زواج الأقارب في الأسرة العربية أمينة شفيق

في أكثر من مؤتمر طبي، أثير وبحث موضوع زواج الأقارب لم يعد هذا الموضوع موضوعا خاصا، يخص الأسرة أو الأفراد فحسب بل بات من الموضوعات التي تهم المجتمع ككل، لما له من نتائج على الكيان الإنساني في كل مجتمع. قيل في المؤتمرات الطبية إن لزواج الأقارب نتائج غير إيجابية على الصحة الجسمانية والفنسية والعقلية للأطفال يولدون من هذه الزيجات. في هذا العدد من البيت العربي تنطلق دوعة للحد من هذه الزيجات. تناقش الدعوة أساسها الاجتماعي ووسائل مواجهتها. ثم تدعم هذه الدعوة بمقال عن زواج الأقارب في النباتات، يدعم الأفكار ويلقي الضوء على أن التلقيح الخلطي الذي يساوي زواج الأباعد يعطي ثماراً أقوى زوهوراً أجمل حتى في عالم النبات، يحقق زواج الأباعد كل الإيجابيات. فهل نبدأ الآن بالإنسان.

لاتزال الأسرة العربية تتبع عادة زواج الأقارب.

مازلنا إلى الآن، نرحب ونفرح عندما يتزوج أبناؤنا من بنات أعمامهم أو عماتهم أو بنات أخوالهم أو خلاتهم. لا تزال هذه العادة سارية، وتلقي كاالترحيب والتشجيع.

في كل الأسر العربية ينشأ الأبناء والبنات وهم يعلمون أن في إمكانهم وفي استطاعتهم، عرفا وقانونا وشرعا، أن يتزوجوا من أقاربهم سواء كانوا من أقارب الوالد أو الوالدة. ويزداد الترحيب إذا كان الوالدان في الأساس أقارب. لا نمانع عادة في استمرار التزواج في إطار الأسر، بل عادة ما نشجعه.

نشجع هذا الاتجاه، ربما لعدة أسباب:

منها، أننا نفضل دائما الذين نعرفهم عن قرب خاصة إذا تجسد هذا القرب في علاقة قرابة واضحة. لا شك أن الواد يشعر بدرجة عالية من الاطمئنان عندما يزوج ابنته من ابن أخيه أو ابن أخته. لأن ابن العم أو ابن العمة سيحافظ عليها أكثر من الغريب. لأنها، كما يقولون، من لحمة ودمة. وفي بعض الأحيان يقولون "إن الظفر لا يخرج من اللحم". ويؤكد المنطق، ي هذه الحالات، أن الزوج يكون قريبا من عادات أسرة الزوجة وكذلك من تقاليدها. لذا لن يحتاج الزيجة إلى فترة انتقال يتقارب فيها الزوجان أو يتوافقان لكي يسهل اندماجهما في بيت واحد وحياة واحدة.

منها كذلك، أن بعض الأسر العربية تهدف من زواج الأقارب إلى تركيز الثروة وعدم بعثرتها. في حالة الأسر الغنية يحقق هذا النوع من الزواج الاحتفاظ بالثروة داخل الأسرة، سواء كانت حركة الثروة أصولاً إنتاجية أو مالا سائلاً أو مالا تجاريا. وتزداد هذه الظاهرة تبلورا عندما تكون الأسرة من طبقة ملاك الأراضي الزراعية.

ومنها، أن الأسر العربية بشكل عام لا تزال تعيش في دائرة علاقات شيقة غير مترامية بحيث لا تتسع فرص التقاء الشباب أو تعرفهم على عناصر شبابية أخرى ملائمة للزواج. في هذه الحالات تدور العلاقات في إطار التكوينات الأسرية الضيقة ولا تصل إلى حدود المجتمع الكبير.

ومنها، أننا لا نزال نعيش في مجتمعات لم تشاهد خروج الفتاة إلى العلم وإلى العمل إلا خلال عقود زمنية قريبة. قبل عدة عقود، لم يكن متاحا للفتاة العربية فرص الاختلاط العام، وكانت تعيش في دائرة شبه مغلقة. في إطار هذه الدائرة شبه المغلقة لم يكن يتوافر لها من فرص للزواج إلا في حدود الأقارب.

منها أيضاً أن التقاليد التي لا تزال الغالبية العظمى من أسرنا العربية تسير عليها لا تسمح بتكوين أو إنشاء علاقات واسعة سوية بين الشباب. تلك العلاقات العادية التي تنتج فرص اللقاءات العادية التي يتم فيها التعاون والحديث والتفاهم. فالأسرة العربية لا تزال تحتفظ بوجود موانع كثيرة للقاء الشباب. لذا نجد الأبناء والبنات لا يتعرفون إلا على أقاربهم الذين تتاح لهم فرص الحديث معهم والحوار بينهم ثم اللقاءات. وتستمر هذه اللقاءات وتتعدد إلى أن نقود إلى الزواج من الأقارب.

لذلك تتكرر زيجات الأقارب في مجتمعاتنا.

وهي عادات لا ترتبط بالأديان لكنها ترتبط بالمجتمع ذاته وتطوره ورسوخ نسق قيمي فيه. في مجتمعاتنا العربية حيث يتعايش المسلمون مع المسيحيين نجد زيجات الأقارب تعم في صفوف اتباع العقيتين المسلمة والمسيحية في حين أن بلدان أوربا مثلا حيث يوجد المسيحيون، لا توجد أي من هذه العلاقات الزوجية.

لقد منعت بلدان عديدة زواج الأقارب. قنن المنع بهدف واحد وهو الحفاظ على قدرات صحية أعلى للإنسان سواء كانت جسمانية أو نفسية أو عملية وتجنبا لحالات التخلف أو الإعاقة. في بلدان أوربا بنشأ أبناء العمومة أو الخؤولة على أنهم إخوة وأخوات. ينظرون غلى بعضهم البعض على أنهم سيستمرون إخوة إلى الأبد وأنهم لن يرتبطوا بالزواج.

قنن هذا المنع وأصبح عرفا وتقليدا على أساس قاعدة عملية بسيطة للغاية، تتلخص في أن جينات الإنسان تحمل صفات متنحية أي ضعيفة وأخرى قوية. وأن الإنجاب الناتج من زواج الأقارب يتيح فرصة أوسع لسيادة الصفات الضعيفة على الصفات القوية. لذلك يتعرض الجنين لفرض أوسع للإصابة بإعاقة أو تخلف. قد تأخذ شكل ضعف سمع أو بصر أو قدرات جسمانية هزيلة أو درجة ذكاء ضعيفة أو عاهة طبيعية أو درجة من التخلف العقلي.

لا يعني ذلك أن الأبناء المولودين من أبوين تربطهما علاقة قرابة هم فقط الذين يولدون بحالات الإعاقة أو التخلف هذه. بل توجد هذه الحالات في الأبناء الآخرين الذين يولدون من أبوين متباعدين من ناحية القاربة، لكن زواج الأقارب يحقق فرصا أوسع لظهور هذه الحالات. ومع تكرار زواج الأقارب في الأسرة الواحدة ترتفع نسبه الإعاقة بأشكالها المتعددة والمتباينة والمختلفة.

التطور وتراجع النسب

من المؤكد أن هذه الحقائق لم تكن معروفة بهذا الوضوح في مجتمعنا العربي منذ زمن بعيد. الذي أوصلنا غلى التعرف عليها هو التطور العام الذي لحق بمجتمعاتنا أولا وبالتالي بأسرنا. وهو تطور لحق بجميع أوج حياتنا الاقتصادية والاجتماعية، والصحية كذلك. يعيش المجتمع العربي اليوم مرحلة تطور أرقى من تلك التي عاشها منذ خمسين عاما مضت. لقد تعرض الإنسان العربي إلى درجة انفتاح عام، انعكس على علاقاته وتصرفاته، كنا انعكس على مدخله وأسلوبه في انتقام الزوجة أو الزوج يمكننا القول إن زيجات الأقارب قد قلت عما كانت عليه في مراحل تاريخية سابقة إلا أنها لا تزال تتم بنسب وبأعداد تلفت النظر. فاستمرار الإنسان ضمن أطر العلاقات الريفية أو القبلية يدفع به ويشجعه على تكرار وممارسة هذا النوع من الزواج. لكن عندما يحدث التطور ويندفع الوضع الاقتصادي الاجتماعي وتتنوع الأنشطة وتتغير المفاهيم التي تشبه الشوابت في رسوخها وتنفتح العلاقات وينضم البشر إلى الحياة التعليمية والعملية ويحدث الاحتكاك بين المواطنين تهتز هذه الثوابت التي يأتي ضمنها الزواج من الأقارب.

كما أنه من المؤكد أن التغييرات التي تحدث في أوضاع وأحوال الفتاة العربية والتي تنقلها من مجرد أنثى في المنزل لا تتحرك منه ولا تغادر أبوابه، إلى مواطنه تتلقى التعليم وتحصل على فرص العمل، تقود إلى تغير مفاهيم عديدة لدى الأسرة العربية وتجلعها تغير من توجهها نحو زواج بناتها. وبدل أن ينحصر اختيارها لزوجها في حدود الأقارب، تتيح وتترك لها فرصة الاختيار الأوسع والأعم.

وقد نلاحظ ذلك التطور في سريانه في العواصم الكبيرة، حيث تزداد يوماً بعد يوم أعداد الشباب المتعلم من ذكور وإناث وكذلك يزداد عدد العاملين المنتجين، في هذه العواصم وفي ظل هذه الظروف تقل نسب زواجد الأقارب وتتسع نسب زواج الأباعد. وهو زواج مبني على الاختيار الأنسب لاثنين فقط وبعيداً عن فكرة مركزة الثورة أو الانغلاق على المكانة الموروثة للأسرة.

هل نطالب بالمنع القانوني؟

في ظل الأوضاع العربية الحالية التي لا تزال في طور التطور والتقدم والتي لا تزال تحمل ملمحا أساسيا للعلاقات الزراعية والقبلية، هل يمكنا مطالبة الدول والحكومات بسن قانون يمنع زيجات الأقارب، أو في الحد الأدنى، يضع شروطا لها؟ مثلا، هل يمكن سن قانون بمنع زواج أبناء العمومة والخؤولة، تاركا الفرصة للزيجات ذات الصلات البعيدة وغير المباشرة؟

قد يكون ذلك من الصعوبة بمكان لأننا لا نزال نعيش مراحل تطور هي في الأساس متخلفة وغير متطورة. لدينا الحضر المتطور والريف والبدو المتخلفان. لدينا شريحة من المتعلمين والمثقفين، وفي الوقت ذاته لدينا قاعدة واسعة من الأميين. لا يمكن لأي قانوان أو تشريع أن يأتي بالثمار المرجوة منه إلا إذا استند على قاعدة قابلة لتطبيقه وتنفيذه. وهذا ما حدث في البلدان التي سبقتنا ومنعت بالقانون زيجات الأقارب. كان لدى هذه البلدان القاعدة الشعبية المستجيبة للقانون لحظة صدوره.

لذلك، فالعبء، يقع أولا وأخيرا. والآن تحديدا على الأسرة العربية فإنها. على الأسرة العربية تقع مجموعة من المسئوليات.

من هذه المستوليات يأتي أولا مبدأ التمسك بتعليم الإناث ثم إعطاتهن فرصة واسعة للعمل. سيقود ذلك إلى إتاحة فرصة الاختلاط الطبيعي الذي يقود بدوره إلى الاختبار السليم الوقاع خارج حدود الأسرة.

من هذه المسئوليات يأتي مبدأ انفتاح الأسرة العربية ذاتها وخروجها من حالة الانغلاق الذي نعيش فيه. سيقود ذلك إلى إتاحة فرصة الاختلاط بين الأصدقاء والصديقات مما سيقود بدوره إلى تباعد فرص الزواج الناشئ عن العزالة الأسرية.

من هذه المسئوليات أيضا يأتي دور الأبوين في تنشئة الأبناء والبنات وبث روح الأخوة بينهم وبين أبناء أعمامهم أو أخواهلم وترسيخ فكرة الأخوة بينهم كبديل لفكرة الزواج.

ومنها أيضاً إعلاء شأن الإنسان كقدرات ذهنية وعملية كبديل لشأن الثروة والمال. بحيث يتم اختيار الزوجات أو الأزواج على اساس ما يمتلكون من إمكانات وما يمثلون من قيم وليس على أساس قدر ما يمتلكون من مال أو ثورة.

إن هذه الدعوة لا تعني بث الفرقة بين الأقارب بقدر ما تعني السعي بالإنسان العربي إلى حالة من الصحة الكاملة التي لا يعاني فيها من عاهة أو إعاقة. إنها دعوة لدفع التطور.

كما أنها دعوة يمكن أن تتبناها الجمعيات العلمية في بلداننا. تتبناها بالدراسة والشرح ومحاولة إقناع الأسر بها. ولاشك أنه في حالة تبني هذه الجمعيات لها فإنها ستكتسب أسساً اجتماعية جديدة ومقنعة للجميع. ويمكن بعد فترة زمنية أن تتحول إلى دعوة لسن تشريع بها، يطبق وينفذ.