اللغة حياة

اللغة حياة

أما آن للجوّال أن يستريح؟

تتعدّد الألفاظ الدالّة على معنى واحد، أحياناً، بتعدّد البيئات التي ارتجلتها، أو اللغات (اللهجات) التي أنشأتها، أو المجازات التي انطوت عليها، أو الأصول الأجنبيّة المحتملة التي صدرت عنها؛ وكل ذلك، ولاسيّما في أَعلام غير العاقلين، من أسباب الترادف الذي ينفيه بعضهم، بغير حق. وسنتوقّف بصفة خاصّة عند الضرب الأخير، وهو ما يعود إلى أصول أجنبيّة، ونمثِّل له بشاهد معبِّر هو أسماء الشهور العربيّة أو المعرّبة، في السنة الشمسيّة؛ فتلك الأسماء إمّا من أصل سريانيّ أو من أصل لاتينيّ، أو هي عربيّة محدثة أريد بها التحرّر والتجديد والاختلاف.

واختصاراً للبحث نكتفي بالشهر الخامس من السنة الشمسيّة؛ فالبلاد التي استمدّت اسمه من السريانيّة، كالبلاد الشاميّة، عرّبته بأيّار؛ وبعض المحدَثين يقولون نَوّار، ولم أجده في المعاجم الأمّهات، ولعلّه اجتهاد متأخّر أريد الاستعاضة فيه بكلمة عربيّة من كلمة أجنبيّة تقاربها في اللفظ؛ وربّما أريد الإيحاء بزهر الربيع، وأيّار آخر شهوره؛ والبلاد التي أخذت اسم الشهر من اللاتينيّة من خلال الإمبراطوريّة الرومانيّة، على ما يبدو، استعملت، كما في العراق، كلمة «مايس» (الأصل اللاتينيّ هو مايوس) واستعمل آخرون، كالمصريّين ومن تابعهم، كلمة «مايو» أي بحذف السين؛ والّذين اقتبسوا الاسم من الفرنسيّة، وهي من أصل لاتينيّ وتميل إلى الاختزال، اتّخذوا للشهر اسم «ماي»؛ وقد حاولت ليبيا الانعتاق من التأثير الأجنبيّ فاتّخذت ألفاظاً عربيّة خالصة لجميع الشهور، أحياناً باعتماد رموز وتآريخ قوميّة عربيّة أو إفريقيّة، وأحياناً باستعمال ما يدلّ على عناصر الطبيعة التي تنشأ في بعض الشهور، أو على العمل الذي يجري فيها، أو بتقريب لفظ عربيّ من اللفظ الأجنبيّ، فأسمت الشهر الخامس بـ «شهر الماء». ولا شكّ أنّ كلّ هذا يربك المستعمِل العربيّ الذي يجد نفسه بإزاء أسماء ستة، بعضها متشابه، يمكن استنتاج ترتيبه بالقياس إلى ما يقاربه، وإن كان ذلك غير ميسور للكثيرين، وبعضها مختلف.

ويشبه هذه الحال حال الهاتف الحديث الذي يعمل عن طريق شبكة لاسلكيّة من خلايا الإرسال الكهرَمغناطيّ التي تبثّ الأمواج الصوتيّة أو الكتابات أو الصور وتتلقّاها؛ فالّذين ترجموا المصطلح الأمريكيّ الشماليّ لهذا الهاتف، كأهل لبنان، أسموه الهاتف الخَلَوِيّ (أو أسموه الخَلَويّ اختصاراً، نسبة إلى الخليّة، ولا يعتدّ بالخطأ الشائع في لبنان نفسه وهو الخليويّ)؛ والّذين تأثّروا بالمصطلح الأوربيّ أسموه الجوّال اختصاراً، كما في المملكة العربية السعوديّة، أو المحمول، كما في مصر، أو النقّال كبعض أهل الخليج العربيّ؛ وعرّبه بعضهم بالموبايل وبالسلّولار (cellulaire) - والاسم الأخير يبدو اقتباساً عن الترجمة الفرنسيّة للّفظة الإنجليزيّة (cellular)-. ومن حسن الحظّ أنّهم لم يأخذوا بالمصطلح السويسريّ «ناتَل» (وهو اسم شركة) أو المصطلح البلجيكيّ GSM أو سواه من الأسماء الأجنبيّة المحتملة، كالمصطلح الصينيّ أو اليابانيّ. المهمّ أنّنا بإزاء ستة أسماء: أربعة مترجمة، واثنان معرّبان، فكيف يمكن التفاهم بين أبناء العربيّة بواسطتها؟

قد يقال إنّ مصدر اختلافنا هو اختلاف الدول الصانعة لهذه الآلة، وهذا صحيح مع التحفّظ؛ ولا ريب أنّ الأفضل أن يوحَّد المصطلح في كل ميدان، كما وُحِّد المصطلح الخاص بالسيارة أو الطائرة أو الدراجة وأشباهها؛ وكما وحّد الأجانب مصطلح الحاسوب، مثلاً ? وله في العربيّة مع الأسف أسماء متعدّدة - فأُطلق عليه في الإنجليزيّة اسم مشهور جداً هو الكومبيوتر، وفي الفرنسيّة اسم معروف عند أهل تلك اللغة هو الأُورديناتور؛ أي المنظِّم.

فاختلاف الصانعين الغربيّين والشرقيّين لا يوجب اختلاف العرب في ما بينهم بحيث لا يستطيعون التفاهم إلاّ بصعوبة. والمرجّح أنّ المشكلة سياسيّة بالدرجة الأولى، وتُرجع صدى الاختلاف بين الدول العربيّة التي لم تعد جامعتها قادرة على جمعها؛ كما أنّ مجمع اللغة العربيّة في القاهرة لا يتمتّع بقدرة على التوحيد اللغويّ؛ فليس له سلطة فاعلة، وصلته بجمهور المستعملين محدودة، دع عنك طاقته على الإقناع أحياناً. فعلى جامعة الدول العربيّة أن تصلح هذا الأمر، على الأقلّ، الذي لا يُعتقد أنّ القوى الخارجيّة قادرة على عوقه أو منعه، وأن يصلح مجمع اللغة العربيّة صلته بالناس، وذلك يقتضي:

1- أن تتعهّد الدول العربيّة بقبول قرارات مجمع اللغة، وبنشرها في المؤسّسات العلميّة والتعليميّة، لاسيّما العليا؛ وبإذاعتها بصورة فاعلة في وسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمقروءة.

2- وأن يسبق ذلك نقاش عامّ لكل مصطلح أو عبارة يقترحها المجمع، بحيث لا يتّخذ قرارا إلاّ بعد استنفاد النقاش العلميّ له؛ فهذا يجعل عمل المجمع حيّاً وعامّاً وعلنيّاً، يشارك فيه المختصّون والمعنيّون، ويشيع بين الناس قبل اعتماده. وغنيّ عن البيان أنّ في خارج المجمع من لا يقلّون معرفة عن أعضائه وربّما فاقوا بعضهم ممارسة للتعبير العلميّ أو الأدبيّ؛ وبغير ذلك تبدو قرارات المجمع كالكلمات المماتة، وقد تبعث أحياناً على التفكّه، كالذي قالوه في ما سمّوه الشاطر والمشطور وبينهما الكامخ، والمرجّح أنّه من أكاذيب المضحكين أو المفترين؛ وكفرض بعض القرارات التي يبدو أنها أهملت، والحمد لله، كالقول بأن تكون نسبة رئيسيّ خاصة بمن تكون له الرياسة، كالأمير ورئيس الجمهوريّة.. إلخ. وبأن تكون كلمة الرئيس صفة لما يتمتّع بالأوّليّة من أعضاء الإنسان أو الطرق أو ما أشبه ذلك، فلا يقال فيه رئيسيّ. وقد عاد المجمع عن قراره فسوّغ استعمال رئيسيّ في كل شيء تندرج تحته أفراد متعدّدة، وهو موضوع سنعود إليه في مقالة قادمة.

وحتّى لا يكون نقدنا سلبيّاً، فإنّنا نقترح أن تُعتمد الشهور السريانيّة المعرّبة لدخولها في العربيّة ولقدمها في الاستعمال، فهي أسبق من المعرّبات اللاتينيّة الأصل بأكثر من 1250 سنة، إذ استَعمَل بعضَها الليثُ بن سعد والجاحظ وغيرهما؛ وهي بالتأكيد أسبق وأشيع من الابتكار الليبيّ على وجاهته؛ ومعروف أن الاستعمال الحيّ والأقدم والأشيع والأدخل في اللغة أحقّ بأن يتّبع.

وأمّا أسماء الهاتف المشار إليها فنقترح توحيدها أيضاً بحيث نسقط عفواً الأسماء المعرّبة، كما سقط اسم الأتوموبيل وبقي اسم السيارة، وأن يترك اسم «المحمول» لأنّه يلتبس بالحاسوب المحمول، واسمُ «النقّال» لملمحه العاميّ؛ ويبقى الخيار بين «الخلويّ» و«الجوّال»؛ ونحن نؤثر «الخلويّ» لأنّ «الجوّال» صفة عارضة للهاتف، وغير دقيقة، وفيها مجاز بعيد، ولها معان أخرى هي: الشاعر المغنّي الذي كان يطوف في بلاد إسبانيا وغيرها، والبائع الذي يطوف بسلعه، والكشّاف الراشد المحتمل للرحلة والقفر.. إلخ. أما «الخلويّ» فصفة تكاد تقتصر على ذلك الهاتف، وتدلّ على خصوصيّته الصناعيّة.

 


مصطفى الجوزو