قراءة نقدية في .. أشعار أمل دنقل صلاح فضل

قراءة نقدية في .. أشعار أمل دنقل

القصيدة تمتلك أدوات السينما

ولعل أمل دنقل - في قراءتنا المتجددة له - أن يكون نموذجا مبكرا لهؤلاء المبدعين المحدثين الذين استوعبت حساسيتهم الجمالية تلك المتغيرات النوعية في المتخيل الفني، واستطاعوا أن يترجموا وعيهم بها إلى تقنيات، خاصة أن خبرته العميقة ومعايشته الحميمة للغة التراث العربي وإيقاعاتها الكلاسيكية قد جعلته قادرا على صناعة هذا "المزج" بين صورة الكلام المعهودة وكلام الصورة الجديد، وظلت هذه النقطة الحادة تستقطب طاقته وتمثل بؤرة انصباب أسلوبه. قد لعب شعر أمل دنقل دورا بطوليا في تمثيل الضمير القومي في فترة تحولات أليمة، جعلته يلقب بأمير شعراء الرفض السياسي، لما سيصبح بعد عقد واحد من السنين الشيء المعقول والمقبول في الحياة العربية، وهو "التصالح المستحيل " مع العدو التاريخي، وإعادة تشكيل صورة الذات مرة أخرى. لكن الطابع الزماني الحميم لهذا الشعر يجعله وثيقة فنية بالغة الأهمية على صراع المتغيرات بين السياسة والثقافة، واحتفاظ البيئة الثقافية بصلابة فائقة تقاوم بها التشكلات الهلامية لعالم السياسة المتقلب. وتأتي قصيدة "كلمات سبارتكوس الأخيرة" لتمثل المنطلق الواعد لهذا الحس الحداثي في التعبير الشعري، فهي نص مدهش لشاب لم يتجاوز العشرين من عمره - كتبت عام 1962 - يتبنى فيه مشهدا سينمائيا لفيلم عالمي شهير، ويصب فيه كلماته المشحونة بأيديولوجيا الحرية والمخنوقة بالواقع المكمم لها في الحياة المصرية إبان ذروة المد الناصري العام ، عقب أول انكسار فادح له بانفصال القطر السوري وما أحدثه من تمزقات في وجدان الشباب العربي مع تحريم التعبير المشروع عنها. ويبتدع أمل دنقل في توزيع قصيدته إلى مقاطع مصطلحا جديدا هو كلمة "مزج " التي تشير إلى الصوت الناطق في القصيدة، لكننا عندما نتتبع حركة الأصوات بدقة نجدها جميعا تعود إلى صوت واحد هو "سبارتكوس" ذاته، باستثناء المقطع الأول المتشح بشيء من الإبهام، إذ يمكن أن يكون تعليقا محايدا لصوت القصيدة، تتحدد به وجهتها في الرصد، وتبتأر دلالتها المركزية في الرفض ليتم عرض بقية وحداتها الدلالية على هذه الخلفية وتفسيرها طبقا لها.

بين المزج وتعدد الأصوات

ومع أن أمل دنقل لم يكن أول شاعر عربي يصدم الحس الديني بتمجيد الشيطان والإشادة بتمرده، فقد قدم العقاد من قبله في "ترجمة شيطان " مسيرة رومانسية موازية للسير الغربية التي طالما تغنت برمز الشيطان نكاية في عقلانية الكلاسيكية واستقرارها القيمي الخانق، إلا أن الشاعر الشاب ينجح في رسم حدود المعركة عندما يقيمها بين فريقين فريق " لا " وفريق "نعم". ويمنح الخلود الحقيقي لأصحاب التضحية الأليمة والوعي الشقي بمسئولية الرفض وعذاباته. وإذا كان هذا المزج الأول يعبر هكذا باقتصاد لغوي شديد عن تعليق عام غير منظور على المشهد الذي سيتحدث فيه المصلوب، فإنه ينظم مجال إدراكنا له على مستوى المكان - وهو جوهري في منطق الصورة المرئية - عندما يضع كل طرف في مواجهة الآخر، ويحسم اختياره في الوقوف في صف أحدهما على مسرح الأحداث البصري. فالأبيات على صبغتها الفكرية لا تتردد في تنظيم مدركاتنا الحسية طبقا لتصورنا عن العالم الخارجي، لا تمضي وراء مجردات قيمية، بل توزع الأدوار على جانبي المشهد، صانعة مفارقته الكبرى، وهي تؤكد أن الذي نراه مصلوبا هو الذي سيحيا ويظل روحا أبديا، وأن من وهبه الموت هو الذي سيسقط فعلا في العدم والفناء، وتظل المفارقة في التعبير هي الغالبة على القصيدة عبر مستويات عديدة، إذ تستخدم أسلوب المزج الدرامي وليس فيها تعدد الأصوات، بل مجرد ترجيع ومراجعة للذات، وتضع قناع التراث الروماني وتقصد العصر الحديث، وتدعو في إلحاح إلى الخنوع "علموه الانحناء" وهي بالغة الثورية، لأنها من وراء كل ذلك تختار قيمة إنسانية كبرى توجه مصائر الأمم في التاريخ وتؤرق الإنسان كل يوم، وهي قيمة الحرية، لكنها تفعل ذلك كله بشكل بصري عندما تجعل كلامها هو كلام الصورة الماثلة في مشهد "سبارتكوس" وهو مدلى العنق على مقصلة القيصر، يقول شعرا، أي يقول كلاما ويقصد كلاما آخر، فكأن المجاز اللغوي ينتقل في القصيدة ليصبح مجازا مرئيا، فهذا المصلوب الميت هو الذي لا تزال ترن كلماته في سمع التاريخ، وهو عندما يطلق وصيته لأبناء الأجيال التالية كي " يتعلموا الانحناء"، إنما يؤكد عكس ذلك بالضبط بسخرية غير مريرة وإن كانت حارقة. كما يستحضر كل شهداء الحرية المصلوبين مثل الحلاج والسهر وردي وغيرهما، لكن تظل المفارقة البصرية المتمثلة في كلمات الشعر هي التقنية التعبيرية الغالبة على هذه القصيدة.

نقد جارح

إذا كان السرد القديم رخوا ضعيفا فذلك لأن نسيجه كان يمتد غالبا في اتجاه واحد، فلم يكتسب قوته ومتانته إلا عندما انتظم في جدائل متخالفة عبر تقنيات الاسترجاع والاستباق. وانكشفت بداهة هذه الآليات عندما ترجمت إلى لغة السينما البصرية في "الفلاش باك" حتى نسب إليها وإن كان من ابتداع مخيلة الروائيين من قبل. وعندما يأتي شاعر حداثي فني مثل "أمل دنقل" في واحدة من أشهر قصائده - التي أعطت اسم ديوانه الأول - "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" يأتي ليعبر عن موقف دقيق مركب من النقد الجارح للسلطة الناصرية إثر نكسة يونيو- دون شماتة حمقاء كتلك التي جهر بها بعض أعداء التقدم - فإنه يختار منطق السرد في تكوين المشاهد، مستهلا قصيدته "بكادر" محدد :

أيتها العرافة المقدسة..
جئت إليك مثخنا بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة
منكسر السيف، مغبر الجبين والأعضاء

ثم تنهمر في مخيلته مشاهد الاسترجاع الموجع لجاره الذي كان يهم بارتشاف الماء فيثقب الرصاص رأسه. وصرخة المرأة بين السبي والفرار، والطفلة المشاكسة التي كان أبوها الجندي يرطب شفته باسمها قبل أن يموت عطشا في الصحراء، وماضي الصمت والخرس والعبودية للمواطنين قبل أن تستثار حميتهم وفروسيتهم المهدرة، فتنبت المفارقة الفادحة من دعوتهم للموت بعد نسيانهم في الحياة. ثم تغيب "عين الكاميرا" الشعرية في رقية صوتية وهي تردد بيت الشعر القديم المفعم بالرمز السحري !.

ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا يحملن أم حديدا

وتنطلق لتندد بتجاهل تحذيرات العرافة/ الشاعرة وما ترتب عليه من ضياع حتى أصبحت وحيدة عمياء، إذ لا تزال مظاهر البلاهة والترف وفقدان المسئولية هي المسيطرة. لكن المهم في هذه الجديلة السردية أنها دائما تمزج لحظة التبئير الوصفى في موقف صوت القصيدة أمام العرافة - وهي لحظة مرئية ناطقة - بكل التداعيات المستحضرة عبر تقنية الاسترجاع المتواترة، وما ينتجه تجاور الصور وتجاور الحالات من بروز الدلالات التاريخية للمشهد، وأهم من ذلك ما تنتجه هذه الحركة بين مشاهد متخالفة من تجسيد صورة الموقف وتلوينه ومثوله جماليا في وعي المتلقي الذي يقوم بدوره بإنتاج معناه.

صياغة المونتاج

بوسعنا أن نقول إن "المونتاج" يمثل في لغة السينما ما يقوم به النحو في لغة الشعر من تحديد العلاقات بين الأجزاء المختلفة من فاعلية ومفعولية وفضلات مكملة، ف هو إذن أبرز سطور"الأجرومية المرئية"، فلو شاهدنا منظر غرفة مبعثرة تتمدد فيها امرأة مغتصبة مثلا وأعقب ذلك التركيز على وجه رجل يهم بالهروب من الباب فإنه لا يصبح لدينا شك في أنه فاعل هذه الجريمة، لأن المونتاج قام بتحديد العلاقة عن طريق النقل والتعاقب، فتجاور الصور هو الذي ينتج المعنى السينمائي. وعندما يقوم المخرج مثلا في فيلم "شباب امرأة " بالانتقال من صورة الشاب القروي الذي تغويه صاحبة المنزل وتستنزفه جنسيا إلى "البغل" الذي يدور في الساقية حتى يكاد يغمى عليه، فإن المجاز التمثيلي يتم عبر المونتاج، ولو تأخر المشهد الثاني دقيقة واحدة لفقد سياقه وتبدلت دلالته، ولا يمكن للسرد السينمائي المكثف أن يتم دون المونتاج. وهذه فيما يبدو لنا هي التقنية المثلى عند " أمل دنقل " في قصائده، شذرات من عوالم مختلفة يتم قطعها ولصقها بإيقاع محسوب.

وهي غالبا شذرات متخالفة - كما قلنا - في الزمان والمكان، لكن صوغها في سبيكة قولية واحدة، وإدراجها في أنساق متعاقبة بهذا الشكل دون سواه، هو المكون الرئيسي لبنيتها الجمالية. ولنقرأ نموذجا لذلك قصيدته "رسوم في ب هو عربي" التي تتكون من أربعة مشاهد وتعليق، يقول في مستهلها :

اللوحة الأولى على الجدار ليلى
"الدمشقية" من شرفة الحمراء ترنو لغروب الشمس
وكرمة أندلسية وفسقية
وطبقات الصمت والغبار !
نقش
(مولاي لا غالب إلا الله)

يتجمد المشهد التاريخي المنبثق من الزمن القديم برموزه وعلاماته في قطعة مغبرة من المكان، فالمرأة التي تطل من شرفة الحمراء - آخر قصور غرناطة التي بقيت شاهدا على حضارة آفلة - هي سليلة عبدالرحمن الداخل الأموي، ومن ثم فاسمها ليلى الدمشقية، والمنظر الذي تتأمله هو مغيب الشمس مع استمرار خيوطها في الإثمار متجليا في البرتقال، وهناك كرمة لم تندثر وفسقية لم تتوقف عن المثول، مع ما يعلوالمشهد من طبقات الصمت والغبار المتناثر عبر نقاط الكتابة. أما النقش الماثل في ذيل اللوحة ف هو نفسه الشاهد التاريخي المحفور على حوائط الحمراء حتى الآن من شعار دولة بني الأحمر - آخر ملوك الأندلس - "لا غالب إلا الله " يتم إحضاره للتنويع عليه وتفجير دلالاته المتراكمة.

حتى هنا لا يبدو أثر الفقد، ولا تجرحنا حقيقة الضياع وهو يحدث وتأتي اللوحة الثانية خصيصا لتعيد الصوت الصارخ إلى مآتم الحمراء وتصل بها إلى أقصى درجات مأساويتها في فقيد آخر يوشك أن ينضم إليها، تأتي لتجعلها ناطقة ومتحركة تاريخيا :

اللوحة الأخرى.. بلا إطار
للمسجد الأقصى.. (وكان قبل أن يحترق الرواق)
وقبة الصخرة والبراق
وآية تآكلت حروفها الصغار !
نقش
(مولاي لا غالب إلا النار)

هذا الضم المشئوم للمسجد الأقصى إلى صورة الحمراء هو الذي يهدد بمصير القدس، والمسجد يتآكل، فالرواق يحترق، والبراق يوشك أن يقلع منه وآية "سبحان الذي أسرى" تآكلت حروفها الصغيرة حتى لم تعد مقروءة، وأصبح النقش الموازي للنقش الأول يعطي الغلبة لدمار النار.

اقتران المشهدين فصيح، وإذا كان النقش يلعب مكانيا دور حرف التشبيه في الربط بين اللوحتين فإن تعاقبهما لا يترك مجالا للشك في بلاغة التشبيه وسوء منقلبه، فالمونتاج يتكفل بإبراز ذلك، غير أن الشاعر يوظف " فائض الدلالة " الواضحة في الشرح والتعقيب وهو يريد أن يمعن في المشهد الثالث ليقدم ما يمكن أن نطلق عليه "دينامية الضياع " عبر لوحة أخرى بعيدة في الظاهر عن المشهدين السابقين !.

اللوحة الدامية الخطوط، والواهية الخيوط
لعاشق محترق الأجفان
كان اسمه "سرحان"
يمسك بندقية على شفا السقوط
نقش
(بيني وبين الناس تلك الشعرة
لكن من يقبض فوق الثورة
يقبض فوق الجمرة ! )

كان ذلك قبل الانتفاضة، قبل انتظام الشعب الفلسطيني في ثورة الحجارة التاريخية، فكانت لوحة مقاومته الفردية المشتتة دامية وواهية فعلا كما تقول الأبيات، يتسلح ويترنح، ويستعين بالسياسة التي لا تجدي فتيلا دون القوة، والنقش الذي كان ينبثق من ضميره أخذ يتمثل في نموذج المراوغة الشهير في شعرة معاوية، لكنه نقش باهت وضعيف حتى في تركيبه اللغوي، فلا معنى لهذه ال "فوق" التي تعتلي الثورة والجمرة، والثورة التي لم تشتعل كما ينبغي لها إنما هي بديل للثمرة في العبارة الشعبية. المهم لدينا أن تعاقب هذه الصورة - في مونتاج القصيدة - إثر احتراق جانب من المسجد الأقصى يؤذن بإضرام النار في بقيته، فمادام هذا هو قصارى جهد الشعب المغلوب في مقاومته فالفناء هو مصيره، خاصة عندما تنضم إليها اللوحة الأخيرة، وهي ساحرة ماكرة إذ تقول :

اللوحة الأخيرة
خريطة مبتورة الأجزاء
كان اسمها "سيناء"
ولطخة سوداء
تملأ كل الصورة
نقش
(الناس سواسية - في الذل -كأسنان المشط)

إن عين الكاميرا في هذه القصيدة تسجيلية، تكفي برصد مشاهد من الواقع الماثل حينئذ وتلفقها في منظومة متحركة تنطق عبر التعليق المنقوش، فهناك حوار بين اللوحات وبعضها بموقعها، وهناك تفاعل دلالي وتصويري داخل كل لوحة بين النص والتعليق، وفي هذه اللوحة الأخيرة تتزايد دهشتنا لانحراف النقش عن اللوحة، لكن لو تذكرنا أن العامل الاقتصادي كان هو الجوهري في ضعف التسليح العربي لأدركنا أن ما يثبته الخطاب الشعري - عبر تقنياته الفنية - من توزيع الأجزاء وصفها بهذا النسق دون غيره إنما هو رؤية يتقدم بها الفكر الشعري للواقع السياسي والاجتماعي، وإن كانت تبدو ساخرة عابثة في ظاهر الأمر، فإنها مفعمة بحكمة التاريخ ودهاء الفن في تصوير الوعي وتوجيه استراتيجيته، وتأتي الكلمات الأخيرة المكتوبة - على حد تصوير القصيدة - في دفتر الاستقبال، أي بعد انتهاء العرس الفاجع، بمنزلة التعليق المرير والتذييل الدامغ للمشهد كله، بحيث تصبح إدانة للذات قبل أن تكون نقدا موجها للآخرين، هذه الذات الجماعية المجلودة:

كتابة في دفتر الاستقبال
لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي.. أبدا
إني لأفتح عيني (حين أفتحها)
على كثير.. ولكن لا أرى أحدا

وتتراكم خلف هذه الكلمات الحبلى بالإشارات طبقات عديدة من النصوص الموازية، الموافقة لها والمخالفة، فالخطاب يتوجه فجأة إليها، إلى هذه الأنثى التي لم يرد ذكرها من قبل وإن كانت حاضرة في وجدان كل قارئ، إنها الوطن الأم، مصر وهي تستعطي النيل - ابنها البكر - لمنحها خصوبة الولود. ينكر عليها صوت القصيدة أن تظل معطاء، فلا جدوى في هذا الغثاء البشري وأعداد النمل التي لا تقوى على صناعة أحد يعتد به فتظل الجموع بلا فائدة كما وصفها الشعراء، ابتداء من علي بن الجهم الذي صاغ البيت الأخير ونوع عليه أمل، إلى أحمد عبدالمعطي حجازي الذي نظر بعينه غياب الآخرين في تجربة فردية يحيلها شاعرنا إلى قومية وطنية، ويظن هذا الغياب الفادح للإنسان - كقوة محركة لتاريخ الشعوب - وسيلة القصيدة المثلى كي تستحضره وتحثه على المثول التاريخي والشعري معا.

الشاعر مخرجا

لم يكتمل الفيلم الملحمي - أقصد ديوان الوصايا العشر وأقوال حرب البسوس - في مخيلة أمل دنقل، مثلما لم تكتمل منظومة الأفلام التاريخية الأسطورية التي جهز لها المخرج العبقري شادي عبدالسلام وأنجز بعض مشاهدها، الأمر الذي يجعلنا نؤثر كي نتأمل أسلوب أمل دنقل في إخراج شعره أن نعبر هذه الملحمة الناقصة ونتجاوز عن تخالفها مع الحس التاريخي مع قدرتها الفذة على تمثيل الضمير الجماعي للذات العربية في أحد انعطافاته الخطيرة، لنقرأ قصيدة أخرى تشبه ما أنجزه يوسف شاهينمن أفلام عن سيرته الذاتية.

فقصيدة "الجنوبي" - التي تستمد منها زوجته عنوان سيرته - ذات سيناريو بسيط تتم تنميته الجمالية خلال تنفيذه، فالمخرج نفسه هو صاحبه وموضوع مادته، إذ تبدأ بصورة شخصية تنقسم فيها الذات إلى شطرين : الطفل والرجل، في مشاهد متراكبة، ثم يستعرض تاريخ أربعة وجوه لممثلين آخرين شاركوه سريره ولقمة خبزه وخفقات قلبه، يتعين على أصدقائه المقربين تسميتهم بوضوح وإن لم يكن لذلك أهمية شعرية، وتنتهي القصيدة بوقفة أمام المرآة وحوار مع الحقيقة والأوجه الغائبة التي سبقته إلى مستقر الفناء. ومع أن الصورة في هذه القصيدة أيضا هي التي تتكلم، والجديلة السردية مصنوعة بإحكام وتخالف عبر المفارقة وعملية مونتاج المشاهد متقنة، فإن سر القوة فيها يعود إلى تخطيط المخرج وأسلوبه في تأليف النص واختيار اسمه وإدارة حركاته، بحيث يقلب أوضاعه بين الإنشاء والتقرير، بين الذكرى والتأمل، بين اليوم والأمس على وجه التحديد. يبدأ باستحضار الصورة التي لم يصغها هو - مثل أي مخرج - لكنه يدرجها في سياق يجعلها تنطق بدلالتها :

صورة
هل أنا كنت طفلا
أم الذي كان طفلا سواي ؟
هذه الصورة العائلية..
كان أبي جالسا، وأنا واقف.. تتدلى يداي

لا شك أن الصورة كانت تضم العائلة كلها، لكنه يبرز أباه الجالس في الضوء، ويسلط الكاميرا على يديه المدلاتين إلى جانبه وهو واقف، ثم يغفل بقية الأفراد ويضعهم في الظل، أليس فيهم النساء والأطفال وهو جنوبي لا ينبغي له أن يشير إليهم أويسميهم ماداموا أحياء؟ على أن التساؤل الأول عن نفسه بصري في حقيقته، فها هو يرى شكلا صغيرا كان له ولم يعد يملكه، مما يجعل تداعيات الموقف تفضي به إلى تأمل ماذا فقد من الطفل وماذا بقي له منه، لقد فقد مثلا عذوبة الملامح، وطيبة الفطرة المترقرقة في عينيه، ولم يتبق له سوى اسمه أو بالأحرى صداه، لأنه لوالتفت إلى هذا الاسم نفسه لا يدهش له وتحولت ألفته الشديدة إلى إنكار، كما فعل لوركا عندما قال :

لكم يبدو هذا غريبا
مثل أن أسمى فيديريكو! !

لكن شاعرنا لا يسرف في التأملات والتداعيات الميتافيزيقية. بل يلتزم بإخراج المشاهد البصرية وتحميلها مسئولية التعبير الفني

فالصورة هي التي ينبغي أن تتكلم عنه.

ومن ثم فإنه يركز عين الكاميرا على شبح في جبين الطفل، كأنه ندبة التعرف في الملحمة القديمة، وينتقل مسترجعا في لقطة سريعة إلى منظر الدم وهوهو ينزف منه عقب رفسة الفرس له، هذا الدم الذي نزف من أبيه قبيل موته. ثم ينتقل بالصورة إلى "كادر" آخر، إلى طريق مقبرة أخته ذات الربيعين، ولا يلبث الطريق أن يتلاشى غائما أمام عينيه حتى يبرز وجهه مرة أخرى وهو يحدق في الصورة لاكتشاف غربته وتذكر رفاقه الذين صاحبوه في رحلة العمر واستحضار ملامحهم من ذاكرة الغياب الأبدي ليأتنسوا بالرفقة المفتقدة. المهم أن شاعرنا في أغلب ما ترك لم يقل كلاما فحسب، بل أنشأ المشهد المتصور وعمل على التعبير عنه بأدق ما تستطيع عين خياله، فبدا مرئيا لدرجة أن الشخوص تتحاور أمامنا وتتحرك بشكل تمثيلي، ويتلاشى الظل بها تدريجيا فلا نستبين ملامحها. وهي في حركتها تمضي لتحضر أشياء هي التي تكون صلب المعنى. لكنها أشياء متعينة يمكن أن نمسكها بقبضتنا مثل حبة الرمل وقطعة الثلج وومضة الحقيقة التي نوشك أن نلمسها. فلعبة الإضاءة التي يوظفها الشاعر لا تكشف عن الأشياء المادية فحسب، بل تغمر بظلالها المرهفة منطقة الحلم والش هو ة لتجسد المشروع الإنساني العميق لصوت القصيدة ورؤيته للوجود. وهي تصور كل ذلك بأدوات وتقنيات عصرية ولغوية تبرز إيقاع حياته الباطنية وجوهر إحساسه بالكون في بؤرته الكلية الشاملة، بما يجعل فن الكلمة يمتزج بجماليات اللغة التقنية الجديدة ويستثمر إمكاناتها التعبيرية.

 

صلاح فضل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




أمل دنقل





غلاف الكتاب الذي أصدرته عنه زوجة الشاعر