ذبحتان صدريتان

ذبحتان صدريتان

الذبحة الصدرية من أهم الأمراض التي يواجهها البشر في الحضارة الحديثة، ومع تحول مجتمع ما من حضارة زراعية "مثلا" إلى حضارة صناعية رأسمالية كالحضارة الغربية يزداد معدل حدوث مثل هذا المرض كما يزداد معدل اكتشاف وجوده بين أفراد المجتمع، ولهذا فان كثيرا من مناطق أمتنا العربية بدأت تنتبه إلى ازدياد معدلات حدوثه بين أفراد لم يكن آباؤهم أو عائلاتهم يعانون منه، ومع تعدد التفسيرات لحدوث هذا المرض وما يرتبط به من حدوث الاحتشاء في عضلة القلب أو ما يسببه من ضيق في الشرايين التاجية إلا أن ضغوط الحياة الحديثة وإجهادها تلعب دوراً مهما في زيادة معدلات حدوث هذا المرض وبخاصة أن المصابين به يكونون في الغالب من فئة المهنيين الناجحين ورجال الأعمال الذين يمارسون حياة يومية حافلة بالاجهادات الذهنية دون أن يتوازى معها جهد بدني.

قبل أن نتحدث عن طبيعة المرض، يجدر بنا أن نتحدث عن بعض خصائص الشرايين والدورة التاجية التي تغذي القلب والتي تنتج الذبحة الصدرية عن إصابتها. فمن الطريف أن نعرف أن الدم يسري في هذه الشرايين أثناء انبساط القلب وليس أثناء انقباضه، وهكذا يصبح من المهم أن يكون الضغط الانبساطي كافيا لإحداث ضخ الدم في هذه الشرايين الحيوية، كما يصبح من المهم أيضاً أن تكون فترة الانبساط نفسها كافية لاتمام عملية الضخ هذه.. ولهذا السبب فإن مرضى ارتجاع الشريان الأورطي الذين يعانون من انخفاض شديد في الضغط الانبساطي قد يعانون من آلام الذبحة الصدرية بسبب نقص تروية القلب بالدم وبما يحمله من غذاء أو أكسجين، وكذلك الحال في مرضى تسارع ضربات القلب حين تقل فترة الانبساط إلى حدود تتضاءل معها فرصة الشرايين في الامتلاء.

ضيق الشريان

بيد أن الذبحة الصدرية التي نتحدث عنها هنا شيء ثالث بالطبع ومختلف عن هذين المثلين وهي تنشأ نتيجة لتضيق تجويف الشريان نفسه وبالتالي فإن الدم المتاح لا يصل كله إلى القلب بسبب تضيق الشريان، وهكذا تنشأ الذبحة الصدرية بآلامها التي قد لا تكون محتملة.

وعادة ما يتحدث الأطباء بكثرة عن أهم سبب لحدوث تضيق الشريان وهو إصابة جدران الشريان بتراكمات من ترسيبات الشحميات والكولسترول يوماً بعد يوم، وهو ما يتوافق مع حدوث ما نسميه "تصلب الشرايين العصيدي".. غير أن الحقيقة أن التضيق قد يحدث نتيجة نوبات من التقلص دون أن تكون الجدران مصابة بالتصلب، وهكذا فإن حدوث التقلص في آن لآخر كفيل بإحداث التضيق، وبالتالي بالتسبب في آلام الذبحة الصدرية.. ويجابه المريض "والطبيب كذلك" بالصورة التقليدية للذبحة الصدرية.

وقد علمتنا الخبرة الإكلينكية أن التضيق لا يسبب آلاما بمجرد حدوثه ولا بقدر يسير أو معقول من التضيق، وإنما يبدأ في تسبيب الآلام عندما تزداد نسبته عن ثلثي التجويف الطبيعي، وهذا من نعم الله، ولكنه يعطينا دلالة مهمة على أننا نستطيع بحكم تقدم وسائل التصوير "والاستطلاع" الطبي أن نستكشف في مرحلة مبكرة هؤلاء الذين يسيرون في اتجاه الإصابة بالذبحة الصدرية.

ونحن نعرف أن من نعم الله على الإنسان أن جسمه مهيأ بآليات دفاعية كثيرة، وفي حالتنا هذه فإن تضيق الشرايين يمثل المحفز لنمو شرايين فرعية وازدياد دورها في القيام بأدوار مساعدة أو بديلة لدور الشريان الأصلي الذي أصيب بالتضيق، وكثيرا ما يرينا التصوير الطبي أن مثل هذه الشرايين الروافد قد نمت في الحجم إلى قدر كبير، وأنها أصبحت تقوم بدور جيد في تروية عضلة القلب.

مستقرة.. أم غير مستقرة

يفرق الأطباء بين صورتين من صور الذبحة الصدرية، وهما الذبحة المستقرة والذبحة غير المستقرة، وبالطبع فان الأخيرة اكثر خطورة وتستدعي انتباها وعلاجاً أكثر من الذبحة المستقرة. ويمكن تعريف الذبحة المستقرة سبأنها تلك التي استقرت عند مستوى واحد من الألم "من حيث معدل حدوثه ومدته وشدته".. وهكذا فان الذبحة الصدرية التي تحدث لأول مرة لا يمكن أن تسمى بذبحة مستقرة لأن خصائصها لم تتحدد بعد، وهذا هو جوهر الفهم الطبي الآن للذبحة الناشئة لتوها، حيث يصنفها الأطباء على أنها ذبحة غير مستقرة، وكذلك يمكن إطلاق تعبير الذبحة غير المستقرة على تلك الذبحة التي تتزايد شدة الآلام فيها بسرعة، فتحدث بعد أقل مجهود أو أثناء الراحة أو النوم.. وبالطبع فإن الذبحات المستقرة عرضة لأن تصبح ذبحة غير مستقرة، وعندئذ فإنها تنذر بارتفاع نسبة حدوث الاحتشاء القلبي الحاد، ولهذا السبب فإن أطباء القلب الآن يعطون عناية خاصة لمرض الذبحة الصدرية غير المستقرة.

وتعالج الذبحة الصدرية على وجه العموم بواحد أو أكثر من عقارات تنتمي إلى ثلاث مجموعات من الأدوية هي موسعات الشرايين، ومضادات الكالسيوم، ومحصرات مستقبلات البيتا الأدرينالية وتختلف كل حالة من حالات الذبحة عن غيرها، ويتولى الطبيب بشيء من الصبر والتريث ومناظرة حالة المريض واستجابته للدواء تحديد الجرعات المناسبة لعلاج آثار الذبحة، فمن الضروري أن تكون جرعة الأدوية الموصوفة كافية للحد من خطر المرض وفي ذات الوقت ينبغي ألا تؤخذ هذه الأدوية بأكثر مما ينبغي لأن لها شأن كل أدوية القلب آثارها الجانبية المهمة والخطرة، وفي جميع الأحوال فإن علاج الذبحة الصدرية يتطلب من المريض أن يعيد تنظيم نسق حياته، وأن يبتعد عن الإجهاد والقلق قدر ما يستطيع، وأن يمارس الرياضة الخفيفة، وأن يعتدل في طعامه وشرابه وجهده وأن يلتزم بتعليمات الطبيب، وكثيرا ما يتطلب علاج الذبحة إنقاص الوزن الزائد عن الحدود الطبيعية، وايقاف التدخين، والتحكم في ضغط الدم، والتحكم في مسار مرض السكري "في المصابين به" بحيث يبقى تحت العلاج المنضبط.

 

محمد الجوادي