غريب في معبدالعصر وليد إخلاصي

غريب في معبدالعصر

أذكر أنني في بداية الأربعينيات من هذا القرن، وكنت طفلا، تلقيت هدية من قريب لي لمناسبة صحية، وكانت ساعة يد لم أنس شكلها وحجمها وكفاءتها في ضبط الزمن. ساعة كبيرة بالقياس لمعصم طفل مثلي كذلك لرجل بالغ، سميكة كعلبة مستديرة للنشوق، ولم يمر أسبوع عليها إلا وتتعثر عقاربها ثم تتوقف بعد حين وإلى الأبد. كانت الساعة من مستوردات التجار القليلة من الصناعة اليابانية، وكما سأسمع من أحاديث جانبية أن الصناعة اليابانية كانت بشكل عام رمزا من رموز رداءة الإنتاج، وأن سبب استيرادها يعود إلى رخص ثمنها ولتلبية حاجات سوق غير قادرة أصلا في أوقات الحرب تلك على استيعاب بضائع غربية مرتفعة الأسعار.

وقد حدث بعد عشرات السنين أن أصبحت السلعة اليابانية في أسواقنا، بل وفي أسواق العالم الأخرى رمزا للإتقان والجودة، وبات الإقبال عليها دليلا على رخاء نسبي، وحاجة ملحة واحتراما لصناعة متقدمة.

مثل هذه الصور التي تفصل بينها مسافات من الزمن، همّت علي والطائرة تحوم في سماء (أوساكا) قبل الهبوط في مطارها. ومثل هذا السؤال سيتبادر إلى ذهني: كيف استطاعت اليابان الشرقية أن تتقدم بمثل هذه القفزات المذهلة خلال عدد قليل من السنين، بينما دول شرقية كثيرة مازالت تحمل وصمة التخلف عن ركب العالم؟

كانت الرحلة الأولى إلى اليابان، بل إلى الشرق الأقصى نفسه وقد كانت في العام 1992 م ، من أجل عمل حكومي له طابع اقتصادي بحت، لكن الأسئلة الثقافية كانت ملحة في كل خطوة قطعتها هناك. كنت دون شك أحمل في ذاكرتي شيئا من آداب اليابان المترجمة إلى العربية على قلتها، وشيئا قليلا أيضا من فنونها المدهشة في التصوير وفي السينما، ويكفي أن مبدعا سينمائيا مثل (كيروساوا) الذي يقف في طليعة المخرجين في العالم قد قدم الثقافة اليابانية لنا بطريقة تدفع بالحضور الياباني إلى مقدمة الصفوف.

السؤال الأكثر حضورا في إلحاحه علي، والذي كان يراودني منذ سنين، كان عن الطريقة التي خرجت فيها اليابان من هزيمة الجحيم الذي خلفته القنبلتان الذريتان اللتان دمرتا هيروشيما وناجازاكي، لتكون خلال فترة قصيرة من عمر الشعوب ندا قويا لقاهريها في الحرب الكونية الثانية.

كان السفر طويلا في الطريق من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، ولا بد من تعب اختلاف الزمن على الجسد لكن إجراءات الهجرة في مطار أوزاكا تنسيك التعب والاختلاف، فالوجه الياباني الجامد يصبح مع ابتسامة الترحيب مثل زهرة تخرج من بين صخور الحديقة اليابانية التي ليس لها مثيل.

الفندق في أوساكا، ناطحة سحاب صغيرة، تنقلك رأسا إلى المفهوم الأمريكي في البناء الحديث. أكثر من ثلاثين طبقة تصعد بثبات هندسي ليلتحم آخرها أحيانا بالغيم. إن الثقافة الأمريكية المنتصرة في الحرب على القوى العسكرية قد تغلغلت قدما في بنية الحياة اليابانية، إلا أنها لم تستطع أن تتدخل في عمق الفكر الياباني. وتلك النقطة في المفارقات المعاصرة قد لا تكون مفتاحا لفهم ما يجري، لكنها تبقى سرا من أسرار الحياة اليابانية، وإذا أردنا الدقة فهي من الأسرار الشرقية التي تمتد من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى، إذ إن الغزو الثقافي في كل أشكاله وأحواله العمرانية والأدبية والفنية وغيرها من مظاهر الحياة الاجتماعية، يصيب في البداية الظاهر، لكن الشعب العريق يقاوم في الباطن بشراسة أوبفهم عميق للتقاليد المتوارثة، ويسقط أو يقاوم ذلك الغزو.

ومن نافذة الفندق العالية أدرت عيني في نظرة بانورامية على مدينة أوساكا عاصمة التجارة والصناعة، فالتقطت مجموعة من الإعلانات قد تساعد في فهمك للروح الحديثة هناك. كانت اللافتات الهائلة في مساحاتها تلوح في كل مكان تدل على أسماء الشركات العملاقة التي تبني سمعة اليابان في عالم الصناعة والتكنولوجيا والتفوق الذي يضيف إلى إبداع العصر أشياء جديدة. ومن فوق الأبنية العالية تظهر علامات وإشارات على أن اليابان دولة المؤسسات التي تسيطر على كل شيء وتلتهم كل شيء، لكنها تمنح كل شيء.

قرأت في إحدى الصحف التي تصدر بالإنجليزية أن امرأة تقاضي شركة كبرى للإنتاج المتنوع، لأنها قتلت زوجها الذي لم يتجاوز بعد الأربعين من عمره. وكان الرجل يعمل فوق طاقته وفي أيام العطل أيضا. حجة الزوجة كانت في أن نظام الشركات السائد في تشجيعه للعاملين على كسب المزيد من المال دفعت بزوجها إلى الانتحار. فهل يمكن إدانة تلك الشركة أو أن الأمر فيه إدانة للنظام الكلي نفسه، أو أن الأمر مجرد مشكلة يابانية صرفة جاءت من اختلاط مفهوم العمل بالشعور بالواجب. وهل ديانة العصر في اليابان يشكل جانب منها ضرورة التفاني في العمل بأي شكل كان ؟

عاصمة السلام

كيف الوصول إلى كيوتو؟ وكيوتو هي العاصمة القديمة لإمبراطورية اليابان، ومعناها (عاصمة السلام) وكانت مركز الحكم خلال العصر الذهبي لليابان ما بين العامين 794 - 1192 ميلادية، ويقال إنها كانت بمثابة باريس وفرساي في فرنسا. ولا يمكن لك أن تزور اليابان دون أن تحج إلى كيوتو، فهي الآن على انتقال السلطة السياسية منها مازالت عاصمة للثقافة يتطلع إليها الناس من كل أنحاء العالم. ولكن كيف الوصول إلى كيوتو القديمة من أوساكا الحديثة ؟ إن هذا الأمر قد حدث بطريقة لا تنسى.
وكان صاحبي الياباني الذي اصطحبني وزميلي من أعلى الفندق، يقول لي:
- والآن نذهب إلى المدينة التي تثير اهتمامك
كان يقصد كيوتو، التي سنصلها بعد قليل كما الحلم الذي يمسح المسافات الخضر والعمارات ذات المداخن العالية. وهكذا كانت الرحلة من غرفتي في الفندق إلى مشارف كيوتو في أقل من ساعة، وهكذا كان الانتقال سحريا من قمة الحداثة في العمارة والشوارع التي تسعى فيها السيارات دون توقف أو ضجيج أو زحام، إلى صبوة الماضي المتأججة في المعابد والقصور الملكية. من الأسمنت المسلح الشامخ في وجه السحب الساخر من غضب الطبيعة الذي كان من قدر اليابان، إلى الخشب العتيق الذي شاخت ألوانه ولم تهن عزيمته، فظل متجسدا في عمارة متفاخرة بزينتها، وأسوار عالية تتباهى بحماية من تدور حولهم، وفي قاعات مهيبة في قصور لم يعكر صفو هدوئها سوى آلاف الزوار يحجون إلى الماضي باحترام قدسي وهم يطوفون حول اللوحات الفنية المذهبة وقد ارتضت لنفسها أن تكون فواصل ما بين الغرف العارية، ويصغون إلى إيقاعات خطوات الساموراي بسيوفهم، وكأن الأقدام الواثقة في مشيتها الصلبة تشكل قداسا يتسلل إلى آذان المسحورين من البشر الباحثين عن فتنة الماضي.

أية رهبة في سكون الأشجار وتفريعات الغصون العشوائية في نظام بديع، وهدوئها يدغدغ مخيلتك لترى في حركة الأشجار تصويرا لبشر سكنوا المكان منذ مئات السنين.. أية متعة وأنت تنتقل عبر الحدائق والبرك التي أضفت الأوراق الملونة بزهورها المتطلعة إلى النور قدسية.

مئات من القصور والأمكنة المقدسة في كيوتو، لكن (بوذا) يجلس بحكمته في أكثر من مكان.

في اليابان يذكرون دوما زلزال 1923م، وقد أتت النار على مائة ألف نفس في العاصمة طوكيو وحدها. أما بلدة (كاماكورا) التي قيل إنها أحسنت ذات يوم إلى بوذا. فقد اندكت من أساسها، إلا أن تمثال ذلك القديس الهندي بوذا ظل قائما وسط الدمار. وعند منعطف منعزل في حديقة واحد من قصور كيوتو، كان بوذا يطل علي من معبدصغير، وقد وجدت نفسي معه وجهاً لوجه، وحيدا قد تهت عن ركبي، فتبادلنا نظرة طويلة سرعان ما أدخلت شيئا من طمأنينة كنت قد افتقدتها منذ زمن. سمعته بكل سمعي يتمتم بكلمات غير مفهومة لكنها وصلت روحي واضحة. بعد قليل أتمتم بكلمات امتزج فيها شيء من الآيات ب شيء من الشعر بأدعية لم تكتمل. وكأن حوارا طويلا كان يتدفق في المساحة بين سمعي ووجهه أو بين ابتسامته الآسرة وعقلي الرحمن. علم القرآن. خلق الإنسان . علمه البيان، ثم إن ابن عربي يتحدث عن مركز الكون وسر الجرم الصغير الذي اسمه الإنسان، اللهم لا رغبة لي في رفض مالا أعرف.

وفي المعرض الدائم للصناعات التقليدية اليابانية المقام في كيوتو، رأيت فتاتين من الجيشا تسمحان للغرباء بالتقاط الصور بصحبتهما وعلى الرغم من أن صورة فتاة الجيشا في الأدب، وكذلك في السينما كانت غنية بالخيال المتدفق في مشاهدتنا أومعرفتنا لها فإنها كانت أمامي وكأنها خروج عن التاريخ دون اغتراب. وكما حدث في مسرح (الكابوكي) الذي لم نتعرف عليه في بلادنا على الرغم من شرقيته، وقد كانت لنا دوما عين على المسرح في الغرب على الرغم من غربيته، فإن معرفة مسرح الكابوكي بات مفتاحا للحداثة في المسرح العالمي، وهو يكشف عن حقيقة أن بطولة الإنسان تصبح أكثر أهمية في بيئته المحلية.

وعدت أفكر في بوذا كمؤسس لواحدة من معتقدات قليلة مختلفة مازالت ذات حضور مؤثر في المجتمع الياباني الجديد، على الرغم من تجاوزه في التقدم حدود المستقبل نفسه. كان السؤال الملح يتواتر بين لساني وصورة بوذا الذي بادلني الحديث:
هل يمكن للماضي والتراث والتقاليد أن تكون جميعها عائقا أمام وجه التقدم؟

وعلى ضفاف بركة يابسة امتلأت أرضها بالحصى الملون، وكان ذلك في حديقة خلفية لقصر الإمبراطور، لاح لي (يوكوشيما) الكاتب الذي انتحر احتجاجا على انتهاك التقاليد اليابانية، وهنا كان تساؤل أكثر إلحاحا:
هل خرجت اليابان من جلدها حقا؟
المعبدوالكاهن
أي معبدذاك الذي وجدت نفسي فيه للوهلة الأولى غريبا!
من الذي عقد القران بين اليابان التاريخ واليابان المستقبل! قيل إن عصر (الميجي) هو الذي لعب دور الكاهن الأول في عقد الزواج بين الشرق والغرب، فاستدعى الخبرة الغربية الفنية إلى أرض تاريخية معتدة بالانغلاق على نفسها.

الانغلاق - المنفتح هو الدعاء الذي يرتفع في سماء المعبدالياباني الحديث، وهذا يعني انفتاحا على الآخر دون ضياع الهوية.

وأما العمل، فهو الصلاة اليومية التي تقام في ذلك المعبد. العمل هو السعادة الصوفية عند الياباني المعاصر.

وأما التحدي، فهو البخور الذي تعبق به أرجاء ذلك المعبد، فيكون التحدي هو الهواء القدسي الذي تتنفسه الرئة لتنفثه إبداعا وتطويرا في مجال الإنتاج والخلق.

كانت الأداة العسكرية وسيلة لتحقيق الحلم القومي في التوسع والسيطرة، إلا أن انكسار ذلك الحلم لم يخلق سوى التحدي في تحقيقه والتوسع التكنولوجي والسيطرة على المستقبل.

وكنت ومازلت أفكر وأنا في طريق العودة من رحلة قصيرة إلى اليابان لم تكن بكافية لفهم آلية الطقوس الحديثة في المعبدالمعاصر، كنت أفكر في الأنظمة العربية التي مازالت تصر على أن النموذج الغربي في التقدم هو المثل الذي يمكن أن يقتدى به ودون أن تصل إليه حقيقة، وكنت أفكر في أن تلك الأنظمة لم تعط أهمية لاكتساب معرفة واسعة عن التجارب المشابهة، وأبرزها دون شك التجربة اليابانية المتفردة.

قد تكون اليابان أتقنت فن التمويه في المسرح، وأنها ابتدعت طريقة في التقليد هي جزء ممهد لعبقرية الاختراع، ولكنها أيضا فعلت كما فعل (كيروساوا) المخرج السينمائي الياباني وهو يبدع (الملك لير) بطريقته الخاصة. والملك لير اختراع شكسبيري فذ، بات بين يدي كيروساوا اختراعا يابانيا، لوأن شكسبير رآه لقال لنفسه: آه لو استطعت أن أكتب الملك لير العجوز بطريقة ذلك المخرج العظيم العجوز.

 

وليد إخلاصي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات