ولكي يتضح الجو
الجدالي والسجالي الذي جرت فيه لفترة مناقشة قضايا الحريات الإنسانية الأساسية في
الوطن العربي، وربما في العالم الإسلامي، سأورد هنا اقتباسا من محاضرة بعنوان:
"الإسلام وحقوق الإنسان: التعارض والتوافق" صاحبها قومي وليس إسلاميا هو المفكر
والقانوني المصري المعروف "عصمت سيف الدولة". تبدأ المحاضرة على النحو التالي: "يجب
أن أعترف بأنني لست من أنصار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أصدرته هيئة الأمم
المتحدة يوم 10 ديسمبر 1948 فقد علمنا تاريخنا الحضاري الحذر من الكلمات الكبيرة
النبيلة، حتى عرفنا من واقع تاريخنا كيف تتحول الكلمات الكبيرة إلى كبائر فنحن لا
نستطيع أن ننسى أن أصحاب إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي هم الذين لم يلبثوا -
قبل أن يجف حبر إعلانهم - أن أعدوا العدة وأرسلوا قواتهم بقيادة فتاهم نابليون
لاحتلال مصر. ولا ننسى أن هيئة الأمم المتحدة قد أصدرت الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان في ذات العام الذي اعترفت فيه بدولة الصهيونية، التي اغتصبت فلسطين وسلبت
شعبها كل حق مما ورد في الإعلان حتى حق الحياة..."
التعصب وحرية
الإنسان
إن ما قاله "عصمت
سيف الدولة" في المحاضرة يشير إلى وجود رأي سائد بين عامة المثقفين في الوطن العربي
- يتجاوز الإسلاميين إلى فئات واسعة من القوميين وربما تجاوز هؤلاء أيضا إلى من لا
يصنفون أنفسهم ضمن أحد التيارين - هذا الرأي أو الانطباع مؤداه شك عميق بالغرب كله
وما يصدر عنه بسبب هيمنته على العالم، وازدواجية معاييره. لكن ليس هذا وحسب، بل إن
في المحاضرة ما يشير إلى عمق واتساع تأثيرات ما يسمى بالصحوة الإسلامية أو يقظة
الإسلام. فالمرجعية العليا - بعد قرن ونصف من اختراق الغرب لعالم الإسلام على كل
المستويات - تعود للإسلام وشريعته، وفكرة "القانون الطبيعي" المعلم الرئيسي
لليبرالية تصبح مدعاة للشك والإدانة، بل ويتهم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
بالإغراق في الفردية.
إن هذا لا يعني أن
رجالات حركات الإسلام السياسي اليوم غير معنيين بمسائل حقوق الإنسان، بل على العكس
من ذلك، فهم يقفون اليوم في صفوف المعارضة المتقدمة لأكثر الأنظمة في العالم
الإسلامي. وفي الوقت الذي كان فيه التداول السلمي للسلطة لصالحهم، كانوا - ولا يزال
بعضهم - يدعون للتغيير بالعنف. وفي الوقت الذي كان فيه الجمهور ينتظر منهم إشارة
للاصطفاف وراءهم في عملية التغيير، كانوا هم يقبلون على أعمال تروع الجمهور وتصرفه
عنهم. ولكنهم منذ أحسوا أنهم صاروا فريقا سياسياً حقيقياً على الساحة الاجتماعية
والسياسية، انشغلت فئاتهم الأساسية بقضايا الحريات وحقوق الإنسان والحريات
السياسية، وتعلموا الحديث مع الفرقاء الآخرين على الساحة بلغاتهم، دون أن ينسوا
أطروحتهم الخاصة: في المرجعية، وفي تطبيق الشريعة، وفي الدولة الإسلامية. وقد لجأوا
في ذلك إلى ذاك التراث الذي بدأ في ثلاثينيات هذا القرن محاولا أن يعرض نظيرا
إسلاميا لكل أمر يعتبره المسلمون من إيجابيات الغرب. حتى إذا برزت الخيبة من الغرب
على الساحة ازدادت سجالية الخطاب حدة، وصارت البدائل الإسلامية أفضل. ولما حدثت
القطيعة في الستينيات صار الأمر سجاليا بحتا، ورفضا قاطعا: لتعود الأمور إلى شيء من
الهدوء في الثمانينيات فيبدأ الحديث عن كل شيء متعلق بالحقوق والحريات بمضامين
مشابهة لتلك التي رفضت من قبل، لكن بمصطلحات ومفردات إسلامية، مصرة على الاختلاف أو
التمايز على الأقل. فبدلا من القانون الطبيعي، هناك الاستخلاف الإلهي، وبدلا من
حقوق الإنسان، هناك الحقوق الشرعية، وبدلا من الديمقراطية هناك الشورى، وبدلا من
البرلمان هناك أهل الحل والعقد.. وقد كسب رجالات "الصحوة الإسلامية" هذه المعركة
الثقافية، أعني معركة المصطلح، وجر خصومهم إلى القضايا التي يثيرونها هم، ولا
يزالون يكافحون لاختراق الساحة السياسية في بلدان كثيرة. وسأعرض فيما يلي خلاصة
للاهوت حقوق الإنسان الذي صاغه مفكرو الصحوة ودعاتها، وإن لم يكونوا جميعا من
الحزبيين.
ويتضمن العرض ثلاث
فقرات، تتعلق الأولى بفكرة الاستخلاف الإلهي للإنسان، والثانية بحقوق الإنسان
المستنبطة من "مقاصد الشريعة". وفي الثالثة أجري مقارنة بين إعلانين إسلاميين لحقوق
الإنسان، صدر أحدهما عام 1981، والآخر عام 1992 .
استخلاف
الإنسان
تستند مسألة
الاستخلاف الإلهي للإنسان في الأر ض إلى الآيات القرآنية التي تصرح بذلك وبخاصة ما
جاء في سورة البقرة آية(30): وإذ قال ربك
للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل في ها من يفسد فيها ويسفك الدماء
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وما جاء في سورة الأنعام آية
(165)وهو الذي جعلكم خلائف الأرض وسورة فاطر
آية (39)وهو الذي جعلكم خلائف الأرض فمن كفر فعليه
كفره. وما كان هناك خلاف بين المفسرين القدامى في مسألة
الاستخلاف بحد ذاتها، لكنهم اختلفوا في معناها. فمنهم من قال إن معنى ذلك أن الجنس
البشري الحالي خلف كائنات سابقة على هذه الأرض ليسكنها ويعمرها، وذلك بناء على
إشارات في آيات قرآنية أخرى تخاطب أمم الأنبياء باعتبارهم استخلفوا بعد آخرين
سبقوهم. ومنهم من قال: بل إن الاستخلاف كان منذ البداية كما هو واضح من الآية
الواردة في سورة البقرة آية (5). وقد استمر المفسرون يميلون إلى الرأي الثاني،
بخاصة مفسرو حقبة الصحوة الإسلامية. على أن الفرق بين مفسري النصف الأول من القرن
العشرين، ومفسري الصحوة لا ينحصر في إيثار الرأي الثاني على الرأي الأول، بل هناك
اختلاف في النظرة والسياق، وموقع فكرة الاس تخلاف في المنظومة العامة التي يؤسسها
كل من الفريقين على تلك الفكرة أو الرؤية. فالإصلاحيون الإسلاميون، ورجالات الصحوة
على حد سواء يعتبرون استخلاف الله للإنسان دليلا على ما خصه الله به من رعاية
وإكرام وتعظيم.
ويعود رجالات
الصحوة من أصوليين وغير أصوليين للاتفاق حول مفهوم "الأمانة" الوارد في القرآن. ففي
القرآن: (سورة الأحزاب آية 72) إنا عرضنا
الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان
إنه كان ظلوما جهولا. وقد اعتاد المفسرون القدامى للقرآن على تفسير هذه الكلمة
بأنها الإسلام أو الطاعة أو الإيمان أو الشريعة أو التكليف القائم على العقل.
وتبعهم المحدثون من الإصلاحيين الذين ركزوا على مسألة التكليف. وهذا ما ذهب مفسرو
الصحوة الإسلامية إلى فهمه فهما خاصا، فنظروا إلى "أمانة التكليف" باعتبارها تطبيق
شريعة الله في الأرض. أما الإصلاحيون الجدد فقد اعتبروا الأمانة هي المسئولية، التي
ينبغي أن يتحملها المسلم تجاه نفسه ومجتمعه وعالمه. واستشهد بعضهم لهذا المعنى
بالآية القرآنية القائلة: وكذلك جعلناكم
أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (سورة
البقرة آية 143). فالأمة الوسط تنظر إلى نفسها باعتبارها تتحمل مسئولية أخلاقية
كبرى تجاه البشرية، وهذا معنى شهادتها على الناس، إنها في الحقيقة بمقتضى هذه
المسئولية شاهدة لهم لا عليهم. ويدنو بعضهم في فهم معنى الشهادة إلى ما يشبه المعنى
الذي يقصده الفكر المسيحي الحديث من الكلمة نفسها.
واستخدم الإسلاميون
حديث الفقهاء عن "مقاصد الشريعة" للوصول لبناء منظومة إسلامية لحقوق الإنسان،
متمايزة عن المنظومات الغربية، وعن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. قال الشاطبي"إنا
استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد" والمصلحة في الأصل عبارة عن جلب
منفعة أو دفع مضرة. ولهذا فإن مقاصد الشرع من الخلق خمسة هي: أن يحفظ عليهم دينهم
(حق الدين)، وأنفسهم (حق النفس)، وعقلهم (حق العقل)، ونسلهم (حق العرض)، ومالهم (حق
المال أو الملك). ولا يسمي الفقهاء هذه الخمس حقوقا، بل يسمونها مصالح للعباد لا بد
من مراعاتها إن كانت ضرورية.
إعلان
إسلامي
ومضياً مع إبراز
خصوصية الإسلام، وتمايز نظامه الفكري عن النظم الغربية، كثرت في حقبة الصحوة
الإسلامية محاولات "التقنين" لمبادئ الشريعة سواء في مجال وضع دستور إسلامي أو
إعلان إسلامي لحقوق الإنسان. وسأعرض هنا لإعلانين إسلاميين لحقوق الإنسان في محاولة
لفهم مآلات نزعتي الخصوصية والتقنين في مجال حقوق الإنسان على وجه
الخصوص.
أما المحاولة
الأولى فتحمل العنوان: "البيان الإسلامي - العالمي لحقوق الإنسان" - وقد صاغه
خمسون مفكرا وشخصية عامة إسلامية برعاية المجلس الإسلامي بلندن، وأعلن في اجتماع
عقد بمقر منظمة اليونسكو بباريس بتاريخ سبتمبر 1981 ويقول واضعوه في المقدمة إنه
مستمد من القرآن الكريم والسنة الطاهرة، ولذا فإن المبادئ الواردة فيه لا تقبل حذفا
ولا تعديلا ولا نسخا ولا تأويلا! بل هي حقوق أبدية. وبعد تمهيد إعلاني في اثنتي
عشرة مادة، يأتي البيان نفسه متضمنا تركيزا للحقوق في ثلاثة وعشرين بندا هي: حق
الحياة، حق الحرية، حق المساواة، حق العدالة، حق الفرد في محاكمة عادلة، حق الحماية
من تعسف السلطة، حق الحماية من التعذيب، حق الفرد في حماية عرضه وسمعته، حق اللجوء،
حقوق الأقليات، حق المشاركة في الحياة العامة، حق حرية التفكير والاعتقاد والتعبير،
حق الحرية الدينية، حق الدعوة والبلاغ، الحقوق الاقتصادية، حق الملكية، حق العامل
وواجبه، حق الفرد في كفايته، حق بناء الأسرة، حقوق الزوجة، حق التربية، حق الفرد في
حماية خصوصياته، حق حرية الارتحال والإقامة.
وأما الإعلان
الثاني فيحمل عنوان: "حقوق الإنسان في الإسلام". وقد وضعته لجنة مكونة من علماء
وفقهاء مسلمين بتكليف من منظمة المؤتمر الإسلامي عام 1980، لكن المؤتمر لم ينظر
فيه بعد وضعه، لذا فقد نشره أحد مؤلفيه عام 1992 بدمشق. وهذا البيان أو الإعلان
يراعي في شكله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أكثر من الأول فيتحدث عن اثني عشر
مبدأ هي: الحقوق الأساسية، والحقوق السياسية، وحقوق الأسرة، وحق الانتماء والجنسية،
وحقوق التعليم والتربية، وحقوق العمل والضمان الاجتماعي، وحقوق الكسب والانتفاع
والملكية الأدبية، وحقوق التقاضي، وحق التنقل واللجوء، وحقوق وواجبات أثناء الحروب،
وحرمة الميت، وحدود هذه الوثيقة الشرعية وتفسيرها.
وكما سبق أن قدمت
فإن البيانين يصران على أنهما مستمدان من نصوص القرآن والسنة أو الشريعة. وفيما كان
صيغة البيان الأول صيغة مثقفين، جاءت صيغة البيان الثاني صيغة قانونيين. لكن
البيانين- إذا تجاوزنا التمايزات الضئيلة - يسترشدان استرشادا شبه كامل بالإعلان
العالمي لحقوق الإنسان من حيث القضايا المطروحة، بل ومن حيث صيغة الطرح. وهما
مفيدان في تثقيف عامة المسلمين، وإيضاح أهمية المسألة بالنسبة لهم. لكن الواضح أن
واضعي البيانين ما كانوا يقصدون بوضعهما الجمهور المسلم بل النخب المثقفة الغربية
لتسويغ تمايزهم، وحقهم في ذلك. والطريف أن واضعي البيانين لا يذكرون الفقه، أي
الاجتهاد، الذي يكمن وراء "مقاصد الشريعة "كما فهمها القدامى. بل يريدون لبيانيهم
يقينية تقطع كل جدل. لذلك زعم واضعو البيان الأول له الإطلاقية والعصمة لأنه مستمد
مباشرة من القرآن والسنة. أما واضعو البيان الثاني فذكروا الشريعة مصدرا وحيدا له،
وكان بوسعهم ذكر الفقه الذي أنجز مسألة المقاصد، التي ظهرت نتيجة تطورات ثقافية
وفقهية استمرت قروناً.
آراء غير
مرضية
ذكرت في بداية هذه
الكلمة كتابين أحدهما لفرانز روزنتال، والآخر لآن ماير. وذكرت أن ردود الفعل عليهما
والكتب الأخرى المشابهة من جانب المسلمين ما كانت مرضية. فالأول نموذج للاستشراق
التقليدي الذي كانت له فوائد، لكنه يبقى ضيق الأفق، فيلولوجي النزعة. والثاني يبلغ
حدود القول إن المسألة مسألة ثقافة، ولا يملك المسلمون المعاصرون ثقافة معنية بحقوق
الإنسان! وما حاول المسلمون تفحص الدعاوي الواردة في الكتابين تفحصا نقديا يخدم
قضية الإنسان في حاضرهم ومستقبلهم، بل اكتفوا بالإدانة والاتهام بالتآمر والدوران
حول الذات، وليس صحيحا أن المثقفين الإسلاميين غير معنيين بقضايا حقوق الإنسان
والديمقراطية. ففي السنوات الأخيرة، وبعد أن صاروا فريقا سياسيا مهما في أكثر
الأقطار العربية، أقبلوا على الكتابة والنشر في هذه المسائل، لكن بمصطلحاتهم هم،
وفي الوقت الذي يشدد فيه الأصوليون من بينهم على أهمية رأس السلطة الذي سوف يمسك
بين يديه بأزمة تطبيق الشريعة، يصر المعتدلون من رجالات الصحوة على ضآلة السلطات
التي تعطيها الشريعة للحاكم، ويقولون إن السلطان هو للشريعة وليس للأفراد ولا
للهيئات وإن كانت منتخبة. ويشكو هذا التصور في صيغته من اللاهوتية الشديدة التي
تسود سائر أجزائه، والتي تجعل من الله أو شريعته المصدر المباشر لكل ما يتعلق بحقوق
الإنسان، التي هي في الأصل "تكاليف" وليست حقوقا من وجهة نظرهم. وهم يعتقدون أنهم
عندما يؤكدون الأصل الإلهي للحقوق والواجبات إنما يعطونها قوة أكبر، دون أن
يلاحظوا أن منظومتهم في أكثر أجزائها إنما هي اجتهاد واستنباط قاموا به هم، وليست
أمرا إلهيا منصوصا عليه. وهكذا فإن أكبر وجوه الضعف في منظومة الإسلاميين لحقوق
الإنسان إنما هو العملية التي يسمونها عملية التأصيل، أي محاولة إرجاع كل ما يصلون
إليه من اجتهادات إلى أصل شرعي ثابت ويقيني لكي يعطوا تلك الآراء قوة ووضوحا
بالاستناد إلى أصلها الموحي. وفضلا عن أن ذلك الاستدلال مصطنع في حالات كثيرة، فإن
المثير للاستغراب الزعم أمام كل مشكلة تواجه المسلمين اليوم أنها حلت منذ آماد
سحيقة في القرآن أو السنة، برغم أنهم يعرفون أنه لا أثر لأكثر تلك المسائل في
التاريخ التشريعي للإسلام الوسيط. فتكاد قضايا حقوق "الإنسان" أن تصبح مواد جامدة
في منظومة تحمل عنوان "مقاصد الشريعة"، "أو الحقوق الشرعية". أما قضايا الديمقراطية
فتكاد تصبح جوامد متناثرة تحت قبعة الشورى التي تتسع كل يوم بما يضاف إليها بشكل
ميكانيكي من مواد وعناصر يقال لنا إنها قديمة ومنصوص عليها، وما تنبه إليها أحد من
قبل إلا رجالات الصحوة الإسلامية!
محاولات
للإصلاح
ومع ذلك فينبغي
الاعتراف بأن الفقهاء المسلمين المحدثين حولوا تحت ضغوط المشكلات الداخلية،
والنموذج الغربي، قضايا حقوق الإنسان إلى مسائل ملحوظة لدى الناس، وتوصلوا لحلول
لمسائل مثل المساواة أمام القانون، ومثل مفهوم المواطنية، وتجاوز منظومة دار
الإسلام ودار الحرب.
والواقع أنه يمكن
التمييز في المشكلات بين ما هو تاريخي، وما هو مستند إلى نص شرعي. فالملاحظ أنه
فيما يتعلق بالمشكلات الناجمة عن ظروف تاريخية أو قانونية معينة، ذهب كثير من
الفقهاء المحدثين إلى أن الأحكام المتفرعة على تلك الظروف، تزول بزوالها تبعا
للقاعدة الفقهية القائلة إن الأحكام تتغير بتغير الزمان. أما تلك الأحكام المستندة
إلى نصوص قرآنية أو نبوية ثبتتها أعراف وتقاليد عريقة، فتبدو حتى الآن عصية على
الحل. وكان رجالات الإصلاح الفقهي في النصف الأول من القرن العشرين قد لجئوا إلى
باب "مقاصد الشريعة" لحل تلك المسائل. أما اليوم فإن "مقاصد الشريعة " بحد ذاتها
تستخدم للحيلولة دون ذلك. إذ يقال لنا إن "فقه المصالح" يدعم النصوص المحرمة للردة.
إذ لو فتح الباب على مصراعيه لترك الإسلام لأدى ذلك إلى تفكك الجماعة، وبذلك تصبح
الحرية الدينية المنصوص عليها هي حرية الإنسان في اعتناق الإسلام وليس في مغادرته،
فيؤدي الاستشهاد بالمصلحة هنا إلى تقييد النص القائل بالحرية الدينية، وليس إلى
إعماله. فإذا احتججنا بأن المصلحة العامة تقتضي عدم التمييز بين الرجل والمرأة في
الميراث، فإننا سنواجه بأن النص صريح في ذلك فيقف النص في هذه المسألة ضد المصلحة،
بينما كانت المصلحة ضد النص في الحالة الأولى. وكان شيخنا محمد أبوزهرة ينصح
بالعودة في هذه الحالات إلى المقاصد العامة للتشريع والتي يأتي على رأسها مبدأ
الحرية والمساواة، لكن تشدد العقود الأخيرة قيد من قدرة الفقهاء على
الحركة.
وتدعو طائفة من
المفكرين في العالمين العربي والإسلامي تحت وطأة الجو الدوجمائي الشديد إلى تفكيك
النص أو ضرب دوجمائيته على الطريقة الفيورباخية. والطابع اللاهوتي مزعج فعلا، لكن
تجربتنا الحديثة مع التطور التشريعي توضح أن الحلول الفقهية التي تراعي النص
والمصلحة هي التي تجد قبولا لدى الجمهور، وتستمر. فلن يجدينا في شيء مقاتلة النص أو
التقليد باسم العلمانية أو التحرر، ولا بد من الإصرار على التطوير من الداخل ولو
استغرق ذلك وقتا أطول.