إلي أن نلتقي

"ليالي الحلمية"

في عقد الستينيات تقريبًا، كانت بداية انتشار " التليفزيون" في أرجاء الوطن العربي، وبالتالي ظهور وانتشار الدراما التليفزيونية العربية، وأتذكر أن الأكثرية من كتاب القصة والرواية آنذاك كانت تنظر إلى الدراما التي تقدمها وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، بقدر غير قليل من الحذر والاستعلاء، وربما الشك في القيمة الحقيقية لما يمكن أن تقدمه هذه الوسائط، كان الكتاب لا يزال يحتفظ في عيونهم بسحره الخاص، فهو ينقل بأمانة رسالة الكاتب الخاصة إلى قارئ وحيد ومهتم، كلاهما- المرسل والمستقبل- يمارس دوره بحرية وفي خصوصية، ومن خلال هذا الحوار بينهما ينشأ عالم قد تكون مساحته صغيرة ولكنه دافئ ومفعم رغم أنه مفتوح النوافذ على آخر حدود الزمان والمكان! أين هذا من الدراما المسموعة والمرئية التي تحكمها اعتبارات كثيرة، منها طبيعة الأداة ذاتها، وما تحتمه من سرعة إيقاع النقلات بين المسامع أو المشاهد، وضرورات تحديد مساحة " الكادر" الذي يتم تصويره، وأهمية الاعتماد على الصوت والصورة والفعل والحركة، وقد يكون ذلك كله على حساب التأمل والفكر والخيال كما هو بالضرورة على حساب فعالية المشاهد، ومنها طبيعة الإنتاج الجماعي الذي يشارك فيه إلى جوار المؤلف: السيناريست والمخرج والفنيون ورقابة الدولة، والاستقبال الجماعي الذي يتمثل في ملايين الأسر التي تتابع هذه الدراما بما تضم من أفراد يختلفون في أعمارهم وفي ثقافاتهم، وبالتالي في احتياجاتهم النفسية والروحية والفكرية، ماذا يتبقى للمؤلف بعد هذه السلسلة من القيود والاعتبارات ليبدع في حرية، وليوائم بين خصوصية الرسالة وعمومية الاستقبال؟!

أزعم أن هذا السؤال بقي معلقا في أعناق الكثيرين من كتّاب القصة والرواية العربية يحول بينهم وبين اقتحام تجربة الدراما المرئية للشاشة الصغيرة أو الكبيرة..! حتى جاء في أواخر السبعينيات فنانون وكتّاب أصحاب رؤية وشجاعة من أمثال محفوظ عبد الرحمن في مجال الدراما التاريخية وأسامة أنور عكاشة في مجال الدراما الاجتماعية ومحمد الماغوط ومحمد خان وداود عبد السيد وغيرهم..!

ولأول مرة أمام عمل مثل "ليالي الحلمية" تتلاشى الحدود بين فئات العمر وفئات الثقافة، بين خصوصية الرسالة وجماعية الإرسال والاستقبال، فيتابع الصغار والكبار مشاكل معقدة، وشخصيات ذات أبعاد ومستويات مختلفة بالقدر نفسه من الاهتمام والجدية والمتعة!

ولأول مرة يكتشف الكتاب- الذين ظنوا لبعض الوقت أن التجارب الاجتماعية والواقعية لم يعد فيها ما يقال- أن الفنان الحقيقي هو وحده القادر على أن يلتقط شعر الحياة الأبدي من تراب الواقع اليومي وقلب دخانه!

وأظن أن الوقت قد حان ليستخلص منظرونا ونقادنا من هذه النماذج الرفيعة القيم الفنية التي يعتبر توافرها في أي دراما تليفزيونية تأشيرة دخول لدنيا النص الأدبي فتربح إلى جوار الملايين اعتراف الصفوة!