واحة العربي

الرقص

الرقص أقدم الفنون وأذكى العلوم وأعمق تفاعلات الجسد الحي مع الطبيعة

الرقص هو موجز تاريخ بلاغة الحركة في الكائنات الحية التي يعلوها الإنسان، ابتداء من إشاراتها الوضيعة البدائية المثيرة - إلى إيماءاتها السامية المعبرة المتألقة، والرقص أقدم من اللغة، وأذكى من التاريخ، وأعنف من المكائد والأعاصير، وأكثر دموية من الاجتياح الحربي، وأرق نعومة من ابتسامة الأم، وأصدق من أقوال الحكماء، وأشد جاذبية من الحق والعدل، والرقص هو الشعر في الحالة الحية المجسدة، ينمو في الموسيقى وتنمو الموسيقى على علاقات أجزائه التي تتأود، هو الإشعاع الغريزي لطاقة الغريزة، وإعادة صياغة لعلاقات الأعضاء بما يخرجها عن كونها مجرد أعضاء، أي لتصبح هذه الأعضاء عنصرا فاعلا مؤثرا في طقس الحياة والطبيعة.

وأجمل الراقصين- والراقصات- على الإطلاق- ذكر الحمام في حالة الهيام، وسالومي وهي تقدم للحاكم رأس يوحنا المعمدان، وتحية كاريوكا في (شباب امرأة)، وتاييس وهي تغوي راهب الإسكندرية، وفريدة فهمي في استعراضات فرقة رضا، والشعوب استقبالا لذوي السلطان أو دفنا لهم تحت التراب، والجدة حينما تستقبل أول حفيد لها، وراقصات الباليه في أوج الاندماج التعبيري، ورقصة زوربا اليوناني حينما وصله نبأ وفاة ابنه في رواية كازنتزاكي، وتراقص اللاعب المحترف بالكرة أمام المرمى، والسياسي حينما يفيض في وصف حكمة الزعيم، والقمر في أثناء انسيابه بين شفائف السحب، والقرد تحت وقع رق وخيزرانة صاحبه، والموظف الساعي إلى قلب الرئيس، والكاتب المتراقص على سلم المقالات، وذكر النحل في آخر مراحل تواصله القاتل مع الملكة، ورقصة الثأر في المجتمعات البدائية أو التقليدية، ورقصة النار أيضا، وكذلك رقصة المطر، وغوازي- المتعة الحسية في الأفراح والموالد والخروج من السجن، أو في المجالس المنتشية للأثرياء والأعيان وأبناء الحظ، وكل هذا رقص يختلف عن الترقيص، فالرقص- في عمومه- استجابة داخلية قد تتوافق مع متطلبات خارجية أو لا تتوافق، أما الترقيص فيتم باستثارة خارجية، مثل ترقيص الخيل، وترقيص الحواجب، وترقيص الأعداء والمناوئين (أي تضييق الخناق عليهم حتى يتراقصوا وجلا)، وترقيص الكلاب- وباقي المتراقصين في حلبة السيرك، وترقيص المؤلفين على الإيقاع الجشع للناشرين، وترقيص المراكب في مواجهة الزوابع، وترقيص وزراء الداخلية السابقين في ساحة المذكرات السياسية.

أما كثير الرقص فهو الرقاص، وتجده في الساعة، والواشي بين صديقين، والزنبور تمهيدا لخراب عشه، والهامس في أذن السلطات، ومساعدي تجار المخدرات وبصاصيهم، وصبية المقاهي، وكتبة الشكاوي، وباعة الطبول والدفوف، والمشعوذين، والمتاجرين في الشعارات، وصناع أقواس النصر.

وكلها تبعد عن الرقص السامي الأصيل، والذي يظل هو التفاعل الحي بين الإنسان والجماعة، والجماعة والطبيعة، والطبيعة والجسد لحي مرة أخرى.