إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

مطابقة الدال للمدلول

أكثر من وشيجة تجمع بيني وبين مجلة «العربي»، فقد ولدنا معًا عام 1958، وتعرفت إليها بمصادفة عجيبة عندما بلغنا - هي وأنا - سن الثالثة عشرة. كنت أدرس في إعدادية القرية، وكان بحوزتي كتاب صغير عن تاريخ كرة القدم، فاقترح عليَّ زميل لي في الصف الدراسي أن أسلمه الكتاب مقابل أن يسلمني هو مجلة، فقبلت بالعرض نظرًا إلى الإغراء الذي مارسته عليَّ صورها وألوانها، وكذلك حجمها الذي كان يفوق حجم الكتاب الذي كان بحوزتي.

حملتها إلى البيت وطفقت أقرأ موادها، أفهم القليل ويستغلق علي الكثير، بحكم حداثة السن من جهة، وحداثة العهد بالقراءة من جهة ثانية. لكنني أستطيع أن أزعم - اليوم - أن سبب غرامي بالكتب والقراءة، وما تلا ذلك من دخولي عالم الكتابة والإبداع، كل ذلك يرجع إلى قراءتي لقصة قصيرة، تضمنها العدد المذكور، وكانت بعنوان «الحصالة» التي لم أعد أذكر كاتبها. لقد وجدت فيها موقفًا إنسانيًا عميقًا جسدته طفلة - بطلة القصة - عندما ادّعت أمام والديها وأمام الخفير الذي جاء ليسوق الخادمة إلى السجن، بأنها هي التي تخلت عن الحصالة لمصلحة الخادمة العجوز.

كان الأمر يتعلق بمجلة «العربي»، ولأنني كنت جاهلاً بصدورها الشهري، فقد ظل معي ذلك العدد أقرأه من حين لآخر، حتى حفظت بعض مواده عن ظهر قلب، ومازلت أذكر حادثة طريفة ابتدأت خيوطها عندما طلب مدرس اللغة الفرنسية - وهو من أصل فرنسي - من تلامذته في حصة الإنشاء كتابة ملخص لفيلم سينمائي شاهدوه، ووجدت نفسي في ورطة كبيرة، فحتى تلك المرحلة لم أكن قد شاهدت فيلمًا سينمائيًا، وكنت حديث العهد بالمدينة بعد انتقالي للدراسة بها. وأخيرًا، اهتديت إلى حيلة حيث عمدت إلى تحويل طرفة صغيرة، قرأتها في ذلك العدد ضمن ركن «طرائف غريبة»، إلى ما طلبه الأستاذ، حيث اجتهدت في ملئها بما أملاه الخيال (وكان الأمر يتعلق بتأخر رئيس الوزراء الإنجليزي السابق ونستون تشرشل عن موعد إلقاء خطابه في البرلمان، وعلى الرغم من إلحاحه على سائق التاكسي، فإن هذا الأخير الذي لم يتعرف على رئيس حكومة بلده، اعتذر له بأنه سيعود إلى البيت لمتابعة خطاب تشرشل في الراديو، هذا الاعتذار حمس تشرشل على إغراء السائق بمبلغ مالي مهم فوافق السائق قائلاً: اركب وليذهب ونستون تشرشل وخطابه إلى الجحيم).

وجاء الأستاذ بعد أسبوع يحمل أوراق التحرير، وافتتح الحصة بقوله في لكنة أهل جنوب فرنسا: ميسو «المساوي» لقد أمتعني موضوعك، لقد حاز الدرجة الأولى، وأدعوك للتفضل بقراءته. فقمت أمشي إلى السبورة في خطوات مرتبكة، تتبعني همسات زملائي الساخرة والحاسدة.

هذه هي بداياتي مع مجلة «العربي» التي صارت في ما بعد رفيقًا شهريًا حميمًا، يتعهدني بالرعاية والإمتاع، ويدفعني بحماس كبير نحو منابع الثقافة والعلم والأدب، إلى أن صرت مع اشتداد العود واحدًا من كتابها، ذلك أني نشرت في «العربي» بعض المقالات النقدية خلال بداية التسعينيات.

الآن، أقول بعد مرور هذا الزمن، وبلوغي أنا والمجلة سن الخمسين: لقد أسفرت الصفقة بيني وبين زميل الصف الإعدادي، عن أنه صار طبيب أسنان بكتاب تاريخ كرة القدم، وصرت أديبًا بفضل مجلة «العربي».وعندما أستعيد هذه الذكريات الجميلة مع مجلة «العربي» فإنني أستعيدها بقلم الاعتزاز والإكبار، وقلم العرفان والامتنان، ومازلت إلى الأن أواصل قراءتها بقلب وفكر ظامئين، وبعين لا تحيد عن متعتها.

 

 

 

عبدالسلام المساوي