الميراث المر .. الأيديولوجيا العربية.. إلى أين؟ محمد الرميحي
الميراث المر .. الأيديولوجيا العربية.. إلى أين؟
حديث
الشهر قليلة هي الكتب التي تشبعك وتضيف إلى معلوماتك. وفي خضم هذه السيولة في الأفكار والمشارب السياسية والاجتماعية التي يشهدها وطننا العربي المضطرب، يظهر على السطح بين وقت وآخر عمل ثقافي لا يستطيع المرء أن يتجاوزه، مثل هذا العمل ما نحن بصدده في هذا الحديث وهو كتاب صدر بالإنجليزية لكاتب عربي، والكتاب عنوانه "الميراث المر.. الأيديولوجيا والسياسة في العالم العربي"، والكاتب هوالعربي اللبناني "بول سالم"، وقد نشر الكتاب في الولايات المتحدة سنة 1994م. يتصدى الكتاب لقضية مهمة، وهي دور الأيديولوجيا في الوطن العربي في القرن العشرين، أين نجحت وأين أخفقت. وتناول في هذا الإطار أربعة توجهات أيديولوجية تبناها بعض العرب، أو الحركات السياسية العربية، وهي أربعة من حيث الشمول والتأطير، ولكن في كل واحدة منها توجهات يتداخل فيها النور والظلال. وفقط لتحديد المنظور الشامل، فإن التوجهات الأربعة هي. القومية العربية، الأصولية الإسلامية، الماركسية، والقومية القطرية أو المناطقية. ويدرس الكاتب هذه التوجهات من منظور أعتقد أنه محايد، يسبر أغوارها وجذور نشأتها، وما حققته أو أخفقت في تحقيقه. ويقدم الكاتب كتابه ويذيله بفصلين أتصور أنهما زبدة الكتاب، إن صح التعبير، فهو يبدأ بفصل سماه: "عصر الأيديولوجيا العربية"، وينتهي بفصل هو"مستقبل الأيديولوجيا في العالم العربي". وفي الفصلين الأول والأخير محاولة للتنظير والإجابة عن أسئلة ما زالت عالقة في العقل السياسي العربي وهي: ما هو جدول أعمال العرب السياسي، وشكل تنظيماتهم المستقبلية وهم يدخلون القرن الواحد والعشرين؟ وهل يتعظ الجيل الجديد من العرب وهم يواجهون تحديات ضخمة، اقتصادية وسياسية، داخلية وخارجية، فيتجهون إلى البناء والتعاون أم يعيدون سيرة قرن كامل من الخلاف والنزاع والفرقة وتضييع الفرص؟. ما هي الأيديولوجيا؟ أحسب أن الكاتب قد حاول أن يفهم مسيرة العرب السياسية والاجتماعية في القرن العشرين، من منظور ما طرح ويطرح عالميا حول فكرة موت الأيديولوجيا واندثارها في البلدان والمجتمعات التي بنتها وروجت لمفاهيمها. فبين (موت الأيديولوجيا) و(نهاية التاريخ) يحاول الكاتب أن يؤصل فهما عربيا لهذه المصطلحات ولكنه - وهنا التناقض الذي لا يزال يؤرقنا - يكتب هذا التأصيل ويناقشه بلغة غير اللغة العربية وهي الإنجليزية! يحدثنا الكاتب عن مفهوم الأيديولوجيا والذي كان شيئا معروفا ولكنه غير مفسر لدى المفكرين السياسيين منذ الفكر اليوناني القديم مرورا بمفكرين أوربيين في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وكان وقتها يشار إلى أهمية الاعتقاد والأفكار في العمل السياسي. ولكن المصطلح حسم في أواخر القرن الثامن عشر من قبل المفكر الفرنسي (أنطوين دستوت دي تراسى) ولكن كارل ماركس هو الذي أخذه من فلسفة هيجل ودفع بمفهوم ومصطلح الأيديولوجيا إلى مكان الصدارة لاستخدام المثقفين والمهتمين بالعمل الفكري والسياسي. كارل ماركس استخدم مصطلح الأيديولوجيا تعبيرا عن الوعي الكاذب أو المزيف للجماعة الاجتماعية والناشئ من موقعها في علاقات الإنتاج. فكل طبقة - في رأيه - في المجتمع، أكانت صاحبة رأس المال أو العاملين الفقراء الذين يبيعون قوة عملهم، كل طبقة في المجتمع، لها عقائدها الفكرية، وهذه المصفوفة من العقائد والأفكار تستخدم لتأكيد موقعها في المجتمع، وتقنينه. إلا أن مفكرين مثل ماكس فيبر وجرامش، وهنري سوريل وآخرين طوروا هذا المفهوم الماركسي للأيديولوجيا، وأكدوا أن الأيديولوجيا أو منظومة الأفكار لها ديناميكية مستقلة عن الواقع المادي، وليست فقط انعكاسا مزيفا غير واقعي لذلك الواقع -كما ادعى ماركس- بل إنها إلى حد كبير تنتج نفسها وفي النهاية -كما قال جرامش- فإن الإنسان هو الفكرة، فالإنسان يتأثر بعمق بتوجهات (أيديولوجية) وثقافية تؤثر في العقل وتدفع الإنسان للقيام بنشاط في هذه الوجهة أو تلك. سوريل أصر على فكرة استقلالية ما يترتب على الأيديولوجية من إجراءات تشبه الخرافة من وجهة نظره (خرافة الإضراب العام مثلا لتأكيد التضامن الطبقي). وكارل مانهايم هو أول مفكر يطور نظرية خاصة بالأيديولوجيا، في حين أن المفكرين السابقين ناقشوها من جملة أفكار أخرى. كارل مانهايم طور كما هو معروف سوسيولوجيا المعرفة (علم اجتماع المعرفة) فتجاوز بذلك التاريخيين الألمان والماركسيين، وهو الذي حدد أن الأيديولوجيا (نظام أو مصفوفة من الأفكار المتداخلة والمبادئ والغايات لها علاقة وثيقة بالنشاط الاجتماعي والسياسي) مصفوفة أو نظام بمعنى أنها تعطي تصورا كاملا ومبسطا للموضوعات السياسية والاجتماعية عن طريق شرح الواقع من خلال اختزاله في مجموعة من الشعارات والنظريات والمعتقدات يفهمها رجل الشارع ببساطة ووضوح. مثلا الماركسية تختصر الظواهر الاجتماعية والاقتصادية المعقدة على أنها (صراع بين الطبقات). والقومية يمكنها أن تختصر ذلك على أنها صراع عرقي أو ثقافي بين الجماعات المختلفة، كالقول مثلا (أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة). بينما الإسلاميات تقدم تفسيرا مبنيا على المبادئ الدينية (الإسلام هوالحل). بهذا المعنى فإن الأيديولوجيا مضادة للسوسيولوجيا، أي أنها مضادة أو متناقضة مع العلوم الاجتماعية، لأن الأخيرة تعتمد على البرهان والمنطق ومقابلة الفكرة بنقيضها، بينما الأيديولوجيا شاملة وغامضة وعامة، وهذه أحد أسباب قوتها، حيث الاختصار والتبسيط وشحن المشاعر الإنسانية، وهذا هو ما يقبل بسرعة من الجمهور العام في ظل تطورات اقتصادية / اجتماعية / سياسية معقدة. لهذا نرى أن فكر الأحزاب في كل العصور هو ذو طبيعة أيديولوجية. مانهايم قدم لنا تفسيرا آخر هو الفرق بين الأيديولوجيا والمثالية (اليوتوبيا)، فالأيديولوجيا هي منظومة فكرية للدفاع عن الجماعة المستفيدة في المجتمع، بينما اليوتوبيا أو المثالية هي منظومة فكرية للدفاع عن المستضعفين. والمفهومان كلاهما بعيدان عن الحقائق العلمية الصلبة كما أسلفنا. وعلى الرغم من أن الأيديولوجيا من المفاهيم الأكثر نقاشا في العلوم السياسية والاجتماعية، فإنها الأكثر غموضا وتشويشا في آن، وبرغم كل الدراسات التي تتناول الأيديولوجيا بشكل مباشر، أو غير مباشر، فلا يوجد تحديد مقبول على نطاق واسع للمفهوم. هناك عدة تفسيرات لهذا التشوش، منها خبرة الغرب مع تجربة الفاشية والشيوعية، التي ضخت تيارات قوية في الجسم الأكاديمي الغربي قوضت حياديته، للنظر في هذا المفهوم، والثاني أن العديد من الدارسين الجادين والمحايدين ابتعدوا عن تناول شرح هذا المفهوم لكثافة ما به من مواقف سياسية. إن الإشكالية تكمن في أن الأيديولوجيا ليست مصفوفة أو نظاما ما للأفكار والمبادئ فقط ولكنها نظام للفعل السياسي والاجتماعي. الأيديولوجيا -ولنتذكر قول ماركس- ليست فقط لتفسير العالم وإنما أيضا لتغييره. الأيديولوجيا إذن متداخلة مع الأحزاب والحركات السياسية. إن المجتمعات تعتنق الأيديولوجيا خلال الأزمات ويعتقد المؤلف أن مرحلة الأيديولوجيا العربية ناتجة من انكسار الأنظمة القائمة - وأن عصر الأيديولوجيا العربية بدأ مع نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط الدولة العثمانية - التي عرفها العرب وخبروها لقرون طويلة، وتواصل صعود الأيديولوجيا العربية منذ ذلك الوقت مع تواصل أزمة العرب السياسية والاجتماعية حتى وصلت إلى قمتها في الخمسينيات والستينيات مع فورة القومية العربية، خاصة بعد فقدان فلسطين ووصول الطبقة الوسطى إلى الحكم. وفي ظن المؤلف أن تلك المرحلة الصاعدة قد شهدت تراجعا في السبعينيات والثمانينيات من هذا القرن، لأن الأيديولوجيا تزدهر بتزايد الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية خلال المواجهات التاريخية، وتتراجع عندما يحدث العكس. عصر الأيديولوجيا بمعناه الغربي يتوسط، افتراضا، بين عصر الأديان والعصر الحديث المبني على تحكيم العقل وازدهار العلوم، ويودع الغرب اليوم بقايا عصر الأيديولوجيا، بينما بعض العرب مازالوا يتوقون إلى شيء من الأيديولوجيا، أكانت قومية، أو دينية، أو يسارية، كمواجهة لأزمات التحديث والتصنيع والتخصيص وانتشار وسائل الإعلام ونمو الاقتصاد الوطني، وهيكلة السلطة بشكل جديد، وهي عمليات ليست سهلة ولا متوازنة ومشوبة بالصراع والاختلال الوظيفي. الأيديولوجيا تظهر كوسيلة عبور للاختلالات والإحباطات -في هذه الأوقات العصيبة- وكوسيلة لنجدة ومعالجة الواقع غير المرضي عنه. بين الأيديولوجيا والبيئة الاجتماعية نظرية الضغوط تؤكد العلاقة بين الأزمات الاجتماعية والسياسية وبين ظهور وانتشار الأيديولوجيا. الأيديولوجيا تظهر في أوقات الأزمات وفي قطاعات من المجتمع لا تقبل بما تراه، إنها تظهر لإشباع حاجات مطلوبة بقوة من هذه الشرائح، وهي تظهر لشرح تجارب وتأطير تصرفات وتأكيد قيم لأولئك الناس الذين يشعرون بتلك الحاجة عندما يغادر المجتمع - ثوابته - التي عرفها من قيم وثقافة وتراث. ودون شك فإن المجتمعات العربية كانت مركز تأثير لضغوط ثقافية / اقتصادية / اجتماعية - مثل ما تعرضت له جميع مجتمعات العالم النامي - لقد مرت المجتمعات العربية بنكبات الاستعمار وظهرت الدولة الوطنية (القطرية) على شكل جديد من الهوية، وأطرت الجماعات القبلية والعرقية واللغوية والدينية والمذهبية، وحدثت نكبة فلسطين. كل هذه العوامل ضخمت من شهية قبول الأيديولوجيا في الوطن العربي. لقد كان الإسلام يلعب دورا مهما ومركزيا في تنظيم الحياة العربية السياسية والاجتماعية القديمة، فظهرت جماعات تريد زعزعة هذا الدور تحت شعارات الحداثة والتطوير، فخلقت بذلك صراعا خفيا وظاهرا في الحياة السياسية العربية منذ مطلع القرن بين الرجوع إلى القديم من جهة ومسايرة التحديث من جهة أخرى، مما خلق الحاجة إلى قيم سياسية واجتماعية جديدة فنتج عن ذلك صراع آخر. مجموعة الصراعات تلك أبرزت دورا مهما للأيديولوجيا في الفكر السياسي العربي. وكما وصف ذلك فؤاد عجمي "الخلط بين النظرية والتطبيق في الثقافة السياسية العربية عرض العرب لقبول أفكار وخطط ومذاهب جاهزة". وهناك من الدارسين من يقرر أن هناك نزوعا للأيديولوجيا في الثقافات العالمية الغنية، خاصة إذا كانت هذه الثقافات تعتمد على ديانة تعمل كمهيئ سابق لظهور الأيديولوجيا، لأن هذا يعني أن هناك تراثا أيديولوجيا موجودا. القبول العربي بالأيديولوجيات كان نتيجة التغيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية السريعة التي بدأت تظهر ضغوطا منذ بداية القرن. سقوط الخلافة، والاحتلال الأوربي، وظهور القوميات (بما فيها القومية العربية) والهجرات التي صاحبت الحرب العالمية الأولى ووقوع البلدان العربية تحت أشكال من الانتداب الأجنبي، كل ذلك أظهر أسئلة جوهرية في الوطن العربي مثل: ما هي أساسيات المجتمع السياسي العربي؟ ماذا تعني الأمة وما هو محتواها؟ هل يحمل المرء ولاء سياسيا لمجموعته الإنسانية القريبة - القبلية، الطائفية، أو الجهوية، المناطقية؟ ما هي النتائج التاريخية لسقوط الدولة الإسلامية والخلافة وما دور الدين في السياسة؟ وما دور المبادئ العلمانية في الأخلاقيات الاجتماعية؟ ما هو موقف المجتمعات العربية تجاه الغرب؟ وغير ذلك من الأسئلة التي تبحث عن تحديد للهوية. لقد أرسلت هذه الكوارث والنكبات والتغيرات الجذرية موجات من الصدمات غيرت بسببها بعض الأنظمة السياسية بالعنف كما حدث في مصر وسوريا والعراق، ووصلت مجموعات بشرية جديدة إلى السلطة، ومعها جاءت معالم جديدة، وقيم جديدة، وباختصار أيديولوجيا جديدة. الخمسينيات من هذا القرن تمثل صعود الأيديولوجيا العربية إلى قمتها، قيادات جديدة، وأهداف جديدة، وقيم جديدة وعدت بالقوة والتحرير والتقدم والرفاه وطرد الأجنبي والتصنيع، واختزلت المشاكل المعقدة إلى فكرة، والفكرة إلى كلمة أو كلمات (وحدة، حرية، اشتراكية) على أي شكل من الأشكال تريد تنظيمها. إنها صورة مشوشة لليوتوبيا العربية. ولم يكن أحد يجرؤ على نطاق واسع على تحدي تلك الموجة، هذه الموجة فقدت قوتها وبدأت تنحسر أولا عندما فشلت الوحدة المصرية السورية، وتبين أن الشعارات لا تنطبق على الواقع، ثم ازدادت انحسارا بعد هزيمة 1967 م وبدأت تتراجع مع موت بطلها جمال عبدالناصر 1970 م. النصر المحدود - يقول الكاتب في سنة 1973 م وتزايد أسعار النفط الذي تلاه مثلا فترة جديدة لسياسات عملية وواقعية تبتعد عن الأيديولوجيا لتنظر إلى الواقع. نشأت بعدها سياسات عملية محافظة وأقل أدلجة وجدت فيها بذرة الحلول الوسط. الاقتصاد كعامل ضغط المجتمعات لا تتغير فجأة، إن تغيرها تدريجي، وقد يكون بطيئا في البداية حتى يصل إلى مرحلة يصير التغير فيها سريعا وجارفا. في القرن التاسع عشر كانت أوربا هي مركز الاقتصاد الدولي. وبدأت منذ ذلك الوقت التسرب إلى النظام الاقتصادي في الشرق الأوسط الإسلامي في البداية كان التسرب إلى المدن والمناطق الساحلية ثم بعد ذلك إلى الداخل العربي، هذه العملية في شكلها البسيط عنيت بتدفق البضائع المصنعة، والزيادة في تصدير المواد الأولية الزراعية والمعدنية العربية إلى أوربا، ونتج عنها تآكل في الصناعات العربية التقليدية الشرقية والتي وفرت حاجات المجتمع الإسلامية لقرون عديدة. ومع ربط الإنتاج الزراعي العربي بالسوق الأوربية تغيرت طبيعة ذلك الإنتاج، كي تستفيد منها طبقة صغيرة هي طبقة أصحاب الأراضي. وجعلت الاقتصاد المحلي معتمدا بشكل أكبر على الاقتصاد الصناعي المركزي في أوربا. ومع وصول السفن البخارية وإقامة شبكات السكة الحديدية التي أقامتها شركات أوربية تدنت أهمية شبكة التجارة التقليدية العربية وطرق القوافل التجارية والسفن الشراعية التي كانت تنقل البضائع التجارية بين أقطار العالم العربي والإسلامي. مؤلف عربي، هو سمير أمين، وجد أن تراجع النشاط الاقتصادي العربي كان أساسا نتيجة تنافس البضاعة الأوربية غير المتوازن مع مثيلتها العربية الإسلامية منذ فترة مبكرة تصل إلى القرن السادس عشر، عندما هُزمت الطبقة التجارية العربية المسلمة أمام التجار الأوربيين الصاعدين، الذين استطاعوا أن يحصلوا على امتيازات تجارية مجزية من الدولة العثمانية. منذ ذلك الوقت بدأت المدن العربية في الضمور، ومع ظهور الإمبريالية في نهاية القرن التاسع عشر كان الوطن العربي كله قد وضع تحت مظلة النظام الرأسمالي كمناطق نفوذ. المناطق العربية المتصلة والمتداخلة فصلت من جديد لصالح القوى الأوربية الاستعمارية. الاستجابة العجلى من حكومتي اسطانبول والقاهرة للتدخل الأوربي كانت لها نتائجها التمزيقية على الوطن العربي أيضا، والإصلاح العلماني قلل من نفوذ الطبقة الدينية في التعليم وفي الاقتصاد وفي القضاء. تحديث الجيوش من جهة أخرى فتت الطبقة المحاربة التقليدية التي كانت تشارك الطبقة الدينية في الحكم. كما أن المصروفات الباهظة والإدارة السيئة عرضت هذه المجتمعات إلى الإفلاس -كما في مصر- أو الاعتماد الخطر على الآخرين -كما في الدولة العثمانية- وبينما كانت هذه المجتمعات تحاول تطوير اقتصادها على شاكلة ذلك الموجود في أوربا، ساعدت تلك الخطوات على تحطيم الأشكال الاقتصادية القديمة، وفشلت في نفس الوقت في الوصول إلى بدايات الاقتصاد الرأسمالي، وأصبحت العلاقة بالغرب متضخمة وغير سوية. تدخل قوى السوق الدولية والإصلاحات القلقة وغير الواضحة للحكومات المحلية كان له نتائج سلبية على ملكية الأراضي وإنتاجياتها في المناطق العربية وفي الإمبراطورية العثمانية في آن. لقد حُطمت المنظومة الزراعية القديمة لتطويعها لمتطلبات التجارة الأوربية فأصبحت الحيازة للأراضي كبيرة. وحولت ملكية الأرض للنخبة من رؤساء القبائل والمتنفذين، بينما زادت أعداد الفلاحين دون أرض. باختصار، كانت مظاهر عدم المساواة بين الغرب والعرب تتفاقم وأصبح الأجانب والأقليات الدينية - بسبب المال المتوافر عندهم أو بسبب الامتيازات الممنوحة لهم والإعفاءات التي حصلوا عليها - مسيطرين على الاقتصاد في الإمبراطورية العثمانية، كما أن المهارات التي حصل عليها كثيرون من هؤلاء من مدارس التبشير الغربية ومن عملهم كوسطاء وشركاء للشركات الغربية الناجحة، أهل هذه الفئة للسيطرة الأجنبية على الاقتصاد العربي. وما إن بدأت الحرب العالمية الأولى حتى كان الأوربيون ووسطاؤهم يملكون كل القمم الرئيسية في الاقتصاد - ما عدا امتلاك الأراضي - بينما كان أبناء الأقليات يشكلون الفئات الوسط. وأثارت سيطرة الأجانب وغير المسلمين في الشرق العربي حساسية العرب المسلمين. بجانب التغيرات الاقتصادية كان هناك تغير ديموغرافي غير مسبوق وزيادة هائلة في السكان، مما أسقط أعدادا أكبر وأكبر من العرب المسلمين في قاع الفقر والفاقة. لقد زاد عدد سكان الشرق الأوسط في القرن التاسع عشر 300%، فيما تفتتت الصناعات التقليدية وصاحب ذلك انحطاط اقتصادي، وبدأت الهجرات المبكرة من الريف إلى المدن والحواضر. وأخيرا كانت الإدارة العثمانية، وبعد ذلك الإدارة الاستعمارية - لما قبل الحرب العالمية الثانية - منبعا قدم للشرق الأوسط بيروقراطية عتيدة وقوانين حديثة. في هذا الخضم من التطورات الاقتصادية والاجتماعية، والتأثيرات السياسية كان لا بد من ظهور أيديولوجيا تقدم منظومة فكرية لضبط وتقنين كل هذه التغيرات. تغير البيئة السياسية البيئة السياسية للعرب تغيرت جذريا في المائة سنة الأخيرة كما تغيرت البيئة الاقتصادية والاجتماعية، في البداية كان التوسع الاستعماري، فهزمت البلاد العربية، أمام هذا التوسع في مصر 1840، 1882، وفي المشرق العربي سنة 1920، بجانب هزيمة الجزائر 1830، و1870، 1882، في تونس، و1911 في المغرب.. انتصارات القوة الغربية هذه غيرت جذريا في البنية السياسية العربية، ليس في هياكلها ومؤسساتها فقط، بل في رموزها والمواقف الشعبية والعاطفية المتصلة بها، فقد كانت مرحلة انفصام عن الماضي وموقف تمزيق ساعد على ظهور علاقات صراع بين المجتمع والدولة، وأنتج كل ذلك العداء الظاهر والباطن الذي توارثته الحركات السياسية للدولة كمظهر من مظاهر السلطة في الوطن العربي، ولا تزال نتائج هذا الصراع ماثلة لنا في الواقع، فإن القرن العشرين شهد تدريجيا مركزية وبيروقراطية عمل الدولة - والتي كان نفوذها ضعيفا قبل ذلك - وتدخلت الدولة في شئون الأفراد، وكانت سابقا متروكة للممارسات الدينية والشخصية. أصبحت المطالبة بالاستقلال الوطني بعد ذلك والمشاركة السياسية والثقافية السياسية سمة الثلاثينيات من القرن العشرين. ووسعت الروح الثورية في الخمسينيات والستينيات المشاركة السياسية لتضم عددا كبيرا من الناس، على الرغم من أن المشاركة تقلصت في السبعينيات والثمانينيات. خبرة المشاركة السياسية كان لها نتائج، يتعذر محوها أو إزالتها، على المجتمع العربي. باختصار، فإن البنية السياسية للوطن العربي في القرن العشرين صارت قليلة الشبه بالبنية السياسية في القرن الذي سبقه. المواقف السياسية والقيم، لم تكن قادرة على التكيف بسرعة كافية مع التغيرات في المعتقدات السياسية. وكما هو الحال في الإطار الاجتماعي / السياسي، فإن المعتقدات السياسية والمواقف تأخرت كثيرا عن سرعة التغيرات السياسية الحقيقية على الأرض، تاركة الفرصة لظهور وتطور الأيديولوجيا. فظهور تركيا الحديثة كمثال لاحظه بيرنارد لويس وكتب عنه عام 1986 م يعتبر نموذجا على الكيفية التي حولت بها الثقافة المادية الغربية من بنية وتوجهات المجتمع الإسلامي في قطاعات كبيرة - غالبا إلى الأسوأ - وجعلت كثيرا من الأفكار الغربية تؤثر في التوافق الاجتماعي، وتخلق مسارات جديدة لتحديد الهوية والولاء. النبض العلماني الذي كان من قبل محورا للتنوير الأوربي، تبين أنه جذري أكثر مما كان في البداية مع الإصلاح البروتستانتي، وبينما بدأ كتأمين ضد تدخل الكنيسة في الشئون الدنيوية، أصبح بعد مرور الوقت، ثورة ضد السلطة الدينية في الشئون السياسية، حتى في الأخلاق وفي العدالة. هذه الثورة انزلقت بعد ذلك إلى حد التطرف (رفض وجود الله من قبل ماركس "اليسار" ونيتشه "اليمين") وفي البلاد العربية استقى البعض هذه الأفكار من الغرب وأصبح لها نتائج ثقافية حادة وغير متوازنة أدت إلى رفع شعارات ثقافية مثل: إصلاح النظام الاجتماعي والسياسي - عزل الدين عن الدولة...الخ. وإن محاولة عزل الدين عن العوالم الأخرى للحياة، يعني أن مصادر القيم الجديدة تتطلب تنظيم المواقف الاجتماعية والسياسية، لتأكيد القومية - التي لا يعترف بها الإسلام. وبقاء الدين في الحياة بعد سقوطه من السياسة - بعد أن صارت السياسة علمانية - حالة ليست خاصة بالعالم الإسلامي وحده - برغم أن أداء الإسلام في السياسة أكبر- لذلك بقيت المراوحة حتى اليوم والنقاش العميق حول هذا المفهوم. لقد شهدت بداية ميلاد القومية الجديدة - في الغرب - تحولا في المواقف الدينية في السياسة "من الرب إلى الشعب" وكان واضحا أن المذبح لم يبن للرب بل لأرض الآباء، كما تغيرت الإجازات، والأعياد، وخصصت الصلوات للمعبود الجديد "العلم" الذي حل بديلا عن الصليب كهدف رمزي للحب والتقدير، مع تقاليد حازمة تحكم رفعه وإنزاله وتحيته. النصب الوطنية أصبحت بديلا للأماكن المقدسة كقبلة للزيارة. والأبطال الوطنيون حلوا محل القديسين. وجاء الزواج المدني، والتعميد المدني، وأخيرا فإن تهمة الخيانة حلت محل تهمتي التجديف والزندقة. أما القومية الحديثة في الوطن العربي فكانت واعية للمحتوى الروحي للقومية، وعملت جاهدة على إظهار ذلك في ندائها "باسم الله وباسم العروبة" - بينما قال أنطونيوس سعادة (الحزب القومي السوري) إنه أوجد دينا جديدا!! التنافس بين الإسلام والقومية في المجال الروحي أظهر اضطرابا في الثقافة السياسية العربية، ولا يزال. نزوع المجتمع لتبجيل وتوقير ماضيه يمكن أن يكون قويا كالدين المتجذر في الماضي والممتد في الحاضر فهو يزود المجتمع بإحساس بالهوية والكينونة الاجتماعية كمنظومة من القيم المشتركة، والأهداف المشتركة، وكإطار للنماذج الاجتماعية. أهمية الماضي هي إعطاء شرعية للحاضر. المجتمع العربي اعتمد على التراث، بينما أوربا اعتمدت على الشكل المتوازن للتاريخ والتراث. الأزمة النفسية التغيرات الهائلة في البعد الاجتماعي / الاقتصادي / السياسي وفرت الفرص لظهور الأزمة في القيم الاجتماعية، والمواقف والتفسيرات لم تعد كافية لتنظيم وتقييم حياة الأشخاص. وبعدت الشقة بين المراد والممكن خاصة لدى هؤلاء الأشخاص الذين مرت خبرتهم بالحراك الاجتماعي الجديد، الأفقي منه، أي من قرية إلى مدينة، أو الرأس الذي يعني حراكا اقتصاديا اجتماعيا من طبقة إلى أخرى. وكثير من هؤلاء الأفراد وقعوا في تناقض بين الفعالية الموروثة والحقيقة القائمة وأدخلهم هذا التناقض في صراع مباشر مع المجتمع، وقد خلف هذا شعورا قويا بالضعف، والخوف، والقلق، وفقدان الإحساس بالمشاركة والاتصال مع المنظمات الاجتماعية القائمة. على المستوى العاطفي فإن الناس صاروا يشعرون بالوحدة، وأنهم غير محبوبين وخائفون، ومغمورون بالأسى. كل ما سلف أدى إلى الالتصاق المرضي بالرموز، فالحركات الشعبية التي يمكن أن تقدم للناس الهوية المفتقدة، والدور والإحساس بالقيمة الذاتية - السلطة والرفعة - بينما هم جاهزون للموافقة وقبول تفسيرات جامدة للمواقف المشوشة التي يواجهونها. بهذه الطريقة فإن الأيديولوجيا والحركات الأيديولوجية تزداد وتنتشر بسبب الضغوط النفسية للأفراد المنخرطين في التحديث، وقد عبر عن ذلك العالم النفسي إيريك فروم بتفسيره: "إن كانت الفكرة تستجيب لحاجة نفسية قوية لمجموعة من الناس فسوف تكون قوة فعالة في التاريخ". مسألة الهوية والهوية الشخصية، ودور الشخصية، ومن هم الآخرون وما هي صورة الأنا؟ كلها صارت أسئلة معلقة في الواقع الجديد. فدون هوية اجتماعية فإن الأشخاص يكونون معزولين بعمق عن بيئتهم الاجتماعية، وبيئتهم الثقافية، ودون تحديد الآخر لا يستطيع الفرد تحديد هويته الاجتماعية. من هذا المنطلق فإن الأيديولوجيا تستطيع أن تساعد بطريقتين إذ تحول البيئة المشوشة إلى متسقة، وتوفر فرصة القيادة لتحديد الذات أو لتتحدد من خلالها الذات. وينطبق هذا أكثر ما ينطبق على الفئات القلقة في المجتمع خاصة الشباب والأقليات. مستقبل الأيديولوجيا.. عربيا لا شك أن عصر الأيديولوجيا هو عصر التغيرات في المنطقة العربية فأولها كان سقوط الإمبراطورية العثمانية بكل تأثيراتها المشوشة على المنطقة، وثانيها كانت مجموعة الهزائم العربية البادئة من حرب 48 م إلى حرب 67 م، وثالثها -كظاهرة ونتيجة - كان بروز الإسلام السياسي في الستينيات. هذه التغيرات وما صاحبها من صعود وهبوط اجتماعي واقتصادي أنشأت فئات اجتماعية جديدة، وكانت الأيديولوجيا إحدى الوسائل التي سخرت كآلة حرب (أو هجوم) لعزل طبقات نقيضة حتى يتسنى لمن يشن الهجوم أن يصل إلى السلطة. لقد قامت الأيديولوجيا العربية بمهمات إيجابية عديدة، إذ لعبت دورا ملحوظا في تحديد صورة بعض قطاعات المجتمع، وعملت على إسقاط الأنظمة التقليدية فيما بين الحربين، ومهدت التربة لمجيء الأنظمة الجديدة. وبشكل عام فقد كانت وسيطا للتطور، وإطارا أوليا للأفكار الجديدة. لكن، وبعد سبعة عقود من النشاط الأيديولوجي، فإن الثقافة السياسية في البلاد العربية لا تزال تسبح في خضم فوضى كبيرة. فلا يوجد تحديد واضح لملامح المجتمع السياسي، ولا قواعد متفق عليها للشرعية السياسية، ولا يوجد مفهوم واضح وجلي للحقوق والواجبات السياسية في المجتمع العربي. وبشكل عام، فإنه لا يوجد هناك إطار مستقر للتفاعل السياسي ترشده "أجندة" (جدول أعمال) معترف بها على نطاق واسع لتحديد الأهداف السياسية. وهذا كله يعتبر فشلا للأيديولوجيا. وإذا كانت إرهاصات العقود السبعة في دائرة الأيديولوجيا العربية قد انتهت بالفشل أو ما يشبه الفشل، فإن الأفق العربي الذي صار مقتحما بالتغيرات العالمية الهائلة - سياسيا واقتصاديا وتقنيا وثقافيا تبعا لذلك - لا يمكن أن يعد بالكثير للأيديولوجيا العربية.. وبعبارة أخرى، فإن الأصوات العالية لبقايا الأيديولوجيا العربية (بشتى ألوانها) ما هي إلا دفاع النفس الأخير. وإن كان هذا لا يمنع أن تظهر في الأفق بدائل جديدة للأيديولوجيا القديمة وهو ما لم يتبلور بعد.
|
|