وقد كان في ذلك
الوقت - بالتحديد سنة 1986 م- أن احتفلت أكاديمية الإدارة هناك بما أسموه "العيد
المئوي للإدارة"، على أساس أن نقطة البدء في إرساء مفاهيم الإدارة وعلومها كانت
اجتماع الجمعية الأمريكية للمهندسين الميكانيكيين سنة 1886 م، في ذلك الاجتماع ألقى
هنري تاون - رئيس شركة إنتاج ييل وتاون وأحد مؤسسيها - بحثا بعنوان "المهندس
اقتصاديا" دعا فيه إلى الاعتراف بـ "إدارة المصانع" كفن عملي مماثل للهندسة، تستمد
منه منظومات الإنتاج ومعدلاته.
لا يمكن لأحد
بالطبع أن يزعم أو أن يتصور أن الإدارة بدأت بذلك الاجتماع أو أن عمرها مائة سنة!
فقد رأينا أن بناة الأهرام مارسوها على أرفع مستوى، كما أن القيادة الحربية وما
يصاحبها من فنون التخطيط والتنظيم والمعلومات والقيادة والمتابعة، وهذه هي فنون
الإدارة كلها - القيادة الحربية ترجع إلى هذه الأزمنة السحيقة أيضا.
الإدارة الفائقة
إذن شيء قديم جدا، وفي الأزمنة السحيقة كان يوجد المديرون - أو الرؤساء، أو القادة،
وكانت توجد المؤسسات. وإذا كنا عندما أتينا لأمثلة النشاط الصناعي وجدنا أنفسنا
نتحدث عن أواخر القرن الماضي، فما ذلك إلا لأن الثورة الصناعية لم تصبح ممكنة إلا
باستحداث الطاقة البخارية، ثم جاء النمو السوقي، وعلى رأس أحداثه فتح الغرب
الأمريكي في منتصف القرن التاسع عشر وانتشار السكة الحديد بعد انتهاء الحرب الأهلية
الأمريكية، جاء النمو السوقي المتسارع، فجعل الثورة الصناعية، ليس مجرد شيء ممكن،
بل ضروري.
الإدارة، ما
هي؟
أبسط تعريف للإدارة
يمكن أن تجده، هو أنها: "تنسيق استخدام الموارد من أجل تحقيق أهداف
المؤسسة".
وربما نضيف تعريفا
أو تصنيفا للموارد، فهي بشرية، ومادية كالمواد والعدد والوسائل والمال والطاقة..
وكلها قابلة لأن تتحول من واحدة لأخرى. ثم يضاف إليها عنصر الزمن، وهذا قد يستعاض
عنه أولا يستعاض عنه بالموارد الأخرى.
الإدارة إذن هي
التنسيق بين هذا كله، تماماً ولكن هذا لا يعني أن الإدارة هي القيادة، فالقيادة
مجرد مرحلة من مراحلها المتعددة. وإذا أضفنا إلى قيادة الأوركسترا شراء الآلات
الموسيقية وصيانتها وانتقاء العازفين والتعاقد معهم واستئجار المكان وبيع التذاكر
والإعلان عن الحفل.. إلى آخر هذه القائمة الطويلة من الأنشطة، إذا أضفنا كل هذا
حصلنا على المراحل الأربع التي تتكون منها الإدارة كما هي في صفحات الكتب: التخطيط
والتنظيم والقيادة والمتابعة، ولكنها في الحياة العملية لا تمضي دائما بهذا
الترتيب.
يقال: الإدارة
العلمية؟ المقصود ممارسة الإدارة بناء على نظريات وقواعد ومنظومات وممارسات
يستنبطها علماء الإدارة من الملاحظة والخبرة والاستنتاج المنطقي. إنه حتى في الشعر،
رأينا فطاحل العصور القديمة ينظمون المعلقات منذ العصر الجاهلي ويمضون هكذا قرونا
حتى يأتي الخليل بن أحمد ويستنبط بحور الشعر وتفعيلاته من قصائد القدماء. وفي دنيا
المادة ظلت المعادن تتمدد بالحرارة منذ خلق الله المعادن والحرارة ثم تكررت ملاحظة
هذه الظواهر وغيرها إلى أن امتلأت بها صفحات الكتب، ومعها القواعد الماتيماطيقية
التي تمثل العلاقات الكمية بين متغيراتها. فهل ينطبق هذا على الإدارة؟ إلى حد ما،
إلى حد كبير في الواقع. فهي لم تعد قائمة على شخصية المدير وطباعه وصفاته القيادية
دون أي شيء آخر، لم تعد قائمة على الفراسة والألمعية والكاريزما، فقد أدت المشكلات
المصاحبة لظهور الصناعة وتطورها، ومعها مشكلات العمل والعمال والتسويق.. كل هذا أدى
إلى البحث في معدلات العمل والإنتاج، وطاقة الآلات والبشر، وبدأ الباحثون من أمثال
المهندس الأمريكي فريدريك تايلور (1856 - 1915) والفرنسي هنري فايول (1841- 1925)
يحاولون حل مشاكلهم اليومية بالغوص في أعماقها بحثا عن منهاج "علمي" أي قواعد
مستنبطة من التجارب تتخذ أساسا للقرارات فيما بعد. ويعرف تايلور بأنه "أبو الإدارة
العلمية" وفايول بأنه "المدير الفيلسوف"، وتبع ذلك أجيال كاملة من حكماء الإدارة
وفلاسفتها: إيمرسون - جالبريث - جانت - سلون - مازلو- منتزبرج - دراكار- بيترز...
قائمة طويلة ومكتبات بأكملها من مؤلفاتهم وأوراقهم. مهندسون وأطباء ونفسانيون
واقتصاديون.
السياسة والحكم
والإدارة
في سنة 1960 فاز
جون كنيدي بترشيح الحزب الديمقراطي لمنصب الرئيس، وكان منافسه على ذلك هوليندون
جونسون الذي كان إذ ذاك زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ الذي كان كنيدي عضوا فيه هو
أيضا. وكان جونسون يرى بالطبع أنه أحق بالترشيح، وعندما سمع نبأ فوز كنيدي به قال:
"طبعا. أنا كنت منشغلا بإصدار التشريعات بينما كان هو يجوب الطرقات يقبل الأطفال".
بمعنى أن كنيدي كسب الصراع داخل الحزب مستخدما أساليب اجتذاب الشعبية، وليس بالعمل
الحقيقي، بقية القصة معروفة، فقد فاز كنيدي في الانتخابات وبمقعد الرئاسة وأشفق على
جونسون واتخذه نائبا له. في أول يوم دخل كنيدي مكتبه في الغرفة البيضاوية الشهيرة،
جلس وتلفت حوله ثم تساءل: "حسنا. ماذا أفعل الآن؟" بمعنى: ذهبت السكرة وجاءت
الفكرة. ومن مآسي الحياة السياسية أن المقدرات المطلوبة للوصول إلى مقاعد الحكم
-هذه هي السياسة- تختلف كثيرا عن تلك المطلوبة لممارسته ولتحقيق مصالح الشعب وحل
مشكلاته - هذه هي الإدارة. لماذا تكون إدارة المؤسسات شيئا يختلف عن إدارة الدولة
والمجتمع؟ الواقع أن إدارة الدولة هي ممارسة هذا الفن في أعلى مستوياته. ولو عملنا
"وصف وظيفة" لما هو مطلوب من الحاكم عمله فلن نجد فيها حرفا واحدا لا يوجد في
مسئوليات مدير المؤسسة، ولو أن الحكام جعلوا مهمتهم تحقيق "الربح" - ربح الشعوب،
بالمنافسة على الحصة السوقية وما إلى ذلك، بدلا من أحلام الفتوح والأمجاد، لتحسن
حال البشرية. والأمريكان يسمون رئاسة الجمهورية عندهم Administration وهي بالعربية
"الإدارة" أو ربما "الشئون الإدارية" (من المؤسف أن لدينا كلمة واحدة تدل على هذه
وعلى Management أيضا،
وهما شيئان مختلفان وإن كانت الصلة وثيقة جدا بينهما، ولكن افتقارنا إلى المصطلحات
ليس موضوعنا الآن) - وهكذا يقال: إدارة ريجان وإدارة بوش وإدارة كلينتون، والرئيس
الأمريكي يسمى The Chief Executive أي "كبير المديرين التنفيذيين" فكلمة Executive تعني هذا بالضبط عندما
نستخدمها كاسمها لا كنعت، فهي كنعت معناها "تنفيذي"، وكاسم أصلها Executive Director، وكلمة
Board تعني "عضو مجلس
الإدارة" وهذا Director of Executives العضو يصبح تنفيذيا عندما يضطلع بمسئولية تنفيذية في
المؤسسة الصناعية أو الخدمية أو المالية.. إلخ. ثم سقطت كلمة Executive Director كما هو شائع
هناك وأصبحت كلمة تدل على المدير الذي يشغل وظيفة كبرى أو رئيسية في المؤسسة. وهكذا
فإن الرئيس الأمريكي هو في منطوق هذه التسميات مدير للحكومة الفيدرالية، أما "مجلس
الإدارة" الذي "يتبعه" هذا المدير، كما يتبع "العضو المنتدب" مجلس الإدارة، هذا
المجلس هو الكونجرس المنتخب الذي له حق إصدار القرارات رغما عن الرئيس بأغلبية لا
تقل عن ثلثي أعضائه (لأن الرئيس يعادل ثلثي الأعضاء) وقد حدث هذا لريجان عندما قرر
الكونجرس مقاطعة حكومة الأقلية البيضاء في جنوب إفريقيا برغم اعتراض رونالد ريجان
وإرجاعه هذا القرار لإعادة التصويت عليه.
الحكم إذن إدارة.
وإذا أردنا المزيد من الأمثلة من ذلك العصر الخطير في تاريخ البشرية، الستينيات من
هذا القرن، وإذا كانت المؤلفات في الإدارة تحفل بعناوين مثل "إدارة الأزمات"
"وإدارة الصراع" و"تحليل المشكلات" و"اتخاذ القرارات"، فضع نفسك في موضع كنيدي
أثناء أزمة الصواريخ السوفيتية في كوبا.. في تلك الحقبة كان كنيدي مديرا بكل مفهوم
لهذه الكلمة، وكان قديرا في إدارته لها، وكان بالطبع محاطا بعدد من جهابذة السياسة
والاقتصاد والتاريخ من جامعة هارفارد العتيدة، التي تعلم فيها هو وشقيقه روبرت الذي
كان وزيرا للعدل في حكومته وهم يسمون الوزير Secretary
- إمعانا في إضفاء عباءة الإدارة على رئاسة
الدولة.
سرعان ما خرج كنيدي
من دائرة الإدارة ودخل دائرة السياسة، عندما أقدم على ثلاث خطوات هائلة كانت فيها
نهايته المأسوية: قانون لتجريم ممارسة التفرقة العنصرية، ومحادثات نزع السلاح مع
خروشوف وماكميلان، والتمهيد لـ " فتنمة " فيتنام والانسحاب منها. وكلها تمت بعد ذلك
في عهود رؤساء آخرين!
كان في تلك الحقبة
أيضا أن قام وزير خارجية اليابان بزيارة لدول أوربية، وحط في فرنسا وتقابل مع وزير
خارجيتها، ثم أبدى رغبته في مقابلة ديجول، وعندما سمع شارلمان القرن العشرين بذلك،
رفع أنفه الطويل نحوالسقف كعادته، وتساءل: "فيم يريد أن يحادثني، إذا كان مصرا على
أنه ليس سوى بياع ترانزستور؟" الجنرال العظيم لا يريد أن يضيع وقته في الحديث عن
أمور في تفاهة الاقتصاد العالمي. هذا "شغل بياعين". أما الذي هو جدير بأوقات
العظماء وإبداعاتهم الذهنية - فهو الردع النووي، (Force de
Frappe) السلاح وبناء الترسانات. حسنا، كلنا
نعرف ما حققته اليابان من بيع الترانزستور وما نعمت به شعوب العالم أيضا. بقي أن
نعرف من الذي كان سيضرب فرنسا بالسلاح الذري، وماذا جنت من وراء ال "فورس دي فراب"
وغير ذلك من وسائل الدمار الشامل الذي يأتي خليفته الحالي شيراك لكي يملأ بها
الدنيا ذعرا وتلويثا وسخطا وحقدا وكراهية.
مدراء.. لا
وزراء
منذ أسابيع وقف
توميتشي موراياما رئيس وزراء اليابان السابق يعلن اعتذار بلاده عما أسماه "سياسة
الاستعباد والعدوان التي جلبت البؤس والتعاسة للعديد من الشعوب". لقد خسرت اليابان
الحرب لأول مرة في تاريخها، ولأول مرة أيضا تهبط عليها جيوش الاحتلال بقيادة نفس
الجنرال الذي ذاق مرارة الهزيمة منها مرة بعد مرة وانسحب بقواته من الفلبين يجر
أذيال المرارة والنقمة. نفس هذا الجنرال هو الذي هبط على اليابان كما هبط قمبيز على
مصر، ولكنه لم يفكر - وهو الفاتح المنتصر، مثل قيصر في بريطانيا - لم يفكر في أن
يطلق عساكره ينهبون ويغتصبون مكافأة لهم على صبرهم وبسالتهم، ولعل القارئ رأى
الفيلم الأمريكي "سايونارا" الذي يصور حرمان الضباط الأمريكيين من الزواج من
اليابانيات على أنه جريمة بالغة القسوة وقد ألغيت هذه التعليمات بعد
ذلك.
كان هذا هو كل ما
أنزله الفاتح المنتصر بخصمه الذي قتل جنوده نصف مليون جندي أمريكي ووجهوا ضربة بيرل
هاربور الشهيرة بينما الطرفان على مائدة المفاوضات. مد الجنرال يده للشعب الجريح
المحطم المنهزم، ليساعده على النهوض من بين الأنقاض، والكثيرون منا لا يعرفون مدى
الدمار المخيف الذي حل باليابان من قبل هيروشيما. وحتى بعد أن أعلن الإمبراطور
قراره بالاستسلام، كان الضباط يأتون بالمئات لينتحروا بطريقة الهاراكيري أمام قصره،
تعبيرا عن إصرارهم على الموت. وطياروا "الكاميكازي" يقلعون في طلعات انتحارية، حتى
بعد أن انتهت الحرب! نورد هذا تصويرا لمدى شراسة المقاتل الياباني وقوة شكيمته
واستهانته بالحياة، وبالتالي مدى التغير السيكولوجي الذي جعل الشخصية اليابانية
تجتاز تحولا تاما، وتصويرا لمدى تأثير عقلية الإدارة، ال "بيزنس" التي تسود الفكر
الأمريكي والحياة الأمريكية بأكملها.
مدير
اليابان
تحولت اليابان إذن
إلى مؤسسة اقتصادية كبرى، استحقت أن يؤلف عنها مرة كتاب عنوانه Japan Incorporated) هذه
اختصار (.Inc) وهو
تعبير في تصنيف الشركات مثل ليمتد (المحدودة) وامالجاميتد (Amulgamated المدمجة) وهكذا يطلق
على المؤسسات التجارية والصناعية وغيرها، عندما تكون قد تكونت من أطراف تتحد معا
(وهذا هو معناها: الموحدة، Corpus باللاتينية معناها "جسم") ليتكون منها جسم أو " كيان "
يعامل كطرف واحد قانونا، أو كشخصية اعتبارية واحدة. للاصطلاح مضامين قانونية أخرى
ليس حديثنا مجالا لها، والذي يهمنا أنه بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب مع أمريكا،
وهي سنوات "إدارة " اليابان بواسطة السلطات الأمريكية وبعقليتها التي تؤمن بال
"بيزنس" أكثر من أي شيء آخر، كانت الرؤية Vision هي تحويل المجتمع والدولة في اليابان من قوة نموذجها هو
الإمبراطورية البريطانية، وقد كان هذا هو حلم اليابان - فهي تتكون من جزر مثل
إنجلترا، والمرور في الشوارع على الجانب الأيسر مثلما يفعل الإنجليز- من هذا
التشكيل الاستعماري البريطاني إلى شيء لا يختلف عن شركة "فورد موتور" أو "جنرال
موتورز" إلا في حجمها الهائل، كانت الإدارة الأمريكية إذن تدرك تماما أن الضراوة
التي يظهرها شعب اليابان في الحروب والصراعات - والشعار دائما: من أجل الإمبراطور!
الذي هو الرمز المقدس لليابان - هذه الضراوة والنزعة إلى العنف وقطع الرقاب ليست
إلا انعكاسا للشخصية اليابانية التي تنشأ على استعداد تام للموت من أجل الإمبراطور
والوطن، وبالتالي فالحياة عندهم زهيدة ولا قيمة لها إذا كان معناها الخنوع لأي شيء
آخر. لو أن هذه الفظاظة وهذه الروح الوثابة أمكن توجيههما نحو رؤية سوية وأهداف
قويمة، فسيقلع الياباني عن هذا ويتجه بنفس التفاني والفداء نحو هذه
الأهداف.
والروح الأمريكية -
وعلينا ألا ننسى أن أمريكا هي موطن الإدارة العلمية، وأن ننسى، ولو مؤقتا، تلك
النقمة التي "يتمتع بها" هذا البلد لنفس هذه الأسباب التي سنذكرها الآن الروح
الأمريكية تنطوي على "الحلم الأمريكي" وهو أن يعيش كل فرد حياة كريمة ما لم يكن
مجرما أو خارجا على القانون، وأن يكون لديه منزل مريح وسيارة، وأن يتمتع بكل
الحريات الفكرية والعملية كما ينص عليها الدستور، وأن كل من لا يحصل على ذلك لا
يكون إنسانا ينتظر منه سلوك يستحق التساوي معه. في هذا المناخ نشأ رجال مثل
آكيوموريتا، صانع ورئيس شركة "سوني" للإلكترونيات، ومؤلف كتاب "اليابان التي تقدر
أن تقول لا"، الذي يعبر عن تطور شخصية اليابان في الاتجاه الذي ذكرناه، وعن قوتها
المستمدة من السطوة الاقتصادية والتكنولوجية. انتهى زمن الجنرال طوجو والأدميرال
ياماموتو، وأحفاد مشاهير الساموراي الذين قادوا ضربة بيرل هاربور وطلعات
الكاميكازي.
كان الجنرال دوجلاس
ماكارثر قد اتخذ له مقرا في مواجهة قصر الإمبراطور وأمسك بمفاتيح الإدارة والبحوث
والتطوير، شرع دستورا جديدا قوامه الديمقراطية، ولكي يوضح مفهومها جيدا، أفرج عن
جميع المعتقلين السياسيين بمن فيهم الشيوعيون، مما أدى إلى إنشاء الحزب الشيوعي
الياباني! وقد تعلم اليابانيون درسا جديدا في الديمقراطية عندما رأوا ماكارثر بعد
ذلك يطرد من جميع مناصبه بجرة قلم من واحد من أقل الرؤساء الأمريكيين شأنا وأحطهم
قدرا: هاري ترومان. وقد قاد اثنان من أعلام الإدارة الأمريكية حملة الجودة في
اليابان هما إدوارز ديمنج (1900-1994) وجوزيف جوران (1904) ثم أنشأ اليابانيون
جائزة للجودة باسم ديمنج.
السياسة في دنيا
الإدارة
مما يؤسف له أننا
قد درجنا على استخدام الكلمة الواحدة للتعبير عن أكثر من معنى برغم توافر
الاشتقاقات المهملة. وقد ذكرنا فيما سبق كلمة "الإدارة" والازدواج المحتمل في
تفسيرها، خاصة عندما يستخرج منها النعت: "إداري" في كلمة "سياسة" سنجد أنها تؤدي
ثلاثة معان متباينة. فهي تحمل مضمون التعقل أو الحكمة أو الحصافة، فيقال "كن
سياسيا" أو "سايس أمورك"- ثم هناك السياسة بمعنى Policy فللشركة أو مؤسسة الأعمال
سياسة Corporate Policy سياسة في التوظيف والتعامل مع السوق وغير ذلك. ثم هناك
السياسة بمعنى Politics وهو ما رأينا كنيدي يمارسه: إذابة قلوب النساء بتقبيل
أطفالهن، والضحك على ذقون الرجال أيضا بالكلام المعسول. نحن نخلط بين Politics وPolicy ونقول "سياسة". الأولى
مرغوبة في إدارة المؤسسات، والثانية ملعونة ومخيفة. وكان يجب أن نستخدم في ترجمتها
هذا الاصطلاح الشائع، الساخر: بولوتيكا. هذا بالضبط هو مدلولها وهذا ما قصده الشاعر
الحكيم أبوالعلاء المعري عندما قال منذ ألف سنة، جامعا هذين المعنيين في بيت
واحد:
يسوسون الأمور
بغير عقل وينفذ أمرهم فيقال
ساسة
ينظر فلاسفة
الإدارة لمؤسسة الأعمال على أنها مجتمع كامل له حضارة يسمونها: Corporate
Culture وله قيم Values وتقاليد Tradi tions كما له رؤية Vision ولا بد أن يحقق الامتياز، وأن تكون له مكانة مرموقة في
السوق، Niche - الـ "نيش" هذا موضع غائر في الحائط
توضع فيه أدوات الزينة، يسمى بالعربية "مشكاة" وهي كلمة واردة بهذ ا المعنى في
الكتاب الكريم كمشكاة فيها مصباح.
والإدارة مسئولة عن تحقيق صالح مجتمعها الصغير، وعلى أن تكون له مشكاة في السوق
العالمية، وهو ما تنعم به صناعات كثيرة أصبح طرازها يدل على النوع
بأكمله.
باقترابنا من بداية القرن الحادي والعشرين، أو
-على الأصح- باقتراب أبنائنا وأحفادنا منه - وإذا بقي كل شيء على ما هو عليه، بمعنى
إذا لم يجرنا بعض الحكام إلى مزيد من الحروب والدمار من أجل أحلام صبيانية لن تتحقق
- إذا بقي كل شيء كما هو، فسيكون كوكب الأرض قد أصبح مكانا لا تسهل الحياة فيه. سوف
تحق عليه نبوءة الفيلسوف الإنجليزي توماس مالتوس (1766 - 1834)، ومفادها أن الزحام
سيؤدي إلى انتشار الحروب والصراعات والأوبئة - أضف التلوث الناشئ من الدخان الذي
تنفثه الطائرات في الفضاء والسيارات والمصانع على الأرض، والنفايات الكيميائية -
إلى تفشي الأوبئة واستحالة التخلص من النفايات الآدمية والجثث. وكل جهد لمكافحة
الفقر تجنبا للتضخم السكاني والحروب والصراعات، سوف يستلزم مزيدا من التصنيع، وهذا
معناه المزيد من التلوث، وهكذا. ليس هناك سوى طريق واحد نحو تحسين حالة الكوكب، ولا
نقول إنقاذه، فهذا قد فات أوانه. هذا الطريق هو حسن إدارة العالم واستخدام موارد
الكوكب. يلزمنا تطوير سيكولوجي كالذي تحقق في اليابان، واستبعاد فكرة الحرب وتخريب
المنشآت وإشعال الحرائق في آبار النفط وبناء الترسانات النووية والجرثومية
والكيميائية والمسمارية.. كل هذا من أجل إرضاء أطماع صبيانية في أمجاد زائفة وأحلام
ليست غير شرعية فحسب، بل غير قابلة للتحقيق أصلا. تأمل يوغوسلافيا ورواندا.. وما
سيأتي.. بشاعات تفوق التصور وأجيال من الأطفال ينشئون بقلوب مليئة بالحقد وبأعضاء
ممزقة تجعلهم عالة على غيرهم، شحاذين، ومجرمين، ومختلين ومجانين. هذا هو مصير
البشرية إذا كان الشباب سيظلون يهلكون ويحترقون من أجل الحكام. الطريق هو انتفاء
"الحكم" ومجيء "الإدارة" المدير، الذي يدرك أن عمله هو توضيح "الرؤية" ورسم
"السياسة" و"تحديد الأهداف"، ثم العمل على تحقيقها بالمنافسة الواعية لا بالصراع
الدموي.. لعله يتسنى فقط بقاء النوع الإنساني، كما نعرفه
الآن.