خلـوة

خلـوة

فقط في هذه المرة، أثارني انسحابهما من الصالة، ولفتني إليه لكأنه شهاب ومض فجأة وشق ثوب الليل!

طوال الأيام، بل والشهور الماضية، لم يشغلني انسحاب أحمد ومنى، ولا غيرهما من الطلاب، إذ تعودت على ذلك بسبب موعد لدى هذا مع المعالج الفيزيائي، أو زيارة طارئة من أسرة ذاك، أو حاجة ألحت على آخر.. بحيث بات يمكن لأي طالب أو طالبة الخروج من الصالة دون إذن مني.

أما في المرة الأخيرة هذه، فلا أدري ما الذي انتابني! لكأن حركتهما نبشت الشك فيّ، فتنبهت! تنبهت، وقد غام مرأى الطلاب في عيني، ليتبدى تواطؤهما سافراً جلياً: عزمت مني أولاً، فأمسكت عجلتي مقعدها الدراج، وراحت بهدوء بالغ، تديرهما نحو الخلف، باتجاه الباب، منسلة منه كما يُسلُّ الخيط من القماش.. ثم تحرك أحمد، فركز عكازيه تحت إبطيه، وشرع، غب خروجها، يحجل بهما نحو الباب حجلاً رشيقاً، منساباً منه كنسمة.

غالبت وساوسي، فغلبتني! حاولت أن أتابع مع الطلاب ما كنت أتحدث عنه، فانفرط الكلام مني كحبات سبحة تقطع خيطها من ألسنة نار شبت فيّ وراحت تلسعني مهيجة قلقي "لم خرجا؟! وما عساهما يفعلان!؟".

ولم أنتظر. إذ قبل أن يتعرى ارتباكي، ندهت طالباً، فأنبته عني، واندفعت ألحق بهما.

وفيما كنت أجوس المكان: في الباحة، داخل الصفوف، خلف الحمامات، بين الممرات.. كان الشك يجوس في ويبللني بالريبة الوخازة: "أين يختليان الآن؟! هل أباغتهما قبل أن يبدآ أم أقبض عليهما متلبسين!؟ وكيف تراني غفلت عن خلواتهما الماضية كلها!!".

ووجدت نفسي ألوب هنا وهناك، تحثني عشرات الصور والوضعيات، وتسرّع من خطوي إلى أن أوقفني يقين داهم ودلّني: "في الغابة الصغيرة حتماً" ثم أكد لي: "وهل من مكان أستر لفعلتهما سوى الغابة!؟".

صدقت الوشاية، وانعطفت، من فوري، نحو حديقة المعهد القديمة، تلك التي ألفنا تسميتها بـ "الغابة الصغيرة" لاتساعها وغزارة أشجارها وكثافة نباتاتها.

كانت الحديقة ساكنة سوى من لغط خفيف، بعيد، أنبأني بوجودهما، فتسللت، متتبعا اللغط، حتى عثرت عليهما. ولم يكن اصطيادهما صعباً، إذ لمحتهما يقفان، كغزالين فارين، وسط فسحة تتفرع منها ممرات ترابية مرصوصة، يشير أحمد بيده إلى اتجاهات عدة، فيما تومئ له منى موافقة!

"هاهما يتدبران أمرهما" قلت في نفسي، ثم قرفصت خلف جذع شجرة ثخين، غاطساً في صمت مطبق، ومبصبصاً عليهما من خلل الأشجار وفرجات النباتات. صفعني ما رأيت!

فكل الهواجس والصور التي انتابتني وتزاحمت في مخيلتي كانت ممكنة ومحتملة إلا ما شاهدته وسمعته من حركات وأصوات كانت تصلني ممتزجة بالخضرة وحفيف الأوراق:

"منى، لا تحتالي! في المرة الماضية بدأت أنت. هذه المرة دوري أنا بالأول" سمعت أحمد يقول وهو يتراجع بعكازيه كمن يهدد بالانسحاب. ردت منى "يا سيدي لا تزعل. دورك أولاً".اقترب منها، أسند إحدى عكازيه إلى مقعدها، ثم حجل على الأخرى، حتى صار خلف شتلات للزهور. ناداها: "تطلعي". وأخذ يسوي وضعية قدميه والجهاز المعدني، ثم طفق، بعزم، يطوح ساقيه من فوق الشتلات متبادلاً وعكازه القفزة بعد القفزة من دون أن يمس الشتلات أو ذؤابات الأزهار، عاداً بصوت خافق: "واحد.. اثنان.. ثلاثة.. أربعة" ومع الرقم السابع توقف ليرسل، وسط وجه مخضب متعرق، نظرة مباهاة فخورة: "شفت!".

"إي شفت. هذه بسيطة. تفرج أنت!" ردت مني بلا مبالاة مغناج متصنعة، ودفعت بعجلات مقعدها حتى صارت في بداية ممر ترابي. ناولته العكاز، وطلبت منه: "عدّ لي"، ومع الأرقام الحافزة، رفعت منى يداً في الهواء، ولفت أصابع الأخرى على إطار عجلتها، ثم جعلت تدفعها بقوة وتثني جذعها إلى الأمام ثنياً متتالياً.. بيد أن المقعد دار في مكانه، على محوره، وخيبها. وقبل أن يشمت أحمد بها، حاولت ثانية، لكن الخيبة عاودتها، فخبطت على المسند يائسة، فيما سارع أحمد نحوها يواسيها: "بسبب الأرض.. بسبب الأرض هذه المرة" تفضحه ضحكات بدت كالصهيل.

"طبعا بسبب الأرض" قالت منى بنبرة تحدٍ وأضافت: "انظر ما سأفعل!" ولم تأبه لاعتراضه على خرقها الدور، إذ عاجلت إلى زحزحة مقعدها، ثم دفعته بكلتا يديها على الممر صائحة: "أحمد.. أحمد" حتى إذا ما وصلت منتصف الممر، ضغطت المسند بظهرها، فارتفعت العجلتان الصغيرتان الأماميتان في الهواء، وتراقصتا للحظات كفراشتين، فانذهل أحمد وهنأها بخبطات من عكازه على الأرض: "برافو.. ولا أحلى يامنى.. ولا أحلى".

وكما لو أن الحمية أخذته، رفع عكازيه الاثنتين، وشرع يرقصهما هازاً خصره، فانتقلت العدوى إلى منى لتنطلق في ترديد أغنية راقصة والتوقيع بكفيها.. لكن المشهد لم يدم سوى دقيقة أو بضع دقيقة، إذ تعثر أحمد، وسقط أرضاً، لتهرع منى إليه مربطة خاطره: "بسبب الأرض يا أحمد.. بسبب الأرض" وهي تغالب ضحكات موشاة بانتقام ودود!

* * *

ما من خيبة غصصت بمرارتها كالخيبة التي هاجمتني تلك اللحظة وتسربت إلى كياني، إذ بدوت لنفسي، وأنا أقرفص أسفل ساق الشجرة، كقنفذ تكور على نفسه من الذعر!

نهضت ناوياً العودة إلى الطلاب في الصالة، وقد شعرت بخواء وجودي هنا.. بيد أن نداء منى شدني وسمرني وهي تهتف لأحمد: "طيب.. تعال لأريك شيئاً لم تر مثله في حياتك" ومن الغريب أن رد أحمد على الفور كأنه كان ينتظر تلك اللحظة: "يا ستي.. وأنا عندي لك مفاجأة.. امشي!". لم أستطع أن أرى، ولا تمكنت من المكوث. فما إن ناول أحمد عكازيه لمنى، وضمتهما إلى صدرها كطفلين وليدين، حتى جعل يدفع مقعدها بهمة ونشاط، حاجلاً خلفه، ومنعطفاً إلى ممر فرعي يفضي إلى مكان وقوفي!

ارتبكت لبرهة، وحرت فيما افعل. لكأنهما كانا يبحثان عني، وكنت أسعى للتواري عنهما كي لا يقبضا علي متلبساً! وإلا.. فما الذي دفعني لأن أهرول هارباً، من بين الأشجار، وقد راحت تهطل فيّ أحاسيس غامضة، مشوشة، لم أستطع تبينها قط!؟

 

إبراهيم صموئيل