ثقافة إلكترونية

ثقافة إلكترونية

العوالم الافتراضية
صور متخيلة لمستقبل البشر

قبل نحو ثلاثة أعوام انتشر نوع من الفيروسات عرف باسم «دم فاسد»، أدى إلى مقتل الآلاف. واستمر الفيروس المتوحش في الانتشار. وسرعان ما تحولت، مساحات شاسعة، من أقاليم ومدن، إلى مناطق كارثية. فعندما يصيب الفيروس شخصا من الأشخاص فإنه سرعان ما يبدأ في النزيف، بلا توقف، حتى يلفظ أنفاسه.

وفي محاولة من المتخصصين في الأمراض الوبائية لاكتشاف أسرار الانتشار المذهل للفيروس، كانوا، بالإضافة للاختبارات المعملية، يراقبون ما يحدث في الشوارع، حيث تتساقط الجثث بالمئات، بينما يسرع الأشخاص الذين يشعرون باقتراب آجالهم لإصابة أقرب الأشخاص إليهم بالعدوى، بأي طريقة.

غير أن هذه الواقعة الافتراضية لم تحدث في أي مدينة من المدن المعروفة في أرجاء العالم، بل في مدينة افتراضية تحمل اسم «آزيروث»، ولا أظن أن أحدا منكم سمع عنها قبلا، لأنها مدينة وهمية لا وجود لها إلا في الواقع الافتراضي، على شاشات الكمبيوتر، لمستخدمي برنامج ألعاب الكمبيوتر المعروف باسم (World of Warcraft). هذا البرنامج ينتمي لعدد من البرامج المثيلة المهتمة بالواقع الافتراضي مثل «الحياة الثانية» (Second Life) ، أو (Ever Quest)، التي تتخلق فيها عوالم من شخصيات وأماكن وأحداث افتراضية، لكنها تستند إلى مفردات من الواقع، فاللاعبون فيها يستخدمون عملات نقدية افتراضية، وأسماء افتراضية، ويقيمون علاقات وصداقات واقعية، لكنها تستند إلى الهوية الافتراضية التي يختارها كل شخص لنفسه.

لكن هذه العوالم الافتراضية، بعيدا عن دلالاتها السلوكية وانعكاساتها الاجتماعية التي أثيرت سابقا في هذه الزاوية، تخضع لدراسة وتحليل عدد من العلماء، والمتخصصين في مجالات شتى، وبينهم، بالفعل، الباحثون في مجالات الأمراض المُعدية، إذ إنهم يفترضون انتشار وباء ما، ويبحثون سلوك الأفراد حيال الوباء، لبحث الحلول لمواجهة الأمراض الوبائية في الحياة الواقعية.

فوفقا لتقرير نشرته مجلة «نيو ساينتست» العلمية المتخصصة، كان ذلك البرنامج جزءا من بحث بهذا المعنى، وفقا لما أكده «ديمتري ويليام» أستاذ البحوث الاجتماعية بجامعة كاليفورنيا الشمالية، الذي أضاف أن البحوث تتعدى ذلك إلى مجالات السياسات والنظم الاقتصادية، وشبكات العلاقات الاجتماعية، وغيرها.

بين الواقع والخيال

«الكائن البشري هو الكائن البشري»، يقول إدوارد كاسترونوفا، الباحث بجامعة إنديانا، الذي يعد رائدًا في هذا النوع من البحوث، ويضيف: «إن كل ما له أهمية في حياتنا يمكن أن نراه بشكل تنبؤي في العالم الافتراضي. خذ على سبيل المثال، في الاقتصاد، نظرية مثل العرض والطلب. إذا كانت نظرية جيدة، فيمكن أن تطبق في أثينا القديمة، وفي لندن المعاصرة، على السواء. وإذا كان بالإمكان تطبيقها في هاتين البيئتين المتباينتين، يمكن تطبيقها أيضا في العالم الافتراضي».

ولكن ماذا عن السلوك البشري في العوالم الافتراضية؟ هل تختلف الانفعالات والمظاهر السلوكية للأفراد في الواقع عنها في العوالم الافتراضية؟

للإجابة عن السؤال، أجرت وحدات بحثية بجامعة لندن دراسات على ردود الفعل تجاه العالم الافتراضي، وتبين أنها لا تختلف عن نظيرتها في الحياة الواقعية، خاصة في ما يتعلق بمدى تحمل الضغوط، وذلك عبر تجربة جسدت تعرض مجموعة شخصيات افتراضية للألم، ولعدد من الصدمات. وعندما أجريت التجربة على مجموعة أخرى من الشخصيات باستخدام نصوص مكتوبة على شاشات الكمبيوتر؛ تضمنت وصفا لتجربة الألم والصدمة، ولكن بلا صور، كانت ردود فعل عينة البحث أقل تأثرا، وعاطفية. في تجربة أخرى طبقت على متطوعين من مستخدمي برنامج «الحياة الثانية»، تبين أنه حين يقوم شخص بتوجيه نظيره الافتراضي، بالمشي في الطريق، فعندما يعترضه شخص افتراضي آخر، فإنه يأخذ خطوة للخلف ليسمح للآخر بالمرور، أي أنه يسلك سلوكه المتوقع نفسه في الحياة الواقعية.

تجـنب الحرج

من جهة أخرى يرى المتخصصون في علوم السلوكيات أن العالم الافتراضي يمكن أن يوفر نتائج مهمة، لأن استجابة مستخدمي برامج العوالم الافتراضية تختلف عن استجاباتهم في الحياة الواقعية، لأنها تتخلص من التحرج، والافتعال، اللذين يميزان السلوك في الواقع. كما أن هذه البرامج لا يحتاج فيها المتخصصون إلى سؤال الأشخاص أسئلة مباشرة، بل يكتفون برصد ردود الفعل المختلفة.

ومازال البحث مستمرا، بل إن بعض هؤلاء الباحثين بدأوا في تصميم برامج ألعاب من أجل بحوثهم ومنها برنامج Arden، الذي صممه إدوارد كاسترونوفا، حيث أنشأ مجتمعا افتراضيا من عوالم مسرحيات شكسبير. وبالتالي يكون على مستخدم البرنامج اختيار واحدة من شخصيات شكسبير والتحرك بها في هذا العالم الافتراضي، لكنه لم يحظ بعد بالشعبية والإقبال، وهو ما دعا الباحث إلى تصميم نسخة جديدة من البرنامج سترى النور قريبا.

وهذا ما يعني أن العوالم الافتراضية، تكتسب من أرض الاهتمام مساحات واسعة كل يوم. لكن العلماء، في المجالات المختلفة لا يتعاملون معها بوصفها خيالات أو ألعابا للتسلية، بل يولونها قدرا كبيرا من الجدية والاهتمام.

فضاء افتراضي

أما بحوث الفضاء، فهي تدخل المضمار بقوة، خاصة، فيما يتعلق باكتشاف المريخ الذي وصلت إليه المركبة فونيكس أخيرًا، لأخذ عينات من طبقته الجليدية للأرض، فالعالم الافتراضي يمكن أن يعرف علماء الفضاء على كل الاحتمالات التي يمكن أن تواجهها فرق رواد الفضاء خلال تلك الرحلات التي تمتد بعضها لعامين كاملين، لمواجهة كل الاحتمالات الممكنة. بالإضافة إلى محاولة بناء عالم افتراضي لكوكب المريخ نفسه لبحث إمكانات تطوير وسائل البحث على سطح الكوكب مستقبلا.

أوهام البطولة

أخيرا تشير الدراسات إلى تزايد عدد الأفراد العاديين في التعامل مع برامج العوالم الافتراضية، وأحيانا لعدد ساعات طويلة يوميا تصل معدلاتها أحيانا إلى نحو 30 ساعة أسبوعيا، وبعض هؤلاء قد يأخذ الموضوع لديهم بعدا مرضيا، إذ يستغرقون في انشغالهم في العالم الافتراضي تماما، لدرجة أن احد المواطنين الكوريين تعرض لأزمة قلبية وتوفي على إثرها في عام 2005، نتيجة استغراقه في استخدام برنامج من برامج العالم الافتراضي على مدى 50 ساعة متصلة من دون أن يتناول طعاما كافيا، ومن دون أن يحصل على احتياجه من النوم، وهي ظواهر لها مدلولات لدى الباحثين، وبينهم إدوارد كاسترونوفا الذي يرى أن المسألة بالنسبة إلى البعض أصبحت تماثل استبدال مشاهدة التلفزيون، بينما هناك نسبة تتراوح من 5 إلى 10 في المائة من مستخدمي هذه البرامج يقررون أن يبقوا هناك في العالم الافتراضي.

يقول كاسترونوفا: « هناك العديد ممن لا يرون في البيئة التي يعيشونها في الواقع أي معنى، دعوهم يصبحون أبطالا، فهذا ما يفسر سبب استغراقهم في هذا الأمر على ذلك النحو، ألسنا جميعا نفضل أن نكون أبطالا على أن نكون عمالا في أحد مطاعم الوجبات السريعة؟»!.

 


إبراهيم فرغلي 




العوالم الافتراضية أصبحت جزءا من واقع الشباب





تجربة عملية على ردود الفعل على الواقع الافتراضي





كوكب المريخ متخيلا في «الحياة الثانية»





على سبيل المثال فإن برنامج «الحياة الثانية» شهد تصميما افتراضيا لمحطات نووية دفاعية، يدرسها مختصون في الفيزياء من جامعة دنفر





وهي أيضا مساحة نموذجية لعالم الاستخبارات حيث يمكن عبر العوالم الافتراضية تطوير عملهم ورصد الطريقة التي يتعامل بها البشر في العالم الافتراضي، لحل مشكلات مختصة بمهمات الاستخبارات





يشير التقرير نفسه أيضا إلى أن الاستراتيجيين في الجيش الأمريكي فكروا في أن بناء عالم افتراضي متخيل من واقع تفاصيل مدينة بغداد يمكن أن يكون له دور في تطوير خطط الجيش والجنود أنفسهم في التعامل مع الواقع العسكري على الأرض





وفي مجال تخطيط المدن فإن مجال العالم الافتراضي يعتبر جيدا جدا لمخططي المدن، لأنهم يقومون بالتصميمات الافتراضية على الشاشة، فإذا لم تنجح يكون بإمكانهم تعديلها بسهولة، ولن يضطروا، في هذه الحالة، إلى إعادة بناء «ماكيتات» كاملة كما كانت الحال من قبل





أما جامعة تكساس الأمريكية فقد شهدت جهود عدد من الباحثين حول الواقع الافتراضي، وعلاقته بالطب النفسي، ووجد الباحثون أن هناك فرصا جيدة لعلاج بعض الحالات عن طريق تصميم عالم افتراضي يرى فيه المريض حقيقة ما يخشاه في الواقع وردود فعله الطبيعية في تلك الحالة