جمال العربية

جمال العربية

شاعر «الهوى والشباب»
والهوى.. نحن أُمُّه وأبوه

العبارة لشاعر الهوى والشباب الأخطل الصغير بشارة الخوري (1885 / 1968) في سياق واحدة من لوحاته الشعرية البديعة، تنطق لغتها وصورها، وألوانها ووهج نيرانها، بسمات عهد الشباب في إبداعه الشعري، حين كان بزوغ نجمه شهادة على كون شعري جديد يتخلق في سماء الشعر العربي، وانعطافة كبرى في مسيرة الشعر اللبناني - والعربي كله - صنعها هذا الشاعر المتفرد بلغته ومعجمه الشعري، ورهافة تناوله للحظة الشعرية، يبني من دقائقها وثوانيها مفردات لوحته، ويسكب عليها من نضارة حسّه وعرامة وجدانه، زيت الحياة، ونفحة الخلود.وهكذا قُدر لهذه اللوحة الفاتنة، ولكثير غيرها، أن تكون سفارة الأخطل الصغير إلى كل عواصم الشعر العربي، وهو يعتصر من قطرات النفس وجلوات الروح، كيمياء قصيدته ويقول:

أتُرى يذكرونه، أم نسوه؟ هم سقوْهُ الهوى، وهم أسكروهُ
علّلوه، فكان أقتل شيءٍ ذلك الصدّ، بعدما علّلوهُ
عمّرَكَ الله، هل عرفت فؤادًا كفؤادي، عليه جار ذووهُ؟
زعموا أنهم شروْهُ، ولكن ليت شعري هل صحّ ما زعموهُ!
إن أكن بِعْتُهم فقد كان شرطي حفظ ودّي، لكنهم ضيّعوهُ
فسحبتُ السفير وهو غرامي وكذا هم، سفيرهم سحبوهُ
ليتهم يذكرون ليلة كُنّا والهوى نحنُ أمّهُ وأبوهُ
وعيونُ النجوم ترنو إلينا ولسانُ الدجى يكاد يفوهُ
والنسيمُ الخفيف يلهو بثوبيْنا كطفلٍ ذووهُ ما هذّبوهُ
ورشفنا كأْسَ الحميّا، فباحت بالذي في الصدور منّا الوجوهُ
قلتُ أهواكَ يا ملاكي، فردّت مقلتاهُ، لكن تلعثمَ فُوهُ
علّ هذي الذكرى تُنبّه هندًا وعساهُ يفيدنا التنبيهُ
قلبُ هندٍ أخٌ لقلبي، فويلٌ لأخٍ سامه العذابَ أخوهُ


ولقد التقط الأخطل الصغير اسم «هند» من بين كل الأسماء التي دار من حولها شعر الغزل في ديوان الشعر العربي، ليكون الاسم الأثير لديه. وهو اسم له من حروفه الثلاثة، وإيقاعه، وبروزه الصوتي، وظل دلالته اللغوية التي ترددت في القول العربي المأثور: «ما أمامة من هند»، وأصبحت تنصرف إلى ثروة بالمئات من النياق، وكأن صاحبة هذه التسمية ثروة في ذاتها، لأهلها أولاً، ولمن يفوز بمحبتها ثانيًا، وعبر الأخطل الصغير، عن اعتزازه بهذه التسمية في أكثر من موضع من ديوانه، أشهرها الحوارية البديعة التي صورها تدور بين هند وأمها، وقد نفث فيها من سحر شاعريته، وقدرته الفذة على التخييل والتصوير والتجسيد، وبراعة التقطيع الذي يجعل من فواصل القصيدة وقوافيها نموذجًا للشعر المُرْقص، والفتنة المدهشة. يقول بشارة الخوري:

أتت هند تشكو إلى أمها فسُبحان من جمع النيِّريْن
فقالت لها: إن هذا الضحى أتاني، وقبّلني قبلتيْن
وفرّ فلما رآني الدجى حبانيَ من شَعْرِه خصلتيْن
وما خاف يا أمُّ، بل ضمّني وألقى على مبْسمي نجمتيْن
وذوّب من لونه سائلاً وكحّلني منه في المقلتيْن
وجئتُ إلى الروض يا روضتي وهمّ ليفعل كالأوّليْن
فخبّأتُ وجهي، ولكنّه إلى الصدر يا أمُّ مدَّ اليدين
ويا دهشتي حين فتّحتُ عيني وشاهدت في الصدر رُمّانتيْن
ومازال بي الغصْنُ حتى انحنى على قدمي ساجدًا سجدتيْن
وكان على رأسهِ وردتانِ فقدّم لي تينك الوردتيْن
وخفتُ من الغصْنِ إذ تمتمتْ بأُذْنيَ أوراقهُ كلمتيْن
فرُحْتُ إلى البحر للابترادِ فحمّلني ويْحه موجتيْن
فما سرت إلا وقد ثارتا بردفيَّ كالبحر رجراجتيْن
هو البحرُ يا أمُّ كم من فتىً غريقٍ، وكم من فتىً بيْن بيْن
فها أنا أشكو إليكِ الجميعَ فبالله يا أمُّ ماذا تريْن؟
فقالت وقد ضحكت أمُّها وماست من العُجْبِ في بردتيْن
عرفتهمُو واحدًا واحدًا وذقتُ الذي ذُقْتهِ مرَّتيْن!


أيُّ مدارٍِ للغوايات أطلقه الأخطل الصغير بمثل هذا الشعر الفاتن، وهذه الصور الشديدة اللفْح والتأثير؟ وأيُّ أفقٍ بعيد حلّق إليه شعره وهو يضمُّ في قبضته المحكمة هذا التفاعل المدهش بين الطبيعيّ - نسبة إلى الطبيعة - والإنساني، وأي قدرة يُفجّرها هذا الحوار الذي يقدم خبرة الأجيال تنقلها الأم إلى صغيرتها - التي لم تعد صغيرة - والتي تفجّر فيها صهد الشباب وماء الحياة على غير توقع، فإذا بحديث الأم يحمل زهْو الأمومة واعتزازها باكتمال صبا فتاتها، وقلقها المستتر على تلك التي ستجرّب ما جرّبت هي، وستواجه ما تواجههُ هي، وهي التي عرفت وجرّبت وذاقت - ما ذاقته صغيرتها الشابة - مرّتين.

في لوحة ثانية من لوحات الأخطل الصغير البديعة، أسماها هو: آه يا هند لو تريْن!، نرى الشاعر يعاني، والإنسان العاشق يسهر ولا تنام عينه، والسراج ينفد زيته وينطفئُ ضوؤه. فكأنه لم يعد له من الحياة غير ساعتين. فلتدركيه يا هند، ولتمدي له يد الرحمة قبل أن يغيب:

آه يا هند لو تريْن
موقفي بين حائطيْن
لا يُحيرانِ، أخرسيْن
وعلى الخدِّ دمعتيْن
لو تريْن
أنصف الليل والأنام
كلُّهم، كلُّهم، نيام
وأنا يشهد الغرامْ
بِعْتُ للسهد ناظريْن
غالييْن
أبدًا ساهرٌ كئيبْ
لا صديق ولا حبيب
ومع الليل لي نحيبْ
كنحيب الحمامتيْن
بعد بيْن
ساهر، والورى جماد
ومن الليل في حداد
وأنا خافقُ الفؤاد
لم تَنمْ منذ ليلتيْن
ليَ عيْن
ولقد خيّم السكونْ
ونجوم السّما عيونْ
فتمنّيْت أن نكون
في سما الحبِّ نجمتيْن
جارتيْن
ليتنا والهوى أمان
بالجناحيْن طائران
كلّما ضمّنا مكان
ضمّ قلبين عاشقيْن
سائحيْن
يا لأحلاميَ العِذابْ
ذابلات مع الشباب
فكأن المنى ضباب
يتلاشى بنفختيْن
اثنتيْن
لم يعدْ في السراج زيْت
وكما ينطفي انطفيْت
فأنا الآن مثل ميْت
ما له غير ساعتيْن
لو تريْن

الإيقاع الراقص - حتى في موقف الشكوى والبوْح وإعلان النهاية الحتمية القادمة - هو الغالب على مقاطع القصيدة، وكأنها الأغنية الأخيرة التي ترددها البجعة قبل أن تغيب، والطابع الغنائي الآسر الذي يسيطر على كثير من قصائد الأخطل الصغير هو البارز هنا، مفرداتٍ وتراكيب ومعجمًا شعريًّا ودوْزنة إيقاع، يشكو وهو يغني، ويتألم وهو يفتنّ في الوصف والتصوير، ويتوقع النهاية - مثل ميت - وهو هادئ النبرة قرير العيْن متمنيًا أن تلقي عليه النظرة الأخيرة التي يتمناها: لو تريْن! وفي دعابة شعرية ثالثة، تتجلى «هند» من جديد وهي الهدف البعيد للشاعر، تقرّبًا منه وانهماكًا في إغرائها بالنفيس من الهدايا، حتى لتنكر قدرته على تملك كل ما يلوح به ويستثير خيالها وفضولها، وإذا بهداياه في خاتمة الأمر واللآلئ التي يعرضها لا تزيد على كونها من «خزائن شعره»:

جذَبتنْي يوم الخميس، وقالت: بعد يومين! قلتُ: إنّيَ أدري
بعد يومين يقبل العيد، قالت والهدايا بين الأحبة تجري
قلتُ: ذي عادة، فقالت: وهل تُفْـ كرُ فينا؟ أَجبْتُ: أنتِ بفكري
سوف أهدي إليكِ من خالص الجوْ هرِ عِقْدًا مرصّعًا بالدرِّ
سوف أهدي إليكِ قُرطًا ثمينا و«بروشا» مُذهّبًا للصدر
سوف آتيكِ بالخواتم عشرًا تزدهي منك في أصابعَ عشْرِ
سوف - قف - قالت الفتاةُ، وقد ما لتْ بغُصْنٍ يزهو بطلعةِ بدْرِ:
قسمًا بالضياءِ وهو كخدّي وبداجي الظلامِ وهو كشَعْري
مازحٌ أنت، أو تقولُ إذنْ مِنْ أيِّ أرضٍ غنِمْتَ أو أيِّ بحْرِ؟
فتبسّمْتُ، ثم ملْتُ قليلاً نحوها، والهوى يشدُّ بأَزري
وبلا إذْنٍ قد نثْرتُ بأُذنيْها كلامًا كأنه نثْرُ زهرِ:
إنما هذه اللآلي «ولا أنكرُ» يا هند من خزائنِ شِعْري!
عند ذا افترَّ ثغرها، ثم قالت: إنّ هذا اللسانَ آلةُ سحْرِ


وفي ختام هذا اللقاء مع الأخطل الصغير بشارة الخوري شاعر الهوى والشباب أو شاعر الهوى والجمال - كما جاء ذكره في كتابات أهل زمانه من النقاد ومعاصريه من عشاق الشعر - نلتقي مع واحدة من قصائد ديوانه الأول «الهوى والشباب» حين كان أوار الأشواق والمحبة مشتعلاً، وعزف الأوتار أشدّ وأقوى مراسًا، وهو يقول في قصيدته «خدعته ابتسامة»:

أيها الغائب الذي في فؤادي حاضرٌ، كيف حال قلبك بعدي
ليس في القلب غير شخصك شخص أتُراني أنا بقلبك وحدي؟
ليت عينْيك تنظراني، وكفّي فوق قلبي، ومدمعي فوق خدّي
هائمًا في الظلام يلذع حرُّ الـ وجدِ قلبي، ويلذع البرد جلدي
شبحٌ طائفٌ كستْه يدُ الَّليْـ ـل بِبُرْدٍ كوجههِ مُسوَدِّ
يتمشى بين القصور وفيها راقدٌ كلُّ عاشقيْنِ بِمهدِ
فعلى زند ذاك ألطفُ عنْقٍ وعلى عُنْقِ تلك ألطفُ زَنْدِ
خشِيا أن يُذيعَ سرَّهما البدْ رُ، فمذ لاح ما رأى غيْرَ قدِّ
بيد أني لو شئتُ ما اعترفَ الَّليْـ ـل، بسهدي، ولا اعترفتُ بِوجدي
ولما استلّني الشقاءُ حُسامًا في نهاري، وصيّر الليلَ غِمْدي
ولما حَيّر الكواكبَ مني زفراتٌ كشُهْبِها ذات وقْدِ
همستْ نجمةٌ بأُذْنِ أخيها همْسَ ثغرِ النّدى بِمَسْمعِ ورْدِ
ما ترى يا أُخيَّ شخصًا على الغَبْـ راءِ يمشي لكنْ على غير قصْدِ
مثل قابيل بعد قتل أخيه يقطعُ الأرض بين رهْوٍ ووخْدِ
خافق القلب كالأثين على النطْـ ـع، يرى الموتَ لامعًا في الفِرنْدِ
لهْفَ قلبي، فقلبهُ مثْلُ قلبي يتلظّى وسهدهُ مثْلُ سُهدي
أيُّ شيءٍ في الناس هذا أَفيهِ لك قبْلاً أُخيَّ سابق عهْدِ؟
حفظ الله قلب أختي من الحبـ ـبِ، فهذا في الحب أصغرُ عبْدِ
خدعتْهُ ابتسامةٌ من حبيبٍ ظنَّ أنْ بَعْدَها سحابةُ وعْدِ
فإذا الابتسام وهو انقباضٌ وإذا الحبُّ غيرُ صاحبِ عهْدِ
فانبرى في الدجى ليدفن فيه بعد دفْن الهوى بقيةَ وُدِّ
عشْتَ يا نجمُ، فالهوى شرُّ مَلكٍ جائرٍ في أحكامهِ مُستبدِّ
بيدي قد نزعْتُ ثوبَ غرامي وبها قد نسْجتُ حُلّة زهدي!


فاروق شوشة