اللغة العربية والصياغات الغربية

اللغة العربية والصياغات الغربية

سبق لأخي الدكتور جلال أمين أن أشار في مقال له إلى أنه "يكاد يكون الفهم الصحيح "لعبارات مؤلفينا في الاقتصاد والاجتماع" متوقفا على قدرة القارئ على إعادة العبارات إلى أصلها الأجنبي أولا". وأضيف هنا أنه ربما كانت لدى هؤلاء المؤلفين في الحقيقة رغبة لا شعورية في أن يتم هذا بالفعل "أى أن يرد القارئ العبارة إلى أصلها الأجنبي" للتغلب على الصعوبات التي تخلقها تلك الفوضى الشاملة في استخدامنا للمصطلحات والتعابير، وحتى يسهل على القارئ أن يفهم ما يقصدون.

غير أن الدكتور جلال أمين مبالغ في اعتقاده أنه "لا تفسير لهذه الظاهرة إلا في خضوع الكاتب لنوع من الانكسار النفسي أمام المؤلفات الأجنبية" ومخطئ في تغليظه التهمة التي يوجهها إلى هؤلاء الكتاب.

ذلك أنه من بين الأسباب الرئيسية لتفشي هذه الظاهرة، غير "الانكسار النفسي" ما نلمسه من ندرة اللغة الفصيحة بين مثقفينا، وضعف تمكنهم من العربية، نتيجة قلة إطلاعهم على كتب التراث، وانصرافهم عنها انصرافا يكاد يكون كليا إلى المؤلفات الأجنبية، أو مؤلفات عربية حديثة لأمثالهم من المثقفين غير المتمكنين من اللغة، ولو أنهم ألفوا أسلوب أمثال الجاحظ وأبي حيان التوحيدي وابن المقفع من أساطين اللغة، لسهل عليهم أن يجدوا ألفاظاً فصيحة، وقوالب رصينة الصوغ، لما يريدون التعبير عنه من أفكار، حتى الأفكار والمعاني المستحدثة التي يخالون العربية عاجزة عن التعبير عنها.

هذا التقصير ليس بوسعنا تبريره. غير أننا قد نلتمس لهؤلاء بعض الأعذار في مقام آخر.

فمشكلة مجابهة الحاجة المتزايدة إلى كلمات ومصطلحات وتعابير عربية جديدة ـ خاصة في المجالات العلمية والفنية ـ من أضخم مشكلات حياتنا الثقافية وأصعبها حلا. فمنذ تبني أقطار العالم العربي للعديد من عناصر الحضارة الغربية، ومشروع محمد علي في تنفيذ برامجه وإصلاحاته، وإيفاد طلبة العلم للدراسة في الخارج، وتأسيس المدارس على النمط الأوروبي، وظهور الصحف العربية، والنهوض بترجمة العديد من الكتب الأوربية، نشأت الحاجة لدينا إلى نحت تعابير وكلمات واصطلاحات تعبر عن حشد ضخم من الألفاظ الأجنبية، وإلى اختراع ألفاظ ندخلها في استعمالنا اللغوي لمسايرة التطور الحضاري.

تنقية العربية

وقد كان من الطبيعي أن نلمس في البداية ـ حتى عند أمثال الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي ـ إفراطا في استخدام الكلمات والتعابير الأجنبية كالتياترو والبوستة والبال والسبكتاكل والرسطورانات.. إلخ. حتى ظهرت في الشام جماعة تزعّمها إبراهيم اليازجي "1847 ـ 1906" تدعو إلى مبدأ تنقية العربية، وتعترف بالحاجة إلى التوسع في مفرداتها ومادتها اللغوية وطرائق التعبير بها، ولكن على أساس من الذخيرة الوافرة من الجذور والأشكال والكلمات في اللغة العربية ذاتها.ولاشك في أن جهودا ضخمة قد بذلت منذ ذلك الحين من أجل نحت الألفاظ والاصطلاحات والتعابير العربية الجديدة، ليس فقط من قِبل اللغويين والمجامع العلمية للغة العربية، وإنما أيضا من قبل المثقفين المشتغلين بالفروع المختلفة من العلوم. فمعظم المتخصصين في العلوم ومؤلفي الكتب فيها أو مترجميها، أدلوا بدلوهم بصدد تعريب المصطلحات، بحيث باتوا هم أنفسهم ـ إلى حد ما ـ لغويين خلاقين. وقد أضاف هؤلاء إلى المكتبة العربية قدرا كبيرا من المعاجم وكتب الاصطلاحات المتصلة بشتى العلوم والفنون، كمعجم أسماء النبات لأحمد عيسى، ومعجم الحيوان لأمين المعلوف، ومعجم الألفاظ الزراعية لمصطفى الشهابي، وقاموس العلوم الطبية لمحمد أشرف.. إلخ، وكلها تحوي اقتراحات طيبة، وتعتبر مساهمة مشكورة في استحداث المصطلحات.

ضعف التنسيق

أما عن السبب في أن نسبة بسيطة فحسب من الكلمات والاصطلاحات التي اقترحها هؤلاء هي التي قبلها الجمهور ودخلت الاستعمال العام، فلا يرجع إلى تقصير من الرواد، ولا إلى عجز منهم عن نحت ألفاظ عربية رصينة للتعبير عن مفاهيم غربية مستحدثة وإنما يرجع أساسا إلى ضعف أو انعدام التنسيق بين الجهود المبذولة في هذا الصدد، وفشل محاولات الهيئات الرسمية والمجامع العربية للغة في أقطارنا المختلفة لتوحيد الاصطلاحات، وتوفير قبول عام للألفاظ المستحدثة في الميادين الفنية والعلمية.. فكل من هذه الهيئات والمجامع يوصي بتبني كلمات وتعابير جديدة، ثم لا يسعى بعد ذلك سعيا جادا من أجل ضمان استخدام كل المتخصصين في هذه الميادين لها على مستوى العالم العربي، أو حتى على مستوى الدولة الواحدة. وبالتالي صار من الصعب التعبير عن الاصطلاحات المتخصصة في العلوم والتكنولوجيا بالعربية على نحو يفهمه كل المشتغلين بهذا الفرع من فروع المعرفة أو ذاك، وساد نوع من الفوضى والارتجال في استخدام التعابير المستحدثة. فإذا بنا نجد للشيء الواحد أو المفهوم الواحد تعابير كثيرة شتى، ونجد تعبيرا واحدا يعني أشياء أو مفاهيم مختلفة لأشخاص مختلفين.

فالحل هنا إذن إنما يكمن في تنسيق الجهود.. غير أنه من الواجب التنبيه إلى أن جهود الرواد يعيبها التركيز الكلي على الألفاظ المفردة دون الصياغات وطرائق التعبير التي تأثرت بالصياغات الغربية تأثرا رهيبا، فلغة مؤلفينا في الاقتصاد والاجتماع والعلوم المختلفة ـ بله لغة الصحافة والإذاعة ـ عليها مسحة غربية واضحة، سواء في صوغ القوالب، أو تركيب الجمل، أو طرائق التعبير والأسلوب، بسبب قلة نظرهم في كتب التراث.

 

حسين أحمد أمين