نهاية المملوك الآبق!

نهاية المملوك الآبق!

بعد قليل لن تعود تنزف جراحي. سيتوقف الدم في العروق، لأنه لن يعود هناك دم ببساطة. وربما انطفأت الشمس أيضاً، لأن عيني ستغمضان إلى النهاية. ومن طرف الرجمة، كوم الحجارة الذي أرقد عنده، وعندما أرفع رأسي الآن ـ أقصد ما تبقى من رأسي المهشم ـ أرى رءوس الحيوانات المتوحشة، الكلاب الضالة، والضباع التي أتت على عجل، تطل بأنوفها، تنتظر لحظة موتي. لحظة تحولي إلى جسم بلا روح.

إن الشمس تصب حممها في رأسي، في حفرة عميقة، أظنها بحجم هذه الأرض. ولن أستطيع أن أمد يدي لأوقف النزف، أو على الأقل لأقدر شكل الجراح. لقد أفسد أسيادي رأسي وكسروه، بعد أن أفسدوا روحي قبل ذلك، فخسرت كلا من الجسم والروح.

وقد حاولت أن أبتعد عن هذا المكان الذي أرادوا أن يكون قبري، ولكني لم أزحف، خلال ليلة كاملة، خيل إليّ أنها ألف يوم، إلا مسافة قصيرة. أما صوتي فلم يرتفع، وما الفائدة أن يرتفع؟ ما الفائدة أن تعمل هذه الآلة الجافة كحطبة في البيداء الرجيمة القابعة في داخل الجحيم؟

لقد متُ، أو ظنوا أني مت. ولو عرفوا أن في بقية من حياة، لكانوا أجهزوا عليها أىضا. لأن الحقد والكراهية التي في عيون الأسياد لم يكن لهما نهاية.

ولقد كان السادة محقين. كانوا محقين في كل شيء. إن الإنسان يولد إما عبداً أو سيداً. فإذا كان سيداً فإنه على حق دائماً. أما أنا فعبد حقير. عبد حقير آبق، ينبغي أن يأخذ ما يستحقه من العقاب.

لقد تحمل مني السادة كل ما فعلت. تحملوا شراهتي في أكلي وشربي، تحملوا غروري، وتحملوا غضبي وقوتي. ولكنهم لم يتحملوا تمردي. كان تمرداً جارفاً. تمردي ولد ونما شيئاً فشيئاً. إن الاسياد غير محقين في شيء واحد فقط: إنهم لم يقمعوا تمردي في أوله، بل تركوه ينمو ويكبر، حتى لم يعد يُحتمل، فصار من الواجب اجتثاثه من الجذور.

كانت بدايتي طيبة. جاء الأسياد إلى بلدي وأخذوني إليهم فرحين. أدخلوني إلى بيوتهم، كأنما يدخلون ثوراً طيعاً. ولقد كنت طيعاً في البداية كنعجة. كنت أدفع عنهم الأذى، وأزرع أرضهم وأحصدها، وأحرس بيوتهم وأحمي نساءهم، وكنت أرعى دوابهم. كنت بالنسبة لهم كل شيء.

كان لي جسم مارد. وكانت لي أنياب أسد. وكنت لين العريكة كبغل. كنت ألاعب الأطفال وأركض معهم في الحارات والأزقة وبين الزروع، وعلى بيادر الحصاد بين أغمار القمح والعدس كنت أقضي أمتع وقتي. وكان الأسياد ينظرون إلي بفرح ويقولون لبعضهم: انظروا إلى هذا العبد، إنه أفضل من أسياد كثيرين.

كنت أملك قوة حصان. وقد سخرت لهم قوتي. وكثيرا ما حدث أني كنت أجر العربة مبدلا حمارين، أو أجر المحراث في الأرض البكر بدل الثور الذي مرض فجأة. وكان أسيادي طيبين، طيبين جداً. وكانوا لطيبتهم يفتخرون بي، ويفاخرون بي الأسياد الآخرين، الذين لا يملكوني، ثم يقارنوني بعبيد آخرين لا يطاولوني في الهمة وفي التدبير.

وهكذا ظلوا يرفعون بي، حتى ملكوني عليهم جميعاً. بقيت أرتفع في عيونهم وفي قلوبهم إلى أن وصلت إلى السحاب، إن الأسياد يمهدون لك طريق الخطأ. ويطلقون يدك في المنطقة الحرام، إلى أن يجدوك متلبساً. يحاسبونك مرة واحدة. يشلون يدك ويضعون لك الحدود.

كان رأيي يؤخذ بالحسبان، دائما، وفي كل مسألة. وكان لهزة رأسي معنى. ورفضي كان يعني الشيء الكثير. فإذا قلت لا، فهي لا حتما، لا تعود. كلمتي لا تنزل الأرض. حتى إذا قلت نعم، سارت الأمور كما يشتهي القوم فقد كنت أريد. كنت أملك الإرادة، وكنت أملك القوة، وكان القوم يحترمون إرادتي ويهابون قوتي.

لم يكن أحد من الأسياد يستطيع أن يجابهني، فقد كنت أستطيع أن أطرح الجميع أرضا. وكنت أقدر أن أصارع أي رجل فأصرعه بضربة واحدة. كنت "ضريّب عصا" من الدرجة الأولى. ولم يكن في كل البلدة من يستطيع أن يقف أمامي، بمبارزة بالعصا. لقد كنت ألاعب العصا بيدي، كما يلاعب عازف الناي آلته. أرقص من النشوة وأنا أضرب بكل قوتي جبالا تنهار أمامي وفلولا تهرب من وجهي. لم يكن أحد يرغب في أن يجرب قوتي في القتال. وكم هم الرجال الذين دستهم تحت أقدامي، حتى أصبحت بطلا متوجا دون قتال.

طعامي كان طعام أسياد، وكان هناك من يقول إنه طعام ملوك. فإذا أحضر أسيادي إليّ طعاما رديئا، إلى السهل، حيث عزبتنا الصيفية مثلا، رميت لهم "الزوادة" في وجوهم، وأضربت عن الطعام إلى أن يأتوني بغيرها. حتى صار الأسياد ونساؤهم يتحاشونني ويرغبون في مرضاتي دائماً.

ولكن الشيطان لعب برأسي، أو قل الشيطان بنفسه هو الذي أطاح برأسي. وعندما يكون الشيطان تكون المرأة، تكون الغريزة نوعا من ثورة اللحم والدم: فقد أحببت ابنة الأسياد، أسيادي . تحول قبحي ـ في عيني ـ إلى جمال، وقسوتي صارت إلى رقة. أغواني الشيطان. وهي أحبتني أيضا، أو هكذا ظننت، أو ربما أحبت قوتي. إن المرأة تحب الرجل القوي مهما كان. تحب الرجل الذي يطيعه الرجال الآخرون، الذي تكون كلمته نافذة. المرأة لا تنظر إلى الجمال، بل إنها تعبد الجاه.

وكما أن الحب أصل الحياة، فهو أصل البلاء أيضاً. إن طريق الحب مفروش بالورد في البداية فقط. وفي البداية فقط ترى كل شيء ناعما، وتصبح سعيداً خفيفا كريشة، رقيقا مثل نسمة، تتفتح نفسك في الصباح كما تتفتح في الندى برقوقة حمراء. فإن لم ينته الحب نهايته الطبيعية فيصير إلى ملالة أو زواج، أدى حتما إلى الموت أو إلى الجنون.

إن العبد الحقيقي هو المحب. وهكذا حولني الحب من سيد متوج إلى عبدحقير. لاشيء ينقص من هيبة الرجل ويحط من قدره أكثر من الحب. إن الحب يحول أعتى الرجال إلى خرقة، يدفعهم إلى الموت أو الجنون. أما أنا فقد اخترت الموت، لأني كنت أخشى من الجنون. كنت قويا بحيث أختار الطريق الأصعب. والطريق الأصعب هو أن أتحدى الجميع، أن أتحد بمن أرغب وبما أريد. وقد كنت أريد فتاتي أن تبقى معي، ألا تبتعد، ألا تتزوج.

ولكن الحرة لا تتزوج العبد، حتى لو أحبها، حتى لو أحبته، أو أظهرت له أنها تحبه. فالحب غير الزواج. وهناك تقاليد للقوم ينبغي مراعاتها. لم يكن أهل حبيبتي يمانعون في أن أتعلق بها، فقد كانوا يقدرون شهامتي، وكانوا يعلمون مقدار حبي لها. ولكن حبيبتي كان ينبغي أن تتزوج في نهاية المطاف، ولا فائدة من التأجيل. كان يجب أن تذهب وتترك البيت الذي أنا فيه.

وبالفعل حدث ما كنت أخشاه. جاء سيد آخر، ابن سيد، وتمت الموافقة عليه بسرعة فائقة لم أتوقعها. وتمت الخطبة أيضا، في يوم عاصف، في زمن حدثت فيه الأمور بسرعة، وكأن الناس أيامها كانوا متعجلين أمرهم، راغبين في أن يصلوا إلى غاياتهم في مثل لمح البصر.

وقد ظن أهل البنت أني سأكون سعيدا لسعادتها، مادمت عاجزا عن وصالها. إذ هكذا قرأوا عن الحب أو سمعوا. ولكني لم أكن سعيدا البتة. لقد رأيت الحزن في عينيها فحسب، فخلت الدنيا حزينة تبكي مثلها.

وكان حزنها يجعلني أنقبض، فتصبح الدنيا في عيني مثل خرم إبرة، لا تقدر أن تجلس فيهـا أو تقيم. وكنت أشتاق رؤيتـها دائما، وكان ذلك يزيدني أملا ووقاحة في نفس الوقت:تخيلـتها وهي ترفض. تخيلتها تقول لا من أجلي، بصمت ودون تصريح. فإن لم تكن تستطيع أن تتزوج من عبدأسود، من رجل أحمق، فهي على الأقل يمكن أن ترفض الزواج، ترفض من أجل ألا تغيب.

ولم أكن أمانع في أن تتزوج طبعا، فقد كنتُ أدري تقاليد الناس، ولكنها كان يجب أن تبقى، أو على الأقل تبقى قريبة، أن تبقى تروح وتجيء أمامي، أن تظل تدخل المخزن وتخرج منه، أو تركب العربة التي أجرها، أو تضحك من كلماتي، أو تعجب لقوتي، كلما برزت هذه القوة محطمة الخصم العنيد.

ولم أكن استطيع أن أقول ذلك صراحة. لم أقدر أن أعارض زواجها على رءوس الأشهاد، فالحب المستحيل لا يمكن التعبير عنه بكلمات أو بطلبات منطقية، ولكني كنت أستطيع أن أفعل شيئاً آخر، أن أغضب، وأن أتقد، وأن أحطم كل ما كان يقف في طريقي.

وهكذا صرت مجنوناً، كلما اقترب يوم الزفاف. وزاد جنوني أن حبيبتي لم تكن تعارض ما خططوا لها أن تكون، بل بدا لي أحيانا أنها سعيدة، وأنها تستجيب لهم، على الرغم مما يبدو من رفضها وامتعاضها، لكثير من طلبات الزوج القريب.

وهكذا صرت أعادي الجميع. ومن أجل أن أعارض موعد الزفاف، فقد عارضت كل شيء. عارضت حرث الأرض، وعارضت زراعة البطيخ. عارضت زراعة الأرض، كما عارضت تأجيرها. عارضت العمل وحدي كما عارضت استئجار عمال آخرين. ثم عارضت موعد الزفاف المحدد ـ لا الزفاف نفسه. عارضته بكل ما أملك من قوة، وما أملك من جبروت.

وكم كنت مخطئا في معاداتي للأسياد. لأن العداوة لا تلبث أن ترتد على صاحبها. لم يعد الأمر محتملاً، فخاصمني الجميع بدورهم. وتحول حبهم القديم لي إلى حقد دفين. كان الخوف هو ما يمنعهم أن يمسكوا بي ويلقوني في جوف النار. وكان الحقد من جانبهم يجعلني أعمى أكثر. وغامت نفسي في غربة تائهة، بين ظهراني الذين كنت في الأمس عبدهم وسيدهم، حاميهم وربيبهم.

وانتحيت مكاناً قصياً في الدار لا أغادره، ثم غادرت إلى العزبة ومكثت هناك. وأرسل إلي أسيادي من يسترضيني فلم أرض. وكم تمنيت أن يستمروا في محاولات الاسترضاء. ولكن الأسياد قليلو الصبر دائما. ثم صاروا يرغبون في التخلص مني، وحاكوا من أجل ذلك المؤامرات، واستشاروا أسياداً آخرين. وقد قر رأيهم أن يرسلوا إلي من يصرعني، فصارعتهم عن آخرهم فعادوا خائبين مهزومين. وبحثوا في كل البلاد عمن يستطيع أن يوقعني أرضا فلم يجدوا، لأن جميع من كان يسمع عني كان يخشاني من بعيد.

واستمرت الأمور على هذه الحال شهرا أو يزيد. وفي الأخير هرب الأسياد البنت إلى عريسها في عتمة الليل. لم يكن عرسا، ولا جرى احتفال. لم يقرع طبل ولا زمر، ونامت القرية ليلتها، وفي الليالي التي بعدها في وجوم.

كل ذلك حدث وأكثر منه، إلى أن جاء يوم أحضر فيه أسيادي عبداً آخر، كان المفروض أن يحل محلي. كانوا يريدون أن يحرثوا الأرض ويزرعوا المواسم. وكانوا يكتفون مني أن أذهب بسلام. وكان المفروض أن أقاوم، أن أقاوم أي تغيير وأن أفرض رأيي مهما كان. ولكن بعد زواج حبيبتي، لم أكن مستعدا لشيء. كنت مستعدا أن يتركوني لحالي. لم أكن مستعدا للقتال ولا للمقاومة، ولا حتى لمجرد التفكير. ولم أكن لأستطيع أن أصمد. ولو جاء إليّ أي رجل منهم وطلب منازلتي لاعتذرت. لم أكن بحاجة إلى هذا الجلف الطويل الأسود، لكي ينحيني عن مكاني. كان يكفي ولد صغير يقول لي ارحل فأرحل بسلام. ولكنهم كانوا خائفين. كانوا خائفين من ثورة أخرى من ثورات غضبي. وبدل أن يرسلوا من يغلق علي بابي، فأظل في الداخل حتى أموت جوعاً، أرسلوا من ظنوا أنه يستطيع أن يمرغ وجهي بالتراب.

سد علي العبد الجديد طرق الخروج جميعا. ضايقني. أردت التخلص منه فلم أستطع. رغبت في التودد إليه فلم يرض. كان أسيادي قد عبأوه بكل الكره الذي في قلوبهم وبكل الخبث. أردت أن ارجوه، أن أبكي أمامه، ولكني لم أقدر، فقد جفت دموعي. وكنت أود لو أصرخ، إلا أن صوتي كان مثل صوت أفعى سدت عليها منافذ الهرب جميعا. اضطررت للمنازلة اضطرارا دون رغبة وبلا حماس. ولأول مرة أحسست بالعصا بين يدي كقلم في يد جاهل. اردت التنازل والذهاب، ولكن جمعا كبيرا من المتفرجين كان قد جاء ليرى هزيمتي. لم أعد أستطيع التقدم ولا التأخر.

كلا.. لم يتغلب علي العبد. بل أنا الذي أردت التنازل له عن طيب خاطر. ذهبت إليه مادا يدي. كنت أريد أن أضمه إليّ. أن أحمله وآخذه بعيدا عن هؤلاء الأسياد الملاعين. وندمت لأني لم استغل الفرصة قبل ذلك. كنت أريد لو أقول له كل شيء أو أي شيء، فإن لم يكن بصوتي فعلى الأقل بعيني.. ندمت لأني لم أخرج قبل الآن، ولأني بقيت رهين حبسي الاختياري، وإلا لما كنت أضطر إلى هذه المنازلة، التي يجبرونني فيها على أن أقتل ابن جلدتي، أن أنزع شرخاً من لحمي ودمي.

كنت أتلذذ بضرب الأسياد وإهانتهم، وجعلهم يركضون أو يرقصون وهم يطيعون أوامري. أما هذا العبد، هذا الشاب الطويل المسكين، فما شأني به؟ إنني أمقته فحسب. أمقت فيه هذا الذل الذي يجعله يُذعن لكلمة الأسياد كما أذعنت أنا من قبل، فيحدث له ما حدث لي. إنني أكره نفسي فيه. وبالفعل قررت أن أؤذيه، فأؤذي نفسي من خلاله. ولم يكن أمامي إلا أن أحطمه: أحطم نفسي. وبما أنه لم تكن هناك طريقة للخروج من هذا المأزق، إلا هذه التي قررها أسيادي الأوغاد، فقد حسمت أمري على القتال، واستجمعت ما بقي عندي من قوة وعناد.

أما هو فلم يكن فاهماً أي شيء. شجعه أولئك الذين تحلقوا حوله من قريب. أما الذين أرسلوه، فكانوا ينظرون مختبئين ـ من الثقوب. كانوا يخشون أن يظهروا جليا، كانوا يخافون عاقبة الأمور.

هكذا رد المسكين يدي الممدوة للسلام. وعالجني بضربة أصابت كتفي، ثم هوى بعصاه على رأسي، فانكسرت العصا فوق رأسي. وتعجل القوم النهاية فأعطوه عصا أخرى. أما أنا فترنحت قليلاً، متظاهرا بالسقوط، ولكن كنت بعيدا عن السقوط. بل أردت أن أكرر المحاولة، محاولة السلام، لولا ذلك الازدراء الذي كان يقابلني به الحاضرون.

وغامت الدنيا في وجهي. إذ رأيت تلك الرءوس تخرج من الجحور لتعلن هزيمتي. فوقفت على رجلي، وحزمت أمري من جديد، وتقدمت نحو الشاب كالمجنون. وعالجته بضربة صغيرة ضعيفة في المكان الذي لا أريد، رغبة مني في الوصول إلى المكان الذي أريد. فانحنى، تاركا لي حرية الهجوم، فعالجته بضربة أخرى. وصرخت صرختي المدوية المعهودة، وهجمت عليه، وتركت عصاي تستريح فوق أم رأسه، فسقط بعد عدة ضربات، سقط مترنحا على الأرض كالطود.

وكان المفروض أن أتركه بعد هذا السقوط، فهذا حكم القتال، أن يترك من سقط على الأرض بلا حول. ولكن صار الجمع يتراجع، وبهتت العيون، فلم أتركه.

أجهزت عليه، وعندما أحسست أن عرقا من عروقه كان لايزال يُنبئ بحركة ما، فقد أجهزت على الحركة، ثم أجهزت على العرق. لا أعرف لماذا ركبتني الحماقة فجأة، ولماذا لم أترك للرحمة في قلبي أي باب.

وتركت العبدجثة هامدة، وفرقت بقية الجموع بحركات من يدي فولوا هاربين. ونظرت إلى يدي فكانتا ملطختين بالدم. وشعرت بندم شديد. وعدت إلى حيث ألقيت ضحيتي، وتفرست فيه، فكان نائما بسلام. ومن هنا فصاعدا شعرت باشمئزاز عظيم. كنت أريد أن أتقيأ كل شيء. كنت أريد الموت بأقصى سرعة.

وهكذا وقعت فريسة السخونة والمرض، وأضربت عن الطعام، وخارت قواي جميعاً. وكنت أتمنى الموت وأراه بأشكال عديدة، ولكنه لم يكن يأتي. وعرف ذلك الأسياد عني. إذ وجدوا أن الطعام الذي يضعونه عند بابي لا آكل منه شيئاً، بل أعيده كله، فيئسوا مني. فلما أطمأنوا لوضعي الجديد، ورأوني أغرق فريسة للمرض، أرسلوا من يجهز علي نهائيا.

كنت نائما عندما أحسست بارتطام شيء ثقيل برأسي. وكان هناك من يُفتت بطني بسكين رأيت نصله يدخل ويخرج بين أضلاعي. ثم جرني بعضهم وهو يحسب أني مفارق الحياة. وجاءوا بي إلى هذه الرجمة ليخفوا جريمتهم.

وهرب الأوغاد على عجل، خافوا أن يروا نتيجة عملهم. خافوا أن يدفنوني، كنت أرعبهم ميتا كما كنت أرعبهم حيا. فرموا بي هكذا في العراء، وهم يحسبون أنهم انتهوا مني. وهم انتهوا مني حقيقة في جميع الأحوال. فلم تعد في جسدي إلا ذبالة روح قاربت أن تنطفىء. وما عدا ألمي الفظيع وسقوطي في مهاوي المهانة والمرض، فقد كنت أشعر شعور المسافر الذي أوشك أن يغادر مدينة عاش فيها سنين طويلة. ولو كتبت لي حياة ـ وهذا مطلب بعيد ـ بعد كل ذلك، فلا أعرف كيف أستطيع أن أعيش، ومن سوف أكره أكثر، شخصي أو شخص الأسياد؟ وها هي علامات الغيبوبة تحلق في سمائي من جديد. وتساوت عندي علامات الحياة والموت.

 

أحمد هيبي