطؤ، فإن ميدان تفجر التحدي العلني سيغدو دوما الميدان الأكثر براحا وحرية لاتصال المحكومين بعضهم ببعض اتصالا حقيقيا مؤثرا. بل إن هذا الميدان سيغدو مساحة يكتشف عبرها كل من القامع والمقموع طاقاته الحقة وإمكاناته المضمرة عبر بلوغ الصراع بينهما ذروته، وتوتره ما بين تجاوز المقموع لكل الحدود وانتهاكه لكل المعايير والقوانين والقيم من ناحية، وعنف الرد السلطوي وأشكال الردع والعقاب شديدة العنف والقسوة والصرامة، من ناحية أخرى.

وما يعنينا ويسترعي انتباهنا هو ما رواه التوحيدي في ختام حديث له عن إحدى الفتن، حيث يحكي لنا غريبة من غرائبها بناء على طلب الوزير الذي يسأله هل سمعت أيام الفتنة بغريبة؟

ولعل سؤال الوزير يسعى لإعادة الأمور إلى نصابها بينه وبين محدثيه، حيث توحي صيغة السؤال وطبيعة المطلوب بالدور المسموح به والمناسب للتوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، رواية الغرائب والعجائب والنوادر!

أما رد التوحيدي، فقد أتى على النحو التالي:

«قلت: كل ما كنا فيه، كان غريبًا بديعًا، عجيبًا شنيعًا حصل لنا من العيارين القواد، وأشهرهم أبو الدود، وأبو الذباب، وأسود الزبد، وأبو الأرضة، وأبو النوابح، وشنت الغارة، واتصل النهب وتوالى الحريق حتى لم يصل إلينا الماء من دجلة... فمن غريب ما جرى أن أسود الزبد كان عبدًا يأوي إلى قنطرة الزبد، ويلتقط النوى، ويستطعم من حضر ذلك المكان بلهو ولعب، وهو عريان لا يتوارى إلا بخرقة، ولا يؤبه له، ولا يبالى به، ومضى على هذا دهرا فلما حلت النعرة، أعني لما وقعت الفتنة، وفشا الهرج والمرج، ورأى هذا الأسود من هو أضعف منه قد أخذ السيف وأعمله، طلب سيفًا وشحذه ونهب وأغار وسلب، وظهر منه شيطان في مسك إنسان، وصبح وجهه وعذب لفظه، وحسن جسمه، وعُشِق وعشق، والأيام تأتي بالغرائب والعجائب...، فلما دعي قائدًا وأطاعه رجال وأعطاهم، وفرق فيهم، وطلب الرئاسة عليهم، صار جانبه لا يرام، وحماه لا يضام، مما ظهر من حسن خلقه مع شره ولعنته وسفكه للدم وهتكه للحرمة وركوبه للفاحشة، وتمرده على ربه القادر، ومالكه القاهر أنه اشترى جارية كانت في النخاسين عند الموصلي بألف دينار وكانت حسناء جميلة، فلما حصلت عنده حاول منها حاجته، فامتنعت عليه، فقال لها: ما تكرهين مني؟ قالت: أكرهك كما أنت. فقال: فما تحبين؟ قالت: أن تبيعني، قال لها: أو خير من ذلك أعتقك وأهب لك ألف دينار؟ قالت: نعم، فاعتقها وأعطاها ألف دينار بحضرة القاضي ابن الدقاق عند مسجد ابن رغبان، فعجب الناس من نفسه وهمته وسماحته، ومن صبره على كلامها، وترك مكافأتها على كراهتها، فلو قتلها ما كان أتى ما ليس من فعله مثلها! قال الوزير: هذا والله طريف، فما كان آخر أمره؟ قلت: صار في جانب أبي أحمد الموسوي وحماه ثم سير إلى الشام، فهلك بها».

ولعل أول ما يلفتنا في هذه الحكاية الغرائبية هو أسماء العيارين القواد أبو الدود،

وأبو الذباب وأبو الأرضة، وأبو النوابح، وهو ما يذكرنا بحديث إخوان الصفا حول الحشرات والهوام الضعيفة التي تهدد دعة الملك، وتكدر هناء وصفو استقراره وراحته! ولاندري من الذي أطلق هذه الأسماء عليهم، أهم أطلقوها على أنفسهم كنوع من التلاعب بالمعنى، الإرهاص بالاسم الدال على نقيضه من حيث المعنى، على عادة العرب حيث كانت تسمى المرأة شديدة الجمال بقبيحة، على سبيل المثال! وبالتالي تعني هذه الأسماء القوة الطاغية والغاشمة والخطورة المهددة، خاصة أن هذه الحشرات كلها حشرات مفسدة ومؤذية، أم تراها أطلقها عليهم أعوانهم، أو العامة والرعاع بما يؤدي الغرض

نفسه، أم أطلقها عليهم أعداؤهم من العيارين والشطار الآخرين، تدليلا على الصفة الغالبة لكل منهم!

أخطار الهامشية

وربما كانت هى أسماء أطلقتها السلطة للتقليل من شأنهم والتحقير من حضورهم وتأثيرهم ونفي إمكانات الخطر والتهديد من قبلهم إزاءها! على أي حال، أيًا كان من أطلق هذه الألقاب عليهم، فإنها ألقاب احتملت إمكانات التأويل المتعارضة ما بين الهامشية والضعف، والخطورة والتهديد المضمر المباغت الذي يأتي من حيث لا ينتظر ولا يتوقع، وهو أعنف أنواع التهديد الذي تخشاه أي سلطة. أما صفة الأبوة المتكررة، فتوحي بطبيعة علاقة هؤلاء العيارين برعاياهم، وهي العلاقة التي فشلت السلطة الحاكمة في تحقيقها للرعية! ولعل هذا يفسر لنا لماذا استطاع هؤلاء تحقيق هذا الوجود، وجذب هؤلاء الأتباع الكثيرين كثرة الدود والذباب والأرضة والنوابح.

وربما لو توقفنا عند هذه الأسماء باحثين عن أصول المسألة لاكتشفنا أشياء مدهشة، منها مثلًا طبيعة الدور المنوط بكل عيار من هؤلاء بأتباعه في زمن الفتنة، وكأنها جماعات تدعم بعضها بعضًا في صياغة الحدث الذي ربما كان مرتبًا ومعدًا له أكثر مما نتصور.

أما الملحوظة الثانية اللافتة، فهي كيف أحدثت الفتنة تحولًا حادًا في طبيعة العامة والرعاع، الذين قال عنهم السجستاني في أحد السياقات إنهم يعمرون هذه الدنيا ويخرجون الغريق ويطفئون الحريق، ويؤنسون الطريق. وها هم يتبعون قوادهم العيارين فيشنون الغارات وينهبون الممتلكات ويحرقون كل ما يقابلهم. وتنضح هذه المقدمة بالتهديد والإنذار بما يمكن أن تسببه الفتنة، وتشعله، بل بما يمتلك العامة من طاقات وإمكانات واستقلال قيادي عن الدولة تمكنهم من تدمير أمانها وزعزعة دعائم سيطرتها واستقرارها. إنهم الكثرة التي لا بديل لديها عن الانسحاق الكامل إلا التمرد العشوائي الذي لا يسهل مواجهته أو السيطرة عليه.

وننتقل إلى حديث أسود الزبد لنواجه حالة كاريزمية يستعصي فهمها على المثقف العقلاني الهامشي. إن أسود الزبد الذي يجسد هامش الهامش الاجتماعي، العبد الأسود القبيح، العاري من كل أشكال الدعم الاجتماعي، بل الإنساني، فهو يكاد يشبه القرد الذي يلعب ويلهو ليسلي الحاضرين للقنطرة، ملتقطًا النوى يشبع به جوعه ويسد به رمقه عاريا لا يتوارى إلا بخرقة! وفجأة حين فشا الهرج والمرج، أي اختل النظام وانهدم التراتب القائم بحيث امتلك الضعفاء من العامة السيوف، لا ليدافعوا عن أنفسهم، بل ليخترقوا ثغرات النظام، ويعملوا سيوفهم في جسد القمع، ينتزعون منه كل ما حرمهم منه بالقوة والعنف والبغي. بعبارة أخرى، حين توهج طغيان الحشد في وجه طغيان السلطة، إذا الفضاء مساحة متاحة وخصبة للفوضى والاضطراب، وقلة التراتب، وانتهاك جميع المعايير، والإتيان بما لا يتوقع ولا ينتظر، ومن أضعف الحلقات الاجتماعية وأقلها خطرًا، من لا يؤبه لهم، ولا يبالي بهم أحد.

المثقف العياري

ترى ما هو هذا الشيء الذي حار إزاءه الراوي المثقف المعياري؟!

يرى علماء الاجتماع أن المرء لا يملك من الكاريزما إلا ما يضفيه عليه الآخرون، أو لنقل إن ما فعله أسود الزبد كتب له منذ زمن طويل في إطار التراث المكتوم لهؤلاء الرعاع المقموعين. فقد فعل أسود الزبد ما كان يتمنى هؤلاء جميعًا أن يفعلوه منذ زمن بعيد، فهم بصدق تام يرون أنفسهم في انتهاكاته المتنوعة، وهو بصدق تام يعبر عما يريده هؤلاء! ولعل هامشية أسود الزبد المضاعفة لعبت دورًا مؤثرًا في صناعة كاريزميته بل تحوله لأسطورة ومثال يتطلع إليه كقائد مغوار حام للجماعة، متمرد على ربه القادر، ومالكه القاهر! أي تحد مباغت، وانتهاك مفاجئ مارسه هذا المهمش الذي كان مقصيًا من كل الفضاءات الإنسانية والاجتماعية، فعاد اليوم مركزًا، وحضورا ملء السمع والبصر، بل تهديدا وخطرًا وحماية في آن.

إن الراوي نفسه لا ينفي إعجابه بهذا العبد، ولعله يرى حلمه المستحيل متكشفا عبر مراياه، ولعله كان يبهره إبهار الشر والقبح الساحر المغوي بوصفه انفلاتا صارخًا خارج كل أشكال النظام ومعاييره وقوانينه، بينما يزرح المثقف معانيًا تحت وطأة كل هذه المعايير، ولايقبض على شيء غير العبث والخواء. وحين يذكر التوحيدي حادثة أسود الزبد مع الجارية الحسناء يبرز نخوة وشهامة ورجولة هذا العبد الذي ينتهك كل القوانين الأخلاقية والدينية، لكنه لا يرضى على نفسه اغتصاب جارية، ملك يمينه اشتراها بماله وله حق التصرف فيها كما يشاء، لأنها ترفضه وتتمنع عليه، بل إن الجارية تتمادى، فتعلن كراهيتها له، ورغبتها في أن يبيعها، فإذا به، وبدلًا من قتلها، وما كان يلام من هو مثله على هذه الفعلة، يعتقها ويهبها ألف دينار كريمًا متسامحًا معها!

ترى إلى ماذا كان يلمح التوحيدي أو يشير؟ هل تراه كان يعرض بممارسات السادة الوجهاء ساكني القصور أصحاب السطوة والنفوذ والأصول الشريفة، والذين كانوا لا يطاولون هذا العبد في سلوكه إزاء الجارية، وكانوا يسمحون لأنفسهم بفعال منحطة إزاء جواريهم وإمائهم!؟ أم تراه كان يسعى لإبراز إمكان وجود الخير والمروءة والسماحة في داخل الإنسان، مهما كانت هويته أو سلوكياته المنحطة؟ وأن كل إنسان هو مجموعة هائلة من التناقضات، لهذا لا يعلو أحد بعرقه أو نسبه أو شرفه أو ماله أو نفوذه وسلطته على أحد، لأننا جميعًا ننطوي على هذه التناقضات ونعانيها؟! وهو الأمر الذي ينحو نحو تأسيس مفهوم جديد لماهية الإنسانية وفقًا لمعايير جديدة ومختلفة عما هو سائد؟! ولعله كان يلمح إلى أن تهديد الهامش لا يتأتى إلا من قبل هامش آخر نقيض ومشابه في آن، فلم يرفض العبد إلا الجارية لكنه لم يتسامح بدوره مع غيرها ؛ ترى ما دلالة هذا الخطاب لدى المستمع السلطوي؟!

على أي حال، أيًا كانت دلالة هذه الحكاية في هذا السياق، فإن حديث التوحيدي ككل عن أسود الزبد، يطرح علينا علاقة ملتبسة مليئة بالتناقض ما بين المثقف الهامشي المقموع، الذي لا يكف عن مراوغة السلطة بشتى الوسائل، مستجديًا عطفها ورضاها، مضمرًا احتقارها وازدراء جهلها وحماقتها، من ناحية، وبين العيار الشيطان المتمرد الذي حقق ذاته وحضوره في لحظة عبثية وبطريقة مباغتة، وعبر انتهاك كل المعايير التي سعى المثقف لحمايتها وتكريسها وتوسل بها لتحقق له هدفه الذي لم يتحقق أبدًا، من ناحية أخرى؟! إنها علاقة لافتة تجمع بين الانبهار والإعجاب والاندهاش، والإنكار والرفض والاحتقار في آن! ولعلها الصدمة، صدمة تدمير المعايير والصياغات المثالية حول صناعة القائد والراعي الكاريزمي. ولعل السؤال الذي يحدونا الآن يدور حول الصياغة المثالية للحاكم الراعي من قبل المثقفين، هل كانت تعبر عن مطالب الرعية من العامة والدهماء، أم أنها كانت مجرد أضغاث أحلام عاناها المثقفون الذين لم يستطيعوا قط أن يكونوا كأسود الزبد العيار، الذي قاد العامة، وحقق لهم ما كانوا يريدونه، وتمتع بما كان يتمناه، حتى أنه امتلك ترف المروءة والشهامة والتسامح مع الجارية الحسناء التي أعتقها ومنحها ألف دينار، على الرغم من تمنعها عليه وكرهها له!

وبينما رأى الوزير الحكاية كلها طرفة لطيفة، أنهى التوحيدي حديثه ذاكرًا خاتمة أمر أسود الزبد ردًا على سؤال الوزير عن آخرة أمره، بإعلانه هلاك الرجل ونهايته القاسية في الشام! ولعلها النهاية الحتمية لمن قرر أن يكون أسطورة تنتهك كل القوانين وتحصل على كل ما تريده بالقوة والوضوح الباهر، لا بالالتفاف والمراوغة والتقية..إلخ!.

 

 

هالة فؤاد