تكنولوجيا المعلومات وتحطيم الثنائيات

تكنولوجيا المعلومات وتحطيم الثنائيات

تناول كثيرون جوانب عديدة من تكنولوجيا المعلومات: تاريخها، مكوناتها، إنجازاتها، آثارها الاجتماعية، أبعادها السياسية والاقتصادية والتربوية والثقافية وهلم جرا. وفي رأيي أن استيعاب مغزى هذه التكنولوجيا الساحقة وتفهم طبيعتها المتميزة لا يتأتى دون النظر إليها بنظرة أكثر تجريدا، نظرة تجنب التفاصيل ـ أو تتجنبها ـ لتستخلص الأفكار المحورية التي تكمن وراءها وتبرز التوجهات الأساسية التي تسعى لتحقيقها.

والآن وبنظرة أكثر تجريدا أزعم أن الفارق الحاسم بين تكنولوجيا المعلومات وما سبقها من تكنولوجيات يكمن في قدرتها الفائقة على تحطيم كثير من الثنائيات الراسخة والتي أهمها في رأيي:

ـ ثنائية المادي وغير المادي.

ـ ثنائية العضوي وغير العضوي.

ـ ثنائية الواقعي والوهمي.

ـ ثنائية الجماهيري وغير الجماهيري.

وهناك العديد من الثنائيات الأخرى التي يمكن إدراجها كفروع لهذه الثنائيات الأربع الحاكمة أو كنتائج مترتبة عليها. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: ثنائية الإنتاج والاستهلاك، ثنائية الرمز والمدلول، ثنائية العلم والتكنولوجيا، ثنائية المعرفة والخبرة، ثنائية المجازي والحرفي، ثنائية المكتوب والمنطوق، ثنائية البشري والآلي، ثنائية التعليم والتعلم، ثنائية التعليم والتربية، ثنائية المدرسة والعمل، ثنائية الفرد والجماعة، لقد سيطرت هذه الثنائيات ومثيلاتها على فكرنا في الماضي، وتشابهت علينا، إذ نتخذها تارة هدفا أسمى لسعينا المعرفي وتارة أخرى أداة الوصول إلى هذا الهدف.

ربما يرى البعض فيما أزعمه من تحطيم هذه الثنائيات نوعا من المبالغة بل وربما نوعا من السذاجة، ورغم إدراكي لمدى المجازفة فإنني رأيت أن أتحمل وزرها في مقابل إبراز بعض المفاهيم والمتغيرات الأساسية التي تتبدى لنا واضحة ما إن نقم الجسور بين أطراف هذه الثنائيات الحاكمة، وسنتناول في هذا المقال ما فعلته تكنولوجيا المعلومات بثنائية المادي واللامادي.

تحطيم الثنائية

نقصد بالمادي هنا كل ما هو فيزيائي محسوس سواء كان عضويا أو غير عضوي، ونقصد بنقيضه غير المادي كل ما هو غير محسوس من رموز وأفكار ونظريات ومفاهيم ومجردات. لقد كانت تكنولوجيا المعلومات هي الأولى في تحديد الفاصل بين المادي وغير المادي بصورة قاطعة، فقد قامت هذه التكنولوجيا على ثنائية العتاد Hardware الذي يمثل "الشق الصلد" أو "المادي" والبرمجيات Software التي تمثل "الشق اللين" أو "غير المادي أو الذهني"، ونجحت بالاضافة الى ذلك ـ أو نتيجة لذلك ـ في توفير وسائل عملية لمزج هذين الشقين أو التنقل بينهما تستبدل الصلد باللين واللين بالصلد.

وليتضح لنا هذا الفارق الجوهري دعنا نقارن هنا بين آلة تكنولوجيا الصناعة ولتكن آلة الاحتراق الداخلي، وآلة تكنولوجيا المعلومات ونقصد بها الكمبيوتر. إن الوظيفة النهائية لآلة الاحتراق الداخلي وطريقة أدائها لمهامها قد حددت سلفا من خلال فكر مصممها، هذا الفكر الذي استحال إلى آليات وماديات وأساليب تشغيل وعناصر تحكم وجميعها يعمل وفقا لما أراد لها هذا المصمم مسبقا. بقول آخر إن الفكر الصانع للآلة سابق على وجودها وكامن بها لا يتغير ولا يتبدل. على النقيض من ذلك فإن الكمبيوتر هو آلة عامة متعددة الأغراض، أي هو بمثابة طاقة إنجاز خام يتم توجيهها من خلال البرامج التي تخزن في ذاكرته لتوظف تلك الطاقة في تنفيذ مهام بعينها لا يحدها إلا فكر من قام بتطوير هذه البرامج، لقد انفصمت بذلك مهمة الآلة عن تصنيعها زمنيا حيث يمكن للبرامج التي تحدد هذه المهمة أن تكون لاحقة بتصنيع عتاد الكمبيوتر أو سابقة عليه، فمن المعروف أن البرامج التي صممت لجيل معين من الحاسبات الإلكترونية يمكن أن تعمل على حاسبات من أجيال أقدم أو أحدث.

لقد ترتب على هذا الفصل الواضح بين الشق المادي والشق غير المادي وكسر التسلسل الزمني بينهما إلى إعادة النظر في توزيع العمل بينهما، لتحال إلى البرمجيات كثير من المهام التي كانت تقوم بها العناصر المادية في الماضي، وهكذا أمكن استبدال الروافع والتروس والمقاومات والملفات وغيرها من الماديات بأدوات برمجية تصاغ في سلسلة من التعليمات والخطوات، وفي المقابل يمكن تحويل البرمجيات نفسها إلى عناصر مادية تعرف باللدنيات firmware حيث يتم "تعدين metalization" الفكر الكامن في البرمجيات وذلك بنقشه بصورة نهائية في البنية البلورية لشرائح السيلكون الإلكترونية chips. إن سهولة التحول تلك بين المادي وغير المادي هي التي أكسبت تكنولوجيا المعلومات مرونتها الفائقة في أن تندمج مع كثير من الآلات والأدوات والنظم، من سفينة الفضاء حتى أدوات المطبخ، ومن نظم الدفاع الإستراتيجي إلى ألعاب الفيديو.

ولكي يتضح للقارئ غير المتخصص كيفية "تعدين الفكر" المشار إليها دعنا نستعرض هنا باختصار تسلسل خطوات هذه العملية الجوهرية:

ـ يصاغ البرنامج المراد تنفيذه بالكمبيوتر في سلسلة من التعليمات، عادة ما تكتب هذه التعليمات بلغة برمجة قريبة من لغة البشر.

ـ بواسطة وسائل برمجية Compilers يتم ترجمة هذه التعليمات الى لغة تفهمها الآلة وذلك بتحليلها الى أوامر "إيعازات" أولية لإجراء العمليات الحسابية والمنطقية الأساسية كالجمع والطرح ومقارنة الأعداد "أكبر أو أصغر أو يساوي".

ـ لكل من هذه الأوامر الأولية كود عددي معين يفهمه عتاد الكمبيوتر حيث لكل أمر أولي دائرته الإلكترونية الخاصة به والتي تستطيع إنجاز العملية الحسابية أو المنطقية التي يتطلبها تنفيذ هذا الأمر، ويمكن بسهولة تحويل أكواد الأوامر وكذلك البيانات التي نتعامل معها إلى سلاسل من "الصفر والواحد" وذلك باستخدام نظام العد الثنائي " Binary System "، يمثل هذا النظام الفكرة الأساسية لنظام الكمبيوتر سواء من حيث بنية ذاكرته memory أو الأسلوب الذي تعمل به وحدة معالجته المركزية CPU. إن النظام الثنائي هو همزة الوصل بين المادي وغير المادي حيث يمكن تحويل حالتي الصفر والواحد المجردة إلى مقابل محسوس باستخدام أي عنصر مادي يمكن أن يتغير فيزيائيا بين حالتين Bi-state مثل تغير العنصر الفلزي بين المغنطة وعدم المغنطة أو مفتاح الكهرباء أو الترانزيستور بين الوصل والفصل.

ـ بشكل مبسط يمكن القول: إن عملية تعدين الأفكار داخل شرائح السيلكون هي بمنزلة تشكيل البنية الجزيئية للشريحة إلى شبكة من "بوابات" الوصل والفصل، تمثل سلاسل الصفر والواحد المناظرة لتعليمات البرنامج الحامل للفكرة المراد دمغها في شريحة السيلكون.

سقوط الحاجز

لقد قصدنا من هذا التفصيل أن نشير إلى أن نجاح تكنولوجيا المعلومات في إسقاط الحاجز الفاصل بين المادي وغير المادي على مستوى الماكرو "الكبير" قد تم من خلال عملية الاختزال القصوى على مستوى الميكرو "الصغير" للفكر من جانب، وذلك من خلال ثنائية الصفر والواحد، واختزال بنية المادة من جانب آخر وذلك من خلال الثنائيات الفيزيائية للموجب والسالب أو المغنطة وعدم المغنطة أو الوصل والفصل وهلم جرا.

كان لتحطيم ثنائية المادي وغير المادي آثاره البعيدة فنيا واقتصاديا وسياسيا. فعلى المستوى الفني استحدثت فروع جديدة من الهندسة تتعامل ولأول مرة مع العناصر غير المادية، وتوارت فروع الهندسة التقليدية مثل هندسة الآلات والبناء والطرق والكيمياء لتبرز تلك التي تتعامل مع الرموز والمفاهيم والمجردات مثل:

ـ هندسة البرمجيات Software engineering

ـ هندسة النظم System engineering

ـ هندسة المعرفة Knowledge engineering

ـ هندسة اللغة Language engineering

لقد اتسع ـ وسيواصل اتساعه ـ نطاق الهندسة بصفتها فن السيطرة على النظم المعقدة ليشمل كل ما هو معقد في فكر الإنسان وأنشطته وبيئته، لقد مدت الهندسة يدها الطولى لتتناول أمورا كانت حتى وقت قريب أبعد ما تكون عن التطبيق الهندسي، فبعد الهندسة الاجتماعية والبشرية والبيئية، ها نحن نسمع عن هندسة الحوار conversational engineering بغرض السيطرة على تشعب مساراته وتحديد مدى اتساقه وملاحقة تكتيكات المتحاورين والكشف عن نواياهم، وهندسة الصورة image engineering بغرض تقديم الزعماء والمشاهير في أبهى "صورة لجماهيرهم من المحكومين والمعجبين.

وأصبح من المعتاد أن نجد نظيرا غير مادي لكثير من ماديات تكنولوجيا الصناعة مثل:

- الطرق السريعة: الطرق السريعة للمعلومات.

- الفراغ الفيزيائي: الفراغ المعلوماتي.

- التلوث الفيزيائي: التلوث المعلوماتي.

- مهندس الإنشاءات: مهندس المعرفة.

- المكونات المادية: المكونات اللينة componentware

- فيض الموائع "كالسوائل والغازات": الفيض المعلوماتي.

ـ صيانة الآلات: صيانة البرامج.

وجدير بالذكر هنا أن تكنولوجيا المعلومات لم تؤد إلى استحداث فروع جديدة للهندسة فقط، بل كان لها تأثيرها البالغ على جميع فروع الهندسة التقليدية سواء على مستوى التصميم أو التنفيذ أو التشغيل أو الصيانة، وكان لابد أن ينعكس ذلك على هندسة الكمبيوتر ذاته ونكتفي هنا بسرد قائمة العلوم الأساسية التي قام عليها تصميم الجيل السادس من الحاسبات الإلكترونية ليتضح لنا كيف امتزجت فيها العلوم التي تتعامل مع الماديات مع تلك التي تتعامل مع غير الماديات.

ـ علم وظائف الأعضاء "الفسيولوجي": يتعامل مع الماديات.

ـ علم النفس "السيكولوجي": يتعامل مع غير الماديات "والماديات أحيانا".

ـ الطبيعة "الفيزياء": يتعامل مع الماديات.

- اللسانيات: يتعامل مع غير الماديات "باستثناء علم طبيعة الأصوات Phonetic".

ـ المنطق: يتعامل مع غير الماديات

وعلى المستوى الاقتصادي لم تعد الموارد المادية "المالية" هي العامل الحاسم في نجاح المشروع، بل لابد من توافر العناصر غير المادية من الأفكار والبرامج. لقد أفرزت تكنولوجيا المعلومات طبقة جديدة من الرأسماليين هم الرأسماليون الذهنيون intellectual capitalists، واكتسبت الملكية الذهنية أبعادا اقتصادية بل وسياسية أيضا تشهد على ذلك مفاوضات اتفاقيات الجات وما أدت إليه قرصنة البرمجيات من توتر في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين.

ولاشك أن ثمة صلة بين تحطيم ثنائية المادي وغير المادي وعدم خضوع تكنولوجيا المعلومات لأحد المبادئ الاقتصادية الأساسية ونقصد به حتمية تناقص الموارد المادية مع زيادة استهلاكها، فعلى النقيض تزداد الموارد المعلوماتية والمعرفية مع زيادة استهلاكها، وهكذا باتت ثنائية الإنتاج والاستهلاك هي الأخرى في مهب الريح.

ومرة أخرى أصبح لكثير من المفاهيم الاقتصادية التقليدية نظيرها غير المادي.

ـ العملة الورقية: العملة الإلكترونية.

ـ الأصول المادية: الأصول المعلوماتية.

ـ سرقة الماديات: سرقة البرامج.

ـ العائد المادي: العائد المعلوماتي.

ـ الفقرالمادي: الفقر المعلوماتي.

ـ الفيض النقدي: الفيض المعلوماتي.

ـ السلع التقليدية: السلع المعلوماتية.

ـ الإهلاك المادي: الإهلاك المعلوماتي والمعرفي.

وحتى على المستوى السياسي الذي يبدو من أول وهلة بمنأى عن التأثير كان لتحطيم تكنولوجيا المعلومات للحاجز الفاصل بين المادي وغير المادي انعكاساته السياسية العميقة، فعندما تصبح المعرفة من أهم مصادر القوة ترتدي أساليب السياسة أقنعة جديدة، فكسب العقول أهم من كسب الأرض، والسيطرة المعلوماتية هي الوسيلة لإثبات التفوق السياسي ـ الاقتصادي ـ العسكري. وكانت وكالات المخابرات للدول الكبرى من أوائل المؤسسات التي أدركت هذه الحقيقة والتي استبدلت كثيرا من أساليبها القائمة على الوسائل المادية بأخرى غير مادية من قبيل الخرائط الثقافية ونماذج المحاكاة وما شابه.

مفاهيم مشتركة

لقد أقامت تكنولوجيا المعلومات قنطرة الوصل بين المادي وغير المادي لتلفت نظرنا إلى كثير من المفاهيم المشتركة التي تنطبق على الظواهر المادية والظواهر غير المادية على حد سواء وسنركز هنا على بعض من هذه المفاهيم وهي:

ـ مفهوم اللا نهائية.

ـ مفهوم الثنائية.

ـ مفهوم الكمية.

مفهوم اللا نهائية: من حيث الحجم تتسم المادة بلا نهائية في اتجاهي التصغير والتكبير، فمن حيث التصغير يمكن تفتيت المادة من الصغير إلى الأصغر ومن الأصغر إلى الأقل حجما وذلك في سلسلة لا نهائية، فمن الجزئي إلى الذرة إلى الجسيمات الميكروية وهكذا، على الجانب الآخر يمتد الكون المادي في سلسلة لا نهائية من التكبير من الكواكب إلى النجوم إلى الأجرام الفلكية وهلم جرا.

في نفس الوقت يشغي العالم المادي بسلاسل لا نهائية من التفاعلات الطبيعية والكيمائية والتغيرات الجيولوجية والبيئة.

هذا على الصعيد المادي، أما على الصعيد غير المادي فتتجلى سمة اللا نهائية في كثير من الظواهر نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:

ـ اللا نهائية اللغوية ونقصد بذلك قدرة الناطقين باللغة على صياغة عدد لا نهائي من التعبيرات، فاللغة كما وصفها ويليام فون همبولت هي الاستخدام اللا محدود لوسائل محدودة، أضف إلى ذلك لا نهائية تحديث معجم اللغة سواء من حيث التوسع المستمر في معاني الألفاظ القائمة بالفعل أو إضافة ألفاظ ومصطلحات جديدة.

ـ لا نهائية قراءة النصوص، فكما أوضح لنا جاك دريدا في نظريته عن تفكيك النصوص أن كل نص له عدد لا نهائي من القراءات الممكنة وفقا لخلفية قارئه وهدف قراءته والعلاقات التي تربط بينه وبين النصوص الأخرى "علاقات التناص Inter-textuality".

ـ لا نهائية الإشكال الرياضي، فقد هدم كورت جوديل مؤسس الرياضيات المنطقية، المفهوم الذي ساد الساحة العلمية طويلا، ونقصد به إمكانية التوصل لصيغ رياضية نهائية جامعة شاملة، وقد أثبـت جودل أن كل طرح لحل رياضي جديد يجلب معه إشكاليات جديدة تتطلب هي الأخرى حلا رياضيا غير مسبوق وهكذا دواليك.

مفهوم الثنائية: ينطوي عالم المادة على كثير من الظواهر التي يمكن توصيفها من خلال ثنائيات حاكمة.

مفهوم الكمية: كما أن للمادة كمية تقاس بحجمها وكتلتـها فإن لنظيرها غير المادي "المعلومات" كتلتها أيضا، فقد قامت نظرية المعلومات التي أسسها كلود شانون على قياس كمية المعلومات "كمية المعلومات تتناسب عكسيا مع احتمال توقعها".

 

 

نبيل علي