جمال العربية

"قراءة في المعجم الكبير"

في عام 1970 أصدر مجمع اللغة العربية في القاهرة الجزء الأول من المعجم الكبير- متضمنا حرف الهمزة- بعد أن قضى ربع قرن تقريباً يعمل على وضع معجم كبير يساير الزمن ويتماشى مع فن التأليف المعجمي الحديث، ليكون بذلك معجم القرن العشرين كما قال عنه الدكتور إبراهيم مدكور في تقديمه له:

"في هذا المعجم جوانب ثلاثة أساسية: جانب منهجي هدفه الأول دقة الترتيب ووضوح التبويب، وجانب لغوي عني بأن تصور اللغة تصويراً كاملاً، فيجد فيها طلاب القديم حاجتهم، ويقف عشاق الحديث على ضالتهم، وفيه أخيراً جانب موسوعي يقدم ألوانا من العلوم والمعارف تحت أسماء المصطلحات أو الأعلام. وروعي في هذا الجانب الجمع بين القديم والحديث ما أمكن. فذكرت معطيات العلم العربي، وأضيف إليها ما جاء به العلم الحديث وفي هذا كله عمق ودقة، وأصالة وتجديد، ويسر وتيسير. وقد أنفق فيه ما أنفق من جهد وزمن، وجمعت من أجله مواد كثيرة محصت وصفيت، ثم ضغطت وركزت. ولا تزال مع هذا غزيرة، ولا أدل على غزارتها من أن هذا الجزء الذي نقدم له لم يتسع إلا لباب الهمزة ويقع في نحو 700 صفحة من القطع الكبير ولن تقل عنه الأجزاء التالية عمقاً وغزارة" .

وحين يعرض المعجم الكبير لمنهجه ومادته وترتيب مواده يشير إلى أن الأفعال قدمت على الأسماء، وقدم الثلاثي منها على الرباعي والمجرد على المزيد واللازم على المتعدي، وفيما يتصل بالمبني للمجهول اقتصر فيه على ما نصت عليه المعجمات وذكر بعد المبني للمعلوم المتفق معه في الصيغة: ثلاثيا كان أو رباعيا.

فإذا ما تركنا مقدمة المعجم- وما تمتلىء به من تفاصيل - وانتقلنا إلى صفحاته الأولى التي يبدأ بها باب الهمزة، طالعنا نموذج لدقة البحث اللغوي واستقامة المنهج العلمي، تحقيقا للخطة التي انتهجها المعجم، ووفاء بمتطلباته.

يقول المعجم الكبير عن الهمزة:
أول الحروف الهجائية، والمبرد لا يعدها ويجعل حروف الهجاء ثمانية وعشرين، وحجته أنه ليست لها صورة ملتزمة فتكتب ألفا مثل: بدأ، وواوا مثل: يؤمن، وياء مثل: يستنبئونك، وربما لا يكون لها حرف مثل بناء: والحق أنها من حروف الهجاء، لثبوتها في النطق قبل الرسم الذي هو اصطلاح وتواضع.

وتقع في أول الكلمة ووسطها وآخرها، كما في: أمن، وسأل، ونشأ، وهي غير الألف اللينة التي لا تقع في أول الكلمة، وإنما تقع في وسطها أو آخرها بعد فتح دائما، مثل: قام، ودعا، ويرمز لها ب (لا) أو لام ألف.

ويعد القدماء الهمزة مجهورة، ومخرجها أقصى الحلق وتخالف الألف اللينة التي تخرج من الجوف. ويرى بعض المحدثين أنها صوت مخرجه الحنجرة ويعدونها صوتا مهموسا وشديدا. وهي قسمان: همزة وصل وهمزة قطع. والأولى تثبت في بدء الكلام وتسقط في درجه مثل: ابن، واسم واقتدار، وانطلاق. وقد توضع رأس صاد في أعلى الألف هكذا (1) إشارة إلى كلمة صلة، والثانية: تثبت في الوصل والابتداء مثل: أمر، وأسوة، وإبل. ويخففها الحجازيون فيقولون: البير في البئر، والشان في الشأن والسول في السؤل، وهذه هي لغة التخفيف، ووردت في بعض القراءات، وتقابلها لغة التحقيق التي تبقي عليها.

وتقع الهمزة أصلية مثل: أخذ، وسأل، وبدأ، وزائدة مثل: شمأل، ومبدلة من حرف أصلي مثل: كساء (أصلها كساو) وبناء (أصلها بناي)، وإعاء (لغة في وعاء)، ومبدلة من ألف زائدة كما في قول بعض العرب، دَأْبه في دابة. ويبدلها بعض العرب هاء، فيقولون في أراق: هراق، وعينا، فيقولون علمت عنَّك فاضل أي أنك فاضل.

وتستخدم أ: لنداء القريب، كقول امرئ القيس:

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

و: للاستفهام، مثل: ويستنبئونك أحق هو (سورة يونس الآية 53).

وقد تأتي مع دلالتها على الاستفهام عوضا من حرف القسم، مثل: آلله أكرمتَ أخي؟ أي بالله. قال ابن مسعود في غزوة بدر: يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آللّه الذي لا إله غيره؟ فقال ابن مسعود: نعم، والله الذي لا إله غيره. ثم يضيف المعجم الكبير إلى معاني الهمزة أنها قد تفيد مع الاستفهام معاني أخر يحددها المقام.

أما الهمزة الممدودة: آ فيقول عنها المعجم الكبير إنها حرف نداء للبعيد، وما ينزل منزلته عند الكوفيين وجعلها ابن عصفور للقريب.وقال الجوهري: هي لنداء القريب والبعيد.

والغريب أن المعجم الكبير لا يأتي بمثال واحد لاستخدام الهمزة الممدودة للنداء القريب أو البعيد مكتفيا بما سبق من الكلام.

فإذا ما انتقلنا إلى الكلمة الأولى في باب الهمزة الممدودة وهي كلمة "آب" وجدنا المعجم الكبير يقول عنها آب- معرّب: الشهر الخامس من شهور السنة عند الأكديين والعبريين، والحادي عشر من الشهور السريانية، يقابله أغسطس من الشهور الرومية، ومسرى من الشهور القبطية.

قال محمد بن عبد الملك الزيات:

برد الماء وطال الليلُ

والتذ الشرابُ

ومضى عنك حَزيرانُ

وتموزٌ وآبُ

لقد مضى على صدور الجزء الأول من هذا المعجم اثنان وعشرون عاما، صدر خلالها الجزء الثاني متضمنا حرف الباء، ولعل الجزء الثالث- الذي انتهى إعداد مادته ومراجعته- يرى النور عما قريب، وقبل أن تنتهي الأعوام القليلة المتبقية من القرن العشرين!

"ترصيع بالذهب على سيف دمشقى"
شعر: نزار قباني

يمكن أن يقال عنه ما قيل قديما عن المتنبي: شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس.

ومنذ ديوانه الأول "قالت لي السمراء" الذي أصدره عام 1944 والناس مختلفون عليه: بين عاشقين لشعره حتى الجنون، وكارهين له ومطالبين بدمه حتى الموت.

وبين النقيضين: كان نزار قباني يصنع مفردات عالمه الشعري، ويبني مملكته الشعرية، منشغلا بالمرأة في الحقبة الأولى من حياته، وبالهم القومي في حقبته الثانية وأصبح- بفضل دأبه وإخلاصه للشعر الذي منحه حياته واهتمامه - أكثر الشعراء رواجا في تاريخ الشعر العربي وأكثرهم قدرة على اصطناع لغة يصفها هو بأنها لغة شعبية تعطي نفسها في سهولة ويسر وتلقائية، دون مشقة أو عناء.

ولقد أتيح لنزار قباني أن يطوف كثيراً- من خلال عمله في السلك الدبلوماسي السوري- في الكثير من العواصم والبلاد، لكن حبه الأول والأخير يظل لعاصمة بلاده "دمشق"، التي يعود إليها بعد الغياب والترحال محملا بزاد من الشوق والحنين، يطالعنا من خلال القصيدة التالية:

أتراها تحبني ميسونُ

أم توهمتُ، والنساء ظنونُ

كم رسولٍ أرسلتُة لأبيها

ذبحته تحت النقاب العيونُ

يا ابنة العم- والهوى أموي-

كيف أخفي الهوى وكيف أبينُ

كم قُتلنا في عشقنا، وبعثنا

بعد موتٍ، وما علينا يمينُ

ما وقوفي محلى الديار، وقلبي

كجبيني قد طرزته الغضونُ

لا ظباءُ الحمى رددن سلامي

والخلاخيلُ ما لهن رنين

هل مرايا دمشق تعرف وجهي

من جديد أم غيرتني السنونُ؟

يا زمانا في "الصالحية" سمحا

أين مني الغوى وأين الفتونُ؟

يا سريري ويا شراشف أمّي

يا عصافير، ياشذا يا غصونُ

يا زواريبَ حارتي خبئيني

بين جفنيك فالزمان ضنينُ

واعذريني إذا بدوتُ حزينا

إن وجه المحب وجهٌ حزينُ

* * *

هاهي الشامُ بعد فُرقة دهرٍ

أنهرٌ "سبعةٌ" وحورٌ عينُ

النوافيرُ في البيوت كلاٌم

والعناقيدُ سكرٌ مطحونُ

والسماءُ الزرقاءُ دفترُ شعرٍ

والحروف التي عليه سنونو

هل دمشقٌ- كما يقولون- كانت

حين في الليل فكر الياسمينُ

آه يا شامُ، كيف أشرحُ مابي

وأنا فيك دائما مسكونُ

سامحيني إن لم أكاشفك بالعشقِ

فأحلى ما في الهوى التضمينُ

نحن أسرى معا، وفي قفص الحب

يعاني السجانُ والمسجونُ

* * *

قادم من مدائن الريح وحدي

فاحتضني كالطفل ياقاسيونُ

احتضني ولا تناقش جنوني

ذروة العقل يا حبيبي الجنونُ

احتضني خمسين ألفا وألفا

فمع الضم لا يجوز السكونُ

أهي مجنونة بشوقي إليها

هذه الشام، أم أنا المجنونُ

حاملٌ حبها ثلاثين قرناً

فوق ظهري، وما هناك مُعينُ

كلما جئتها أرد ديوني

للجميلاتِ، حاصرتني الديونُ

إن تخلت كل المقادير عني

فبعيني حبيبتي أستعينُ

يا إلهي جعلتَ عشقي بحراً

أحرامٌ على البحارِ السكونُ

يا إلهي، هل الكتابةُ جرحٌ

ليس يُشْفَى أم ماردٌ ملعونُ

كم أعاني في الشعر موتًا جميلاً

وتعاني من الرياحِ السفينُ

* * *

شامُ، يا شامُ، يا أميرةَ حبي

كيف ينسى غرامَه المجنونُ

أوقدي النار؟ فالحديث طويلٌ

وطويلٌ لمن نحب الحنينُ

شمسُ غرناطة أطلت علينا

بعد يأس وزغردت ميسلونُ

إن أرض الجولان تشبه عينيك

فماء يجري، ولوزٌ وتينُ

كل جرح فيها حديقة ورد

وربيعٌ ولؤلؤٌ مكنونُ

وطني يا قصيدة النارِ والوردِ

تغنت بما صنعتَ القرونُ

نحن عكا ونحن كرمل حيفا

وجبال الجليلِ واللطرونُ

كل ليمونةٍ ستنجبُ طفلاً

ومحالٌ أن ينتهى الليمونُ