طارق البشري وسيد خميس
طارق البشري وسيد خميس
هو مؤرخ بارز ضمن مدرسة التاريخ العربي الحديث. جاء إلى حقل الكتابة التاريخية من عالم القانون والقضاء الذي كان مهنته الأساسية، ولا يزال، منذ ثلاثة وأربعين عاما، وله في حقل القانون اجتهادات فقهية وقانونية مهمة. كما أن له إلى جانب دوره المهم في القانون والتاريخ، دورا لا يقل أهمية في الفكر السياسي الحديث. ولعل القاسم المشترك، الذي شغل به في الحقول المعرفية الثلاثة، هو البحث عن مشروع حضاري مستقل، يتكامل داخله التحرر السياسي، بالتحرر الاقتصادي، بالاستقلال الثقافي، الذي لا ينفي "الآخر" ولكنه لا يستبدله بذاته.. وفي سبيل بلورة قسمات هذا المشروع الحضاري المستقل والقائم على دوائر الانتماء المتكاملة: الوطنية المحلية، العروبة، الاسلام، الإنسانية، انتقل المفكر والمؤرخ الكبير المستشار طارق البشري من المرجعية الماركسية إلى المرجعية الإسلامية ـ ولأنه حرص ـ طوال حياته الفكرية والعملية ـ على الأمانة مع الذات ومع الآخرين، كما حرص على الموقف النقدي العلمي، تجاه مرجعياته الفكرية بعيدا عن النفعية المبتذلة والجمود الفكري، فقد صدقته النخبة العربية المثقفة، واحترمت اجتهاداته في الأمس واليوم. ولد طارق البشري في القاهرة لأسرة تحيطها هالة دينية وقانونية وثقافية واضحة. وتخرج في كلية الحقوق ـ جامعة القاهرة عا 1953 والتحق بالعمل في مجلس الدولة عام 1954 ولا يزال يعمل به حتى الآن، نائبا لرئيسه ورئيسا للجنة الفتوى والتشريع به. نشر كتابه "الحركة السياسية في مصر 1945 ـ 1952" عام 1972. ثم صدر في طبعة ثانية عام 1981 بمقدمة إضافية شرح فيها الأسباب التي دفعته إلى مراجعة فكره وآرائه في كثير مما تضمنته الطبعة الأولى، وخاصة فيما يتعلق بالحركة الإسلامية كعنصر أساسي في الفكر السياسي العربي الحديث. وفي عام 1980 كان قد صدر كتابه الثاني في التاريخ عن "المسلمون والأقباط في الجماعة الوطنية" وكانت بعض فصوله قد نشرت في مجلة "الكاتب" الثقافية القاهرية بعنوان "مصر الحديثة بين أحمد والمسيح". ثم صدر كتابه "الديمقراطية ونظام 23 يوليو" ويتناول الفترة من 1950 ـ 1970 وهو بمثابة تكملة لكتابه الأول ثم "سعد زغلول يفاوض الاستعمار" و"دراسات في الديمقراطية المصرية" و"بين الإسلام والعروبة" و"شخصيات تاريخية".. وصدر له أخيرا أربع دراسات في "المسألة الإسلامية المعاصرة" هي: "الوضع القانوني المعاصر بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي" و"الحوار الإسلامي ـ العلماني" و"ماهية المعاصرة" و"الملامح العامة للفكر السياسي الإسلامي في التاريخ المعاصر". ويحاوره الكاتب والناقد المصري سيد خميس. ـ لم يكن العمل القانوني والقضائي جديدا عليّ فقد نشأت في بيت فقه وقانون "كان أبوه رئيسا لمحكمة الاستئناف وكان جده شيخا للأزهر" وتعرفت أدبيات القضاء مبكرا.. أما من ناحية تأثير عملي القانوني كمهنة وحرفة وفن، في الاشتغال بالكتابة التاريخية والفكر السياسي، فأهم هذه الآثار هو توخي أقصى درجات الدقة في العملية التاريخية، التي تقوم على التقاط مفردات الأحداث والوقائع التاريخية، وقبل الدخول في وضع روابط العلة والمعلول على المؤرخ أن يجري عملية تحقيق دقيقة لهذا الحدث أو تلك الواقعة.. وهذه العملية الأساسية أفادني عملي القانوني الحرفي فيها كثيرا.. فالعمل القانوني القضائي يخلق عند صاحبه حساسية خاصة لتعرف مصداقية الوقائع التي يحاكمها، وفقا لوزن "مصداقية مصدرها" ونقد الروايات المختلفة للواقعة التاريخية يشابه نقد الشهود بالنسبة للقاضي.. أما عملية التأكد من مصادر الواقعة، ودرجة هذا التأكد.. هل هي تعينية، أو ظنية، أو مشكوك فيها، أو متهمة في صحتها ومستبعدة؟.. وهذه كلها أمور لم أدرسها دراسة أكاديمية في الجامعة عندما بدأت ممارسة الكتابة التاريخية، ولكني اكتسبتها من حصيلة ممارستي للعمل القانوني.ووسائل الاثبات في العمل القانوني أشد جدية وأكثر صرامة من وسائل الاثبات في الكتابة التاريخية، لأن منهجية إثبات الواقعة قضائيا يترتب عليها حكم على إنسان، وقد يصل هذا الحكم إلى درجة حرمانه من حياته أو ماله أو زواجه. فلم يكن عندي مشكلة في موضوع التثبت من صحة الوقائع التاريخية، فحساسيتي القانونية كانت أكثر من كافية في هذا المجال. أما الجانب الآخر في علاقة العمل القانوني بالكتابة التاريخية فهو جانب الموقف الفكري.. فقد علمتني حياتي العملية أن القاضي كرجل قانون لايمكن أن يكون محايدا من الناحية الفكرية، فلابد أن يكون له منهج وفكر يحكم بهما بالصواب أو الخطأ على الواقعة التي أمامه، وأعني هنا انتماء رجل القانون إلى منظومة من الأحكام والقيم المحددة للخطأ والصواب، أما الحياد فيكون تجاه الأشخاص والمؤسسات والوقائع. هذا الفرق ما بين الانتماء الفكري والحياد في الحكم على الأحداث والأشخاص، ساعدني عملي القضائي في تمييزه.. أما السمة الثالثة التي اكتسبتها من عملي القانوني، فقد أدركتها أخيرا وأعني الاهتمام بفكرة الشرعية في بناء الجماعة الوطنية وفي تكوين السلطة، لقد جاء هذا الاهتمام المتزايد بهذه القضية في الكتابة التاريخية والفكر السياسي من عملي القانوني.. فإذا كان المدرس عادة ينجذب إلى جانب الدعوة في الفكر السياسي، فالقاضي ينجذب إلى فكرة الشرعية وبناء المؤسسات. جبل القضايا الكبيرة ـ اتجهت إلى الاهتمام بالقراءة في التاريخ وفي الفكر السياسي قبل أن أدخل الجامعة، فقد شغلت مثل كثيرين من جيلي وطبقتي بالقضايا السياسية والهموم العامة مبكرا، فقد نما وعينا في سنوات زخم سياسي مصاحب لصعود الحركة الوطنية في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات. لكن ظل تصوري لدوري السياسي والاجتماعي بعد التخرج من كلية الحقوق محصورا في العمل بالقانون كعلم ومهنة. وقد أعطيت كل طاقتي ـ بعد التخرج ـ للعمل القانوني والثقافة القانونية مع عدم إهمال الجوانب الثقافية الأخرى. ثم جاءت أحداث 1956 فشكلت صدمة عنيفة لقناعاتي السابقة، فقد كانت الحصيلة الأساسية التي هزتني من الناحية الشخصية البحتة هي إدراكي أن العمل القانوني ليس أكثر من بناء على أرض، وهذا البناء يمكن أن يتغير بين يوم وليلة فلا نجد أثرا للعمل القانوني، ومهما أجرينا على هذا البناء من إصلاحات وتجميل فإن زلزالا أو إعصارا قد يودي به، إذن فعلينا أن ننظر بداية إلى التربة، إلى الأرض التي تقام عليها هذه الأبنية ، هذه الأرض هي السياسة التي لا يصلح لفهمها غير الفكر السياسي. اجتهادات فقهية وقانونية ـ لقد كان من حظي أن أبدأ حياتي القضائية في مجلس الدولة منذ تخرجي من كلية الحقوق، وقد عملت ـ عام 1954 ـ بداية في إدارة فتوى الزراعة والاصلاح الزراعي، والاصلاح الزراعي كان القضية الأبرز والأهم في التغيرات التي أحدثتها ثورة 23 يوليو 1952. ولأن القانون يتعلق بالملكية وانتقالها، وخاصة الملكيات الكبيرة، فقد شهد المجتمع المصري أيامها صراعا اجتماعيا عنيفا بشأن تطبيق قانون الاصلاح الزراعي، والخروج عليه، وقد انعكس هذا الصراع الاجتماعي في شكل صراع قانوني أمام المحاكم الخاصة بالإصلاح الزراعي، حول تفسيرات القانون والتظلم منه، ومن الناحية الحرفية فإن العمل في مجلس الدولة يغلب عليه عادة العمل فيما يتصل بالقانون، القانون الإداري والقانون العام. لكن الإدارة التي بدأت عملي بها، وبسبب الصراع الاجتماعي حول الإصلاح الزراعي، غلب عليها طابع القانون المدني، إلى جانب الاهتمام بالفقه الإسلامي بسبب دخول أراضي الأوقاف ضمن القانون. لقد استمر عملي في هذا الجانب حتى عام 1964 وقد لمست في تلك الفكرة، كيف يعّبر القانون عن الصراعات السياسية والاجتماعية، وقد استفدت من هذا في فهمي للوقائع والأحداث، وإمكانية تداخل التفسيرات المتعددة والمتنوعة في تفسير الظاهرة الواحدة، ثم عاصرت بعد ذلك، وخلال حكم السادات عمليات تصفية الإصلاح الزراعي، والجدل القانوني الذي صاحبها من حيث مشروعية صدور القانون أولاً وإعادة الأراضي لأصحابها ثانيا، وقد اجتهدت في الوصول بشأن هذه القضية المهمة، إلى موقف أكثر عدالة، وعامة فالعمل القانوني في إدارة الفتوى والتشريع يختلف عن العمل القانوني في المحاكم المختلفة، ففي الأولى أنت ترى القرار قبل أن يصدر وتساهم في صنعه، وفي الثانية أنت تشاهد تطبيق هذا القرار أو القانون بعد صدوره وأثره في الآخرين، ثم تتكامل النظرة في العمل المؤسسي فأنت تراه ـ القانون ـ وهو يوضع ثم تراه وهو ينفذ. حركات التجديد في الفقه الإسلامي ـ أنا أتصور أن حركة التجديد في الفقه الإسلامي لم تكن متوقفة قبل الشيخ محمد عبده، وكان هذا التجديد على مستوى العالم الإسلامي بشكل عام.. ففي نجد ظهر محمد ابن عبدالوهاب "1703 ـ 1971م" وقامت دعوته المعروفة على التوحيد المطلق الخالص من رفض الجبرية وفكرة الحلول والاتحاد، ومع تأكيد مسئولية الإنسان.. كما قامت دعوته على فتح باب الاجتهاد والتماس الحلول من المصادر الرئيسية للشريعة، وهي القرآن والسنة والإجماع ـ مع عدم التقيد بمذهب معين من المذاهب السنية الأربعة ـ وظهر في الوقت نفسه في المدينة محمد بن نوح الغلاتي الذي يعتبره البعض المجدد على رأس القرن الثاني عشر الهجري "1752 ـ 1803م". وفي نفس الفترة ظهر في الهند مجددون، كما ظهر في اليمن الإمام الشوكاني "1758 ـ 1823م" وفي العراق الألوسي وفي المغرب عبدالقادر الجزائري.. وقد يكون ظهور هؤلاء المجددين مرتبطا في بعض البلدان باستشعار الخطر الأوربي، ولكن المترجح أن حركة التجديد هذه لم تتأثر بالفكر الغربي الذي لم يكن قد وفد بعد، لا في مناهجها التجديدية، ولا في موادها وأدواتها الفكرية، ولا في هيئتها الحركية والتنظيمية. أما موجة التجديد التالية والتي تحققت بعد الغزو الاستعماري الأوربي، وكان رموزها الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي، فجاءت في ظروف مختلفة زمانا ومكانا، وحملت وظائف مختلفة. ولم يعد من مهمتها فتح باب الاجتهاد فقط، ولكن جدت لها مهمة الدفاع عن الثوابت والأصول المميزة للمعتقد والهوية ـ وهو الأمر الذي جعل فريقا منهم يبتعد عن الموقف التجديدي لينخرط في الدفاع عن وجود المؤسسات الإسلامية في التعليم والقضاء والفكر.. ثم تأتي السلسلة الذهبية التي أشرت إليها، وكلهم باستثناء الشيخ شلتوت والشيخ محمد أبوزهرة، من خريجي مدرسة القضاء الشرعي ومن أساتذة الشريعة في كليات الحقوق وقد أضافوا اجتهادات مهمة في الفقه المعاصر وفي دراسات القانون المقارن، ولم تنقطع السلسلة بل امتدت لكنها متباعدة عن الإعلام وعن الحركة الثقافية ومكتفية بالدراسات المتخصصة في أفرع القانون المختلفة، وفي الدراسة التي كتبتها عن "المسألة القانونية بين الشريعة الإسلامية والقانون الوضعي" حاولت أن أرسم الملامح العامة لأساليب التطوير في التشريع الإسلامي، حسبما أفصحت عنها حركة التاريخ، وفي إطار السياق التاريخي ومنها يبين أن هذا السياق التاريخي السياسي هو ما تحكم في حركة التجديد. ولكن هذا التجديد اقتصر على مسائل الأحوال الشخصية والأوقاف.. بينما انتقلت المعاملات من القرن الماضي انتقالا كاملا من التشريع الإسلامي والمحاكم الشرعية، إلى القوانين الوضعية والمحاكم الأهلية. الماضي وقوانين الحاضر ـ طبعا الماضي يشغلنا ويهمنا، والقول بعدم محاكمة الماضي بقوانين الحاضر، لا يعني فصل الماضي عن الحاضر، ولا يعني عزل التجارب التاريخية عن فهمنا للواقع المعاصر. ولكنه يعني اعادة إنتاج الماضي بقوانينه ولغته لنستفيد به كتجربة وسابقة من سوابق النشاط السياسي والاجتماعي، ولكي نكتسب منه خبرة.. لكن كيف تأتي عندما نطالع هذا الماضي كقصة متكاملة ومتصل بعضها ببعض لكي نأخذ التجربة والمعنى من الدلالة الكلية للحدث.. وسأضرب مثلاً لتوضيح ذلك من دراستي للتجربة السياسية المصرية قبل 1952، وخاصة التجربة النيابية، فقد كان مجلس النواب معبرا عن الحكومة غالبا، ومدافعا عنها، وهذا يعني غياب الديمقراطية في التجربة النيابية، ولكني سأجد ـ في الوقت نفسه ـ أن مجلس الشيوخ كان يمتلك معارضة قوية، وسنجد أنه كان هناك تداول للسلطة بين الأحزاب، وحرية نسبية في الصحافة، وهذه ظواهر يكمل بعضها بعضا.. كما أن علينا أن نقرأ نصوص تلك الفترة في سياق لغة الفترة ذاتها، فعندما يخاطب كاتب معارض الملك بقوله: "إليك أيها الملك يا حامي الدستور والحريات" فهو هنا لا يمدح الملك ويقرر حقيقة حمايته للدستور ولكنه يحتج بلغة الفترة على عدم احترام الدستور وغياب الحريات.. وكذلك عندما يقول أحد المعارضين في مجلس الشيوخ: "إنني لا أخشى إلا الله" فهو يعني أنه لا يخشى السلطة السياسية وممثليها.. لقد كانت هناك شفرة بين السياسيين والشعب، وعلينا أن نفهم الماضي ـ قدر الامكان ـ كما كان يفهمه المعاصرون له. دوائر الانتماء ـ لي دراسة صغيرة، ولكني أحبها جدا عن "منهج النظر في نظم الحكم المعاصرة في العالم الإسلامي" تحدثت فيها عن العلاقة بين دوائر الانتماء المختلفة، فالفرد لا يكون ـ أبدا ـ فردا فقط، ولكنه يندرج ومنذ الميلاد في دوائر الانتماء، التي تتزايد مع التقدم في السن والانغماس في شئون الحياة ـ وفي تراثنا الثقافي في العصور الوسطى، كان المؤلفون يسجلون دوائر انتمائه المتعددة في بداية كتبهم، مثلا: فلان القاهري، الشافعي، النحوي، الشاذلي.. الخ وقد غير العرب الذين استقروا بمصر ـ بداية من القرن الثاني الهجري ـ انتماءهم القبلي بالانتماء المديني والمهني، ولم تكن هذه أوصافا وتعريفات للفرد كشخصية، ولكنها ـ إلى جانب ذلك ـ كانت إشارات إلى دوائر الانتماء، التي تتعدد مصادرها وتتداخل، ونحن مصريون وعرب ومسلمون ومسيحيون وإفريقيون وبشر، ولا تداخل أو تناقض بين هذه الدوائر المتعددة للانتماء.. فالتناقض والخلط يأتي من التصنفيات القائمة على مصدر واحد، كالتصنيف المعتمد على المصدر الاقتصادي: رأسمالي ـ عامل ـ حرفي. أما لماذا أطلت هذه الأسئلة برأسها من جديد، وهذا الأمر لا يقتصر على النخبة المصرية المثقفة، بل يشمل نخب العالم العربي والإسلامي أىضاً، ففي رأيى أن دافع هذه الأسئلة قلق إيجابي يهدف إلى إعادة ترتيب الأوضاع ودراسة تجارب السنين الماضية، ويعيد البحث في الصيغ المناسبة لمعالجة ما يفرضه الحاضر والمستقبل المرئي من مواجهات سياسية وحضارية، ومن لزوم السعي للنهوض، و لمعالجة هذا الانفصام الذي يصدع المجتمع والمواطن جميعا.
|