دليل الناقد الأدبي المعاصر جابر عصفور

دليل الناقد الأدبي المعاصر

أوراق أدبية

أسعدني الاطلاع على كتاب "دليل الناقد الأدبي " الذي أعده الدكتور ميجان الرويلي والدكتور سعد البازعي فالكتاب يتسم بالمعاصرة، ويقدم للقارىء العربي تعريفا مفيدا بمجموعة من أهم النظريات التي فرضت نفسها على النقد الأدبي في السنوات الأخيرة، بوصفها عناصر تأسيسية في المشهد النقدي الذي يربك المتابع بسبب كثرة تحولاته. وأحسب أن الحديث عن النقد الثقافي كالحديث عن ما بعد الحداثة وخطاب ما بعد الكولونيالية وموت المؤلف والتفكيك وسلطة الخطاب هو حديث العصر بكل معنى الكلمة، وقد أحسن المؤلفان حين اختارا مجموعة من أهم المصطلحات التي يحتاج إليها القارئ العربي ليدخل أفق النقد العالمي المعاصر ويتعرف مفاتيحه الأساسية. والواقع أن مقارنة هذا الدليل بغيره من المعاجم الموسوعية المكتوبة باللغات الأجنبية تشهد للباحثين بأنهما اجتهدا في اختيار مجموعة المصطلحات النقدية المعاصرة التي توقفا عليها دون غيرها.

وتظهر معاصرة هذا الدليل على مستوى الكتابات العربية حين نقارنه بغيره، ونجد أنه أكثر رسوخا في معاصرته، وأكثر حداثة في تقديم بعض الموجات الأخيرة من مصطلحات النقد، تؤكد ذلك المقارنة الأولية بين هذا الدليل الذي صدر في العام الماضي وبعض المعاجم التي سبقته مثل "معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة " سعيد علوش الذي صدر منذ أحد عشر عاما (1985) و"معجم مصطلحات الأدب" لمجدي وهبة، وهو العمل التأسيسي الذي صدر منذ أكثر من عشرين عاما (1974) فضلا عن معاجم أخرى أقل أهمية، منها على سبيل المثال لا الحصر ما نشره ناصر الحاني عن " المصطلح في الأدب الغربي " عام 1968 . هذه المقارنة تؤكد تحول الاصطلاح النقدي العربي، في علاقته بالمصطلح الأجنبي، وتغيره المستمر الذي يحاول اللحاق بإيقاع العصر من ناحية، وصياغة مفاهيم جديدة يسعى إلى إنباتها في الواقع الثقافي العربي من ناحية ثانية. كما تؤكد في الوقت نفسه، قصور التأليف العربي المعاصر في مجال المعاجم الموسوعية، أو حتى المعاجم العادية، في مجال النظريات الأدبية والنقدية المعاصرة، فنحن لا نسمع عن معجم جيد إلا على سبيل الندرة، وبعد سنوات طويلة جدا من المعجم الذي سبقه.

وتظهر معاصرة "دليل الناقد الأدبي " الذي قدمه ميجان الرويلي وسعد البازعي في محاولتهما اقتناص مجموعة مهمة من المفاهيم التي أخذت تفرض نفسها على النقد الأدبي أخيرا. وعلى رأس هذه المفاهيم، بالطبع، النزعة التاريخية الجديدة، ونظريات التفكيك، وتحليل الخطاب، وخطاب ما بعد الكولونيالية، وما بعد الحداثة، وموت المؤلف، ونظريات الاستقبال، والنقد الحواري، وغير ذلك من المفاهيم أو المصطلحات التي أضافت إلى البنيوية والحداثة والهرمنيوطيقا والنقد الجديد والنقد الفينومينولوجي النسائي والأسطوري والنفسي، مما يؤكد تسارع خطى إيقاع التغير في المشهد النقدي العالمي المعاصر. ولا أدل على ذلك من أنه من بين ثلاثين مصطلحا يتضمنها دليل الرويلي والبازعي هناك ما يقرب من عشرة مصطلحات حول "تفكيك" ديريدا ولوزامه، أي أن ما يقرب من ثلث مصطلحات الدليل الجديد يتصل بمتغيرات لم تستوعبها الكتابات العربية بعد، ولم ينجز المترجمون فيها ما أنجزوه بالقياس إلى "البنيوية " وأعلامها، فمقابل ترجمة " درجة صفر الكتابة " لرولان بارت أكثر من مرة على سبيل المثال، فضلا عن كتبه الأخرى مثل" النقد البنيوي للحكايات" و"مبادئ السميولوجيا " و"النقد والحقيقة" و"أساطير" و"درس السميولوجيا" و" لذة النص" لم يترجم لجاك ديريدا إلى الآن سوى مختارات "الكتابة والاختلاف" التي نهض بها كاظم جهاد وبعض الحوارات التي ترجمها فريد الزاهي.

ولعل هذه الملاحظة تقودنا إلى ملاحظة أخرى تتصل بواقع المتابعة للنقد الغربي الذي يتمسح به بعضنا تمسح التابع بالمتبوع، ويحاول مجموعة من نقادنا الإيهام بامتلاك أدواته لتبرير تميزهم على غيرهم، أعني هذا الواقع الذي لا يزال عاجزا عن ترجمة أصول النقد المعاصر إلى اللغة العربية حتى الآن، فما زالت أهم أعمال رولان بارت، على سبيل المثال، غير مترجمة إلى اللغة العربية، برغم كثرة ما ترجم له بالقياس إلى غيره. حسبي الإشارة إلى " إس/زد" و"نظام الأزياء" وغيرهما من الكتب الأساسية. وقل مثل ذلك عن غير رولان بارت من البنيويين وما بعد البنيويين. وإذا جئنا إلى المدارس الأحدث، والأكثر فاعلية وتأثيرا في السنوات الأخيرة، مثل نظريات التفكيك والنقد الثقافي وخطابات المابعد: ما بعد الحداثة، ما بعد البنيوية، ما بعد الكولونيالية.. إلخ، وجدنا واقع المتابعة لما يحدث في العالم حولنا أكثر هوانا وفقرا، فنحن نتحدث عن كتب لم يقرأها أغلبنا بعد، ونشير إلى كتابات بالغة الأهمية لم نقم بترجمتها، ونتحدث عن مصطلحات ومفاهيم في عزلة عن سياقاتها الفكرية والفنية والتاريخية. وها هو إدوارد سعيد الذي يضعه غير واحد من نقاد العالم الغربي على رأس خطاب ما بعد الكولونيالية، ويذهب البعض الآخر إلى عده مؤسس هذا الخطاب، فإلى جانب كتابه "الاستشراق" الذي ترجمه الصديق كمال أبوديب ترجمة باعدت بين الكتاب والذيوع المتوقع له بالعربية، لم يقم أحد إلى الآن بترجمة الكتب الأخرى لإدوارد سعيد، ابتداء من كتابه " بدايات"، الذي صدرت طبعته الأمريكية الأولى منذ أكثر من عشرين عاما، و" العالم، النص، الناقد" الذي ظهرت طبعته الأولى منذ ثلاثة عشر عاما، مرورا بكتابيه "الثقافة والإمبريالية " و" الأدب والمجتمع " وانتهاء بكتابه "تمثيلات المثقف" الذي ظهر منذ عامين فحسب. ومن المؤسف حقا أن يقوم نقاد العالم الغربي بالاحتفاء بإدوارد سعيد، وتقديم مختارات من كتبه،على نحو ما فعل مايكل سبرنكر في كتابه "إدوارد سعيد، قارئ نقدي" الذي صدر منذ أربعة أعوام، ونحن العرب الذين نباهي بعروبة إدوارد سعيد الفلسطيني لم نقم بترجمة أعماله الأساسية إلى الآن.

وإن دلت الملاحظة السابقة في عمومها وخصوصها على شيء فإنما تدل على صعوبة تقديم المصطلحات النقدية الغربية إلى القارئ، على شكل معاجم أو دليل في غياب حركة ترجمة نشطة، وحركة نقدية يقظة في المتابعة والعرض والتقديم والتقييم الذي يضيف قدر ما يستفيد، وينتج قدر ما يستهلك وفي غياب حركة ترجمة نشطة وحركة نقدية فعالة، يغدو تقديم مصطلح النقد الغربي إلى القارئ العربي أقل القليل الذي نفرح به، آملين أن يضيف إلى حركة الترجمة والنقد ما يبعث فيهما الحيوية، ويثير روح التحدي في الإنجاز. لكن يظل هذا النوع من العمل، رغما عنه محاطا بمصاعب كثيرة، أولها أنه يشير إلى مصطلحات مرتبطة بكتابات أساسية ملازمة لها، ولا يمكن فهمها حق فهمها دون ترجمة هذه الكتابات. خذ مثلا مصطلح جاك ديريدا الشهير عن " دراسة الكتابة" أو " علم الكتابة " أو الجراماطولوجيا Grammatology الذي أطلقه عنوانا على كتابه الشهير الذي ترجمته إلى الإنجليزية جاياتري شاكرافورتي سبيفاك، فاستهلت الترجمة عهدا جديدا من النقد الأمريكي المقترن بنظريات ديريدا، هذا المصطلح لا يمكن فهمه حق فهمه إلا بترجمة كتاب ديريدا الذي لم يترجم إلى الآن، أو على الأقل تقديم أفكاره إلى القارئ العربي تقديما مبينا في تمكنه، وذلك ما لم يحدث بعد.

والحق أنني شعرت بهذه الصعوبة وأنا أرقب، في تعاطف، الجهد الذي بذله ميجان الرويلي وسعد البازعي، وكلاهما باحث جدير بالتقدير، ولكن بقدر فرحي بما توصلا إليه من تقديم مبين لمجموعة وافرة من المصطلحات، وهو تقديم يظهر قدرتهما على المتابعة اليقظة، فإن مصطلحات أخرى فرت منهما، وظلت مبهمة في تقديمها، وذلك بسبب صعوبة الترجمة في موضوعات جديدة على اللغة العربية من ناحية، والاعتماد على معاجم أجنبية متوسطة القيمة في أفضل الأحوال من ناحية ثانية، وعدم الرجوع إلى الأصول نفسها في حالات أساسية من ناحية أخيرة. وأكتفي هنا بمثال واحد فقط، وهو مصطلح ديريدا الذي سبق أن أشرت إليه (الجراماطولوجيا) فالباحثان يترجمانه بكلمة "النحوية"، وقوعا في المعنى الذي قد يخطر على الذهن لأول مرة، حين يسمع المرء عن كتاب عنوانه Of Grammatology، فيتوهم توهما ساذجا أن الكتاب يرتبط بعلم "النحو" قياسا على الأجرومية أو كلمة "Grammar" التي تعني النحو وقواعد اللغة، ولكن ذلك في حالة السماع الذي يقترن بعدم قراءة الأصل، أو القراءة الجادة عنه. أما إذا اطلع المرء على الكتاب في نصه الفرنسي الأصلي الذي صدر عام 1967 ، أو ترجمته الإنجليزية التي صدرتها المترجمة جاياتري سبيفاك (التي أصبحت من أبرز أعلام خطاب ما بعد الكولونيالية) بدراسة توضيحية مهمة، فإنه يدرك أن عنوان الكتاب لا بد أن يقاس على الكلمة اليونانية الدالة على "الحرف " أو "النقش "، وإلى فكرة ديريدا عن التراتب القمعي القديم الذي جعل الأولوية للصوت المسموع وليس الحرف المكتوب. والواقع أن "الجراماطولوجيا" مصطلح صاغه، أو سكه، جاك ديريدا كاسم دال على "علم الحروف " أو "الكتابة" واشتقه من كلمة اللوجوس (Logos) اليونانية الدالة على"العلم" وكلمة الجرام (gramme) الدالة على"الحرف"، مشيرا به إلى علم جديد يقضي على مركزية العلة، كما يقضي على التعارض الميتافيزيقي بين الكلام والكتابة، والتفضيل الأولي للكلام أو الصوت على الكلمة المكتوبة، وغير بعيد عن هذا المعنى دلالة ملازمة لمصطلح آخر شهير عند ديريدا، هو مصطلح "الأثر" الذي يتضمن دلالة النقش، أو العلامة المحفورة، أو الأثر الباقي للكتابة التي هي نقش له فضاؤه الخاص.

ولا تقلل هذه الملاحظة من قيمة الجهد الذي بذله الرويلي والبازعي في حسن اختيار المصطلح، وتمثل المفاهيم الاصطلاحية في لغتها الأصلية (وهي الإنجليزية التي يعتمد عليها كلاهما) وتقديمها إلى القارئ العربي في أسلوب يكشف عن حرصهما على البساطة والإبانة، ويحمد لهما - بالإضافة إلى ذلك - أمانتهما العلمية، فهما يصرحان في مقدمة "الدليل " بأنهما يعتمدان في المحل الأول على كتاب الناقد م. هـ إبرامز في طبعته الأخيرة التي صدرت عام 1993 ، واعتمدا في المحل الثاني على الكتاب الذي حرره لبنتريشيا وماكلوهان وغيرهما عن المصطلحات النقدية عام 1990 وهذا التصريح يجب تقديره بوجه خاص، لأننا نعيش - مع الأسف - في زمن عربي أكاديمي كاد يخلومن الأمانة، ما أكثر الكتب التي نطالعها عن النقد الغربي منسوبة إلى مؤلفين عرب، وهي مجرد نقول عن كتب معروفة لقارئ اللغات الأجنبية. ولكن هذا الحمد الذي نؤكده إزاء أمانة الرويلي والبازعي لا يقلل من عتابنا لهما على تقصيرهما في بذل المزيد من الجهد في متابعة المعاجم والموسوعات الأكثر معاصرة وحداثة من معجم إبرامز الذي أصبح قديما، برغم كل الإضافات التي حاولت مواكبة التدافع المتسارع في إيقاع التغير الاصطلاحي. ومادام الباحثان اطلعا على آخر طبعة من طبعات إبرامز الصادرة عام 1993، فلماذا لم يطلعا على الموسوعة الأكثر أهمية التي صدرت في العام نفسه بعنوان "موسوعة النظرية الأدبية المعاصرة، المداخل والدارسون والمصطلحات "عن جامعة تورنتو، وهي أكثر ثراء بما لا يقاس به معجم إبرامز الفقير؟ وأقل منها أهمية الطبعة الثالثة من معجم ج " أ " جدن التي أصدرتها سلسلة "البنجوين" عام 1991، وهي أكثر شمولا من معجم إبرامز الذي فقد مكانته تماما، بعد أن أصدرت جامعة جون هوبكنز موسوعتها المهمة " دليل النظرية الأدبية والنقد" عام 1994. ولن أذكر الباحثين بالمعجم الذي أصدرته جامعة كولومبيا عن "النقد الأدبي والثقافي " فقد صدر في العام نفسه الذي صدر فيه كتابهما. أدرك أن اعتماد الباحثين على معجم إبرامز لا ينبغي أن يؤخذ أخذا حرفيا. خاصة أن الباحثين حاولا الإضافة إليه، مفيدين من بعض الكتب المهمة التي اطلعا عليها، لكن الأفق الاصطلاحي المحدود بمعجم إبرامز فرض نفسه وضيق المجال أمامهما إلى حد لافت. وبرغم تركيزهما على نظريات التفكيك، وهو تركيز أفادا فيه من جهد كاظم جهاد في الترجمة والتعريف بدريدا، فإن مصطلحات كثيرة مرتبطة بمجالات أكثر إلحاحا هذه الأيام ظلت غائبة، وكان أولى بها أن تنتقل من علاقات الغياب إلى علاقات الحضور، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر : النقد التوليدي، النقد الشارح، السرديات، نظرية الفعل الكلامي، إزاحة المركز، الأفق والتوقعات، القارئ المضمن، المروي عليه، المؤسسة الأدبية، مرحلة المرآة، مركزية الفالوس، مركزية العلة، لذة الكتابة، النصية، التناص، التداولية، الأساطير البيضاء، النقد الثقافي، الخيالي والرمزي، خطابات المابعد.. إلخ. وقد لفت نظري في مقدمة الباحثين أنهما يتحدثان عن الكتب التي غيرت مجرى النقد والتنظير المعاصر، ويعددان بحق كتب جاك ديريدا وميشيل فوكووجوليا كرستيفا، ولكنهما يخلطان بين هذه الأعلام الفرنسية المؤثرة وأعلام ليس لها التأثير نفسه مثل تيرتس هوكس وجوناثان كوللر وروبرت شولز، ولا يشيران إلى أسماء أخرى يقرأ العالم كله كتاباتها اليوم ولها تأثيرها اللافت في النقد الأدبي، مثل أسماء بردريار وليوتار وإيهاب حسن، فضلا عن أعلام مدرسة التفكيك في الولايات المتحدة، في موازاة أعلام خطاب ما بعد الكولونيالية والنقد الثقافي. وعندما يلفتنا الباحثان، في المقدمة نفسها، إلى أن تقديمهما للمصطلح سوف يصدر عن رؤية تفسيرية وتقويمية فإن تقديرنا لهذه اللفتة لا يجد ما يشبعه بالقدر المطلوب داخل الكتاب، فالكثير من المفاهيم يبدو معزولا عن سياقه التاريخي. وأقرب إلى الجزر المنفصلة التي لا رابط بينها، وهو أمر كان يستلزمه معنى" الدليل" الذي يتجه إلى"الناقد الأدبي " وليس القارئ. والواقع أن هذه الملاحظة الأخيرة تدفعني إلى القول إن " دليل الناقد الأدبي" ليس سوى دليل للقارئ الذي يطالع النقد الأدبي المعاصر، ويعاني من رطانة عباراته وغموض مصطلحاته الجديدة. والدليل مفيد من هذه الناحية إلى حد. أما طموحه إلى أن يكون "دليل الناقد الأدبي " فهو طموح يحتاج إلى أضعاف الجهد الذي بذل، في طبعة أخرى أكثر قدرة على مخاطبة الناقد الأدبي، وأكثر تمكنا من المعارف الصعبة المعقدة التي يحتاج إليها الناقد الأدبي المعاصر. ولكن إذا نظرنا إلى الدليل من منظور القارئ العادي، وهو منظور لا ينبغي لأحد التقليل من شأنه، فإننا نقترح على الباحثين مراجعة بعض اجتهاداتهما في الترجمة، والإفادة من الإنجازات التي سبقتهما والتي لم يطلعا عليها، وذلك كي يكتمل هدفهما، وهو المساعدة في تنمية المثاقفة النقدية، ويؤكد ذلك أن القائمة الببليوجرافية الملحقة بالدليل في حاجة إلى المزيد من الإكمال والتدقيق والتمييز بين الكتب المترجمة والمؤلفة، والمقالات المؤلفة والمترجمة في الوقت نفسه. وأتصور أن الحس اللغوي السليم للباحثين سوف ينأى بهما، في الطبعة القادمة من الكتاب، عن بعض الصيغ التي قد يشاركني الكثيرون في عدم الارتياح إليها، مثل الحديث عن "قناعة" المؤلف بدل اقتناعه، أو الإشارة إلى "الإنسانوية " و"التاريخانية الجديدة " بدل النزعة الإنسانية والنزعة التاريخية. وقريب من ذلك التردد الذي قد يربك القارىء ويدل على عدم حسم المؤلفين في الاختيار، مثل الحديث عن "علم الإشارة أو علم العلامة " أو "العبر نصية أو الما بين نصية أو التناص". والأحكم الاقتصار على مصطلح واحد، خاصة أننا ندخل في باب ما أصبح متعارفا عليه بين النقاد، وقريب من ذلك نطق الأعلام الأجنبية، وأنا شخصيا لا أطمئن إلى كتابة أسماء الأعلام على نحو يغاير نطقها الأصلي، ولا أستثني من ذلك إلا الأسماء التي لها ما يوازيها أو يساويها في اللغة العربية، ولذلك أفضل أن أكتب "جادامر" بدل"غادامير". و"يونج" بدل "يونغ". و"حنا أرندت" بدل"هاناه أريندت ". و"فالتر بنيامين" بدل "والتر بنجامين " التي صورها لي بعض الأصدقاء الألمان، أما إذا قرأت "هومي بهابها" بدل "هومي بابا" فإنني أبتسم متعاطفا مع الخطأ الذي يوقع فيه النطق الحرفي للأحرف اللاتينية، فالرجل ناقد إفريقي، بارز، يكتب بالإنجليزية، وآخر عهدي به حين كان يلقي محاضراته في جامعة لندن، بوصفه أستاذا زائرا. متنقلا ما بين جامعة سسكس في إنجلترا وجامعتي برنستون وبنسلفانيا الأمريكيتين. وقد أصبح نجما في مجال خطاب ما بعد الكولونيالية بعد أن نشر كتابه "موقع الثقافة " الذي صدر في لندن عام 1994. والحق أنني أكثر تعاطفا مع الرويلي والبازعي في ترجمتهما الاجتهادية للكثير من المصطلحات لكني أقترح عليهما الاقتناع (وليس القناعة) بمصطلح " التفكيك" الذي شاع على الألسنة بدل "التقويض". فالشيوع فرض نفسه، ولا مشاحة في الاصطلاح مادمنا قد حددنا الدلالة، كما أقترح استخدام مصطلح "التفسير" بدل "التأويل " في الحديث عن الهرمنيوطيقا. فالتأويل لغة من الأول، في اللغة العربية، أي العودة إلى أصل ثابت، وحيد هو المبتدأ الذي يرجع إليه القصد الذي يجافي المعاني المعاصرة لكلمة "التفسير". وأقترح عليهما أن يستبدلا بكلمة "الأهمية " في شرح أفكار الناقد الأمريكي الشهير دونالد هيرش (المولود عام 1928 ) صاحب كتاب"السلامة في التفسير" كلمة "الدلالة" فهي أقرب إلى الثنائية التي يقصد إليها الرجل في كتابه، حين يميز بين "المعنى" المحدد الثابت الذي قصد إليه العمل في زمنه، والدلالة المتغيرة المتحولة التي يكتسبها العمل في كل عصر، نتيجة آليات القراءة المتغيرة وعلاقاتها المتباينة. وأظن الرويلي والبازعي يفضلان "الدائرة الهرمنيوطيقية "على "الحلقة الهرمنيوطيقية" بعد المراجعة، فالمقصود في المصطلح هو معنى الدائرة وليس التجمع في "حلقة". ولا شك أن نظرية "الفعل الكلامي" أو فعل الكلام أفضل من ترجمة "القول الفعل" التي لا تدل على المراد، خاصة بعد أن أصبحت النظرية مألوفة نسبيا في الكتابات العربية عن التداولية، وذلك بعد ترجمة كتاب فيلسوف اللغة جون أوستن (1911 - و1960 ) "نظرية أفعال الكلام " إلى اللغة العربية. و"أفعال الكلام " ترجمة أدق بسبب علاقتها المضادة بنظرية "الحدث الكلامي " عند باكريسون، وارتباطها بالمنظور التداولي للدرس اللغوي. ولا أريد أن أتتبع سعد البازعي والرويلي في ترجمة كل مصطلح، فهذا أمر لا يحتمله المقام , حسبي الإشارة إلى ما يدل على غيره، ويدفع الصديقين اللذين أقدرهما إلى المراجعة الدقيقة في الطبعة القادمة من كتابهما الذي سعدت بقراءته، وأوصيهما بالدقة المفرطة حتى لا نقرأ ترجمة غير دقيقة لمصطلح أو عنوان كتاب، من مثل " أدب وعاقب "، والمقصود هو كتاب فوكو الشهير "المراقبة والعقاب : ولادة السجن" الذي صدر بالفرنسية (عام 1975) وترجمه آلان شيريدان إلى الإنجليزية بعنوان "الانضباط والعقاب " ( عام 1977) وذلك قبل ثلاثة وعشرين عاما من ترجمته العربية التي صدرت في مشروع مطاع صفدي للأعمال الكاملة لفوكو بعنوان "المراقبة والمعاقبة" (عام1990). وفي هذا المثال ما يلفت الصديقين الرويلي والبازعي إلى ملاحظات أخرى أسكت عنها، لعلمي أنها لن تفوت على فطنتهما.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات