نجيب محفوظ وسامي خشبة
لست متعصباً لا للتحديث ولا للأصالة ولكن للأكثر صدقاً
مساحات شاسعة من وجودنا الإنساني على كل صعيد، جاب نجيب محفوظ أبعادها واستحضرها في أعماقه، بل يمكن للناقد المشغول بالقضايا التي يتناولها أو يعالجها الأديب، أن يزعم أن نجيب محفوظ كثيرا ما سبق، ويسبق علماء الإنسانيات المتخصصين في جوانب ومستويات وجودنا الإنساني: التاريخية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية والسلوكية والثقافية، وكثيرا ما سبقهم إلى اكتشافها وإلى تأملها وهو في استحضاره لها - إذ يحولها إلى صور فنية في أعماله- إنما يقدم- في الآن نفسه- تفسيره لها. إذا كان نجيب
محفوظ لم يرسم شخوصا من غير بيئته القاهرية إلا نادرا، ولم يرسم بالتالي بيئة سوى "
بيئات " القاهرة، العتيقة والشعبية الحديثة أو المتطورة .. إذا كان ذلك صحيحا،
فصحيح أيضا أن هموم نجيب محفوظ قد تجاوزت دائما حدود بيئته المباشرة هذه، وعانقت
دائما هموم وطنه على اتساعه.. ثم صحيح أيضا أن هموم الإنسان " الكلي "- حتى
الميتافيزيقية منها- لم تغب أبدا عن عقل، بل عن وجدان هذا " العائش في الحقيقة "،
الباحث عنها على كل مستوى. الثائر يعطي ولا يأخذ العناوين، أكبرها في الجريدة، تدور حول قضيتين، بينهما بالمصادفة ( ربما ) قرابة من نوع ما: قضية مستقبل القطاع العام في مصر، ثم قضية التطورات الديموقراطية في أوربا الشرقية، ولكن القضية الخاصة بنا، تفرض نفسها بالضرورة وكنت قد فرغت من القهوة التي طلبها لي. أشرت إلى
العنوان: قلت: ماذا سيفعلون يا أستاذ نجيب؟
- دعك من مسألة القوانين والتاريخ .. هناك عوامل تتدخل فتفسد التجربة، عندك مثلا، موظفون " يأكلون القطاع العام " فلا تستطيع الحكم على كفاءته، أنا عشت فيه ( أيام عملي في هيئة السينما ) من عملوا فيه لم يكونوا مؤمنين به .. يسخرون منه بعد الخراب، وبصراحة كانوا جميعا أبناء " رأسمالية وطنية ".
- إطلاقا.. الآن يتحدثون عن فشل النظام في الاتحاد السوفييتي، لكن يا أخي القطاع العام هناك نجح لمدة معقولة، لما أداره الثوار في البداية فأوصل بلادهم إلى مرتبة الدرجة الأولى بعد أن كانت من بلاد العالم الثالث، بعد الثوار لا يستطيع العاديون أن يديروه.. هؤلاء يحتاجون إلى "حوافز أخرى".
- " على طول " الثائر وحده هو من يتجاوز مثل هذه الحوافز، لأن الثائر تخلقه الظروف لكي يعطي، لا لكي يفكر في الأخذ، فلما تأتي الأجيال التي تقول: أعطي كذا وآخذ كذا.. يفسد القطاع العام. دعنا من الشرق والغرب
- الجوانب الثلاثة تترابط بالطبع، ولكن هناك مواقف تترتب بعضها على البعض: وأنا. ديموقراطي في السياسة، ولذلك قد استغني عن الكلام عن موقفي من التعليم الذي ينبغي أن يكون ديموقراطياً: أي يرفض الاعتماد على الحفظ والاستظهار.. هذان هما عماد التعليم حين يسود الرأي الواحد.
- يا عزيزي، دعك من الشرق والغرب، إنما يجب أن نسأل: ماذا تحتاج حياتنا فعلاً ؟ نحن نحتاج أساسا إلى أن ننتج لكي نعيش، والإنتاج صناعة وزراعة، تتدخل فيهما كل العلوم، حتى تصل إلى عصر المعلومات وصناعتها، وأنت تحتاج إلى هذه العلوم وعليك أن تتعلمها وأن تتعلم تطبيقها دون أن توقع نفسك في إشكالية تخترعها لنفسك بالكلام، ثم: هل علوم الغرب "غربية " أم أنها علوم إنسانية وعالمية وعامة؟ الطبيعة والكيمياء والرياضيات والهندسة وغيرها.. والعلم لا خلاف فيه ربما كانت هناك خلافات في الفلسفة.. وفي العقائد أما العلم فواحد.
- من يريد أن يدخل في موضوعات بهذا الشكل، فليدخل، ولا بد أن تواجهنا ظروف تحتاج إلى توعية وإلى مناقشة ومقاومة، وهناك تطبيقات قد تجد أن بوسعك الحياة حتى إذا استغنيت عنها لأنها حرام، ولكن لا أعتقد أن الدين يمكن أن يحرم شيئا ينفع الإنسان. التحديث والأصالة
- لا يمكن أن تقوم
بينهما قطيعة أبدا .. ولكن المشكلة تكمن في كيفية الطرح، لا بد أن تخرج الدين من
إشكالية الأصالة أو التراث والتحديث، فلا داعي لأن نخلط بين إيماننا بديننا و
إيماننا بضرورة أن نعيش في مستوى عصرنا وتحدياته... العقيدة أو الدين عنصر ثابت لا
يتغير ولا يمكن تغييره، ولا بد أن نجنبه هذه المشاكل. أما بقية التراث فظاهرة
إنسانية، يخلقها بعض البشر، مثلك ومثلي، يتصدى له، بالتطوير والإضافة كل جيل
بأفذاذه وفقهائه، ولذلك لا أجدني متعصبا أبدا لا للتحديث وما يقولونه عنه، ولا لما
يقال عن الأصالة، إنما أتمسك بالأكثر فائدة وصدقا وما يقبله الذوق
والعقل. القوالب الجامدة تجمد
حياتنا الحياة الجمالية مقياسها السعادة
- وماذا في هذا.. إن الحياة الواقعية العملية، براجماتية، الحياة الجمالية، مثلا، مقياسها السعادة: مثلما يحققه الجمال الفني من فرح وبهجة وتوسيع للإدراك ورهافة للذوق.. إنها سعادة يعرفها الإنسان بنفسه واعتمادا على ذوقه حسبما تعطيه بيئته ومجتمعه، لا يمكن أبدا أن تكون محبا للمتنبي وللمعري ثم أجبرك على أن تحب شكسبير أو العكس، فإن استطعت أن تتمتع بالاثنين "زين "، فإذا فضلت أحدهما " زين " أيضا، ولكن يكون من حسن حظك لو فضلت المتنبي لأنه قريبك.
نعم لكن لا داعي للتعصب في مثل هذه الأشياء، أو أن تطلق عليها غزوا وما إلى ذلك.. الغزو الذي يجب أن نحذره يكون في العقائد وفي الدين بالذات، كما هو الحال في مبشر يريد أن يفسد عليك دينك.. عليك في هذه الحالة أن تدافع عن عقيدتك، فالدين ليس للتصرف إنه الوحيد الذي ترثه لكي تحافظ عليه، أما بقية الميراث فأنا حر فيه " لأنني مالكه وأسلافي صنعوا نصيبهم منه وتركوه لنا نطور ونعدل وننتقد ونضيف ونحذف، لايحركني إزاءه سوى مصالح الأمة وسعادة أبنائها ومنافعهم. لماذا لم ترد على نقادك ؟
(سرح نجيب محفوظ
قليلا منذ تبين أبعاد ما أثيره الآن، نظر طويلا إلى الميدان الذي ازدحم بالناس
والسيارات، ساعده على ذلك أننا كنا نجلس في الطابق العلوي للمقهى، نبصر امتداد
الميدان وزحامه، وتصلنا أصواته عبر زجاج النافذة الذي انزلق قليلا ليسمح لبعض
الهواء المنعش بالتسرب إلينا مع الضجيج، عاد يلتفت إلي وقد اكتسبت ابتسامته صرامة
نعرفها ). أوراق العمر
_ والله ما سمعته
( معنى أنه لم يقرأ الكتاب) يسهل الرد عليه.. يعني بين القصرين، رواية، عمل أدبي
ينبغي الحكم عليها بهذا الاعتبار، تنظر إلى ما تصوره من زاوية موضوعها
وشخصياتها. .. ثم أنا لم أكن أؤرخ للثورة ذاتها كأحداث ... أما الثورة، فإنها أهم أحداث حياتي.
(كأنني استدرجته، فمضى يشرح ) -وهي تعيش في أعماقي إلى الآن.. ولكنها في الرواية كانت تهمني كفنان، يعني: كيف يتجمع هؤلاء الناس، كيف ترى عائلة السيد عبدالجواد) أحداث الثورة وتختلط بها، وكيف يتغير وجدانها مع الثورة رجالا ونساء دون أن يشعروا، لقد تغيروا في السلوك والمواقف وفي العلاقات وفي كل شيء، هذا هو ما كان يهمني كفنان. (قلت لنفسي: كلام واضح ماذا لو كان قد قاله من زمان... ولكني قلت:) الروايات الواقعية
- الروايات الواقعية يكمن الوجدان وراءها، المعايشة، فتكون حركة الزمن فيها تلقائية، تبرز بالضرورة، أما الروايات الأخرى فيكمن وراءها فكر، والفكر لكي يتضح لا بد أن يثبت أو يسكن، إنك تسعى إلى توضيح رؤية فتكون كمن يسعى لتصوير لقطة ولا بد من تثبيت موضوع اللقطة لكي تحصل على صورة واضحة .. أما في روايات الواقعية فأنت كمؤلف تعيش الأحداث والوقائع وتحولات الشخصيات.. فلا بد أن يبرز هذا الإحساس بحركة الزمن، أو بالزمان الاجتماعي أو التاريخ، دون أن تشعر به في الكتابة.. شخصياتي النسائية من الطبقة المتوسطة
( تفكر قليلا كأنما يستعيد بسرعة عشرات الوجوه التي خلقها لشخصيات نسائية كثيرة، ويعيد حساباته بشأنهن ) - الحقيقة أن أغلب " الستات " عندي من النوع الذي تكلمت عنهن، ينتمين إلى الطبقة المتوسطة، وكان دورهن هو " تمثيل البيت " فلم يكن يعرفن - في زماننا - عن خارج البيت إلا نتفا صغيرة متفرقة، وكن أميات.. في الجيل التالي تغير الوضع تماما، فقد خرجت الجامعيات من قلب هذه الأمية، دون وسط، ولذلك ستجد في روايات مثل " الباقي من الزمن ساعة " وفي "السكرية " مثلا نماذج مختلفة تمثل وتعكس هذا التحول، أما في جيلنا، إذا تحدثنا عن إيجابية المرأة، فقد كانت الإيجابية مقصورة إما على نساء الأرستقراطية اللاتي كسبن الوعي من معاشرة رجال متنورين ومن الصالونات، وهؤلاء هن من قدن المظاهرات، أو نساء الطبقة الشعبية.
( استطرد مكملا ) - ولذلك حين وصفت المظاهرات عام 1919 في " بيت القاضي " كانت النسوة ( البلدي ) يرقصن فوق العربات الكارو ويؤلفن الهتافات والأغاني، بينما كانت سيدات بيوتنا من فئات الطبقة المتوسطة يتفرجن على المظاهرات من خلف المشربيات.. ومن النوع الآخر النوع الذي يحرك الأحداث كرضوانة وزهيرة وغيرهما ( من نساء الحرافيش ) فقد حركن الرجال في المعارك وفي العمل: حركن الرجال ولكن من وضع الثبات! ( أحسست أنه لا يريد أن يتحدث عن مسألة عدم تطور الشخصيات النسائية وثباتهن النفسي عنده وخروجهن من إطار حركة الزمان الروائى، الاجتماعي أو النفسي ) لماذا أحمد عبد الجواد؟
( فكر برهة
وجيزة للغاية، ولكنه كان يعرف الإجابة من قبلها )
- لا يمكن أن أخلق شخصية ولا أحبها.. لكننا نتكلم عن الخلاصة (قال: عن القطفة) الشخصيات الأقرب إلى العقل والوجدان، وعلى فكرة الحب أيامنا كان سطحيا (سألت نفسي: هل معقول أنه يريد أن يبوح بشىء؟ أم يريد أن يتفلسف؟ اخترت- مع الأسف- طريق الناقد والمثقف لا طريق الصديق!)
- لأن العلاقات كانت ناقصة دائما، لم يوجد لقاء كامل إلا نادرا، كمال- مثلا- على الأكثر يسلم على عايدة من بعيد، ويحبها من بعيد، ويظل الموقف رومانتيكيا، وعندما تتزوج لا يستطيع أن يفعل إلا الوقوف تحت الشرفة يتعذب، والبنات يحبسن في البيوت غالبا من سن معينة في انتظار العريس. فمن سيراهن لكي يحب؟ البنت تنتظر رجلا " بشكل عام " فلا يخصص الشعور في رجل بعينه، وأي رجل سيكون زوجا ومحبوبا، فلم تكن ثمة عاشقات إلا نادرا وعشقهن سري، من طرف واحد بلا بواح ولا حتى تفكير.. وهذا- على الأقل- ما كان سائدا في طبقتنا، ربما وجد الحب لدى الأرستقراطية ولدى الفئات الشعبية.
- الآن (بمعنى: في هذا العمر) أنا كاتب مفكر ولست عاطفيا
-والله أنا وضعت هذه التجربة في " قصر الشوق " حب كمال لعايدة، وكان حبا منهكا، أيضا تجد تجارب حب في أعمال مثل " المرايا " و " صباح ا لورد ".
- (طب ما أنت عارف
زهرة).
- الحقيقة قشتمر آخر ما كتبت، فقصص "الفجر الكاذب" قديمة.. بعد الجائزة لم أكتب إلا القليل وكنت متوقفا قبلها لمدة ثلاث سنوات، من عام 1987 كتبت بضع قصص قصيرة، الكتابة الآن صعبة، فهم لا يسمحون لي إلا بساعة واحدة للقراءة ومثلها للكتابة.. ولا بد أن أستخدم عدسات مكبرة للقراءة، أصبحت القراءة مكلفة ماليا (وضحك مليا).
- جربت ففشلت، الاستماع في القراءة والإملاء في الكتابة لم أتعود عليهما..
- الحقيقة أنها لم تكتب وإنما ظلت مشروعا، أو لم تتعد مرحلة الكتابة الأولى، لكنها توقفت.. يوما زارني عبدالرحمن الشرقاوي، وقال: أيتوقف الكاتب بعد أن ينضج، فأطلعته على المشروع، وقلت له إنني أعتقد أن الموهبة ماتت. قرأها وأعجب بها، ولكني لم أجد الرغبة في العمل فيها " الحاجات دي " كلها ضاعت!
- ضاعت، أجل، مزقت بعضها، والآخر ضاع، " الواحد " أصيب بالإحباط لما طالت مسألة عدم الكتابة!
- الآن طبعا، ومن زمن بعيد لم تكن تصلح، تغيرت الرؤية " أولاد حارتنا " أدخلتني عالما جديدا وطريقة جديدة في الكتابة، " العتبة الخضراء " كانت على النمط القديم: 24 ساعة في ميدان العتبة الخضراء، على طريقة رواية جويس "يوليسيز " لكنني كنت أراها من زاوية تقليدية وكنت أريد كتابتها من نفس الزاوية. أوسعت لها كثيرا، وأرتني القاهرة من زوايا لم أتوقعها: من الفجر إلى الفجر التالي، ولكن الرؤية تغيرت، فتوقفت..
- الأدب في العالم كله، والفكر الحر يواجهان أزمة.. أزمة قراءة، لا أزمة إنتاج، الكتاب المبدعون كثيرون، ولكن السينما والتلفاز يسرقان الجماهير، في الفترة الأخيرة قابلت " خواجات " من كل بلاد العالم، وهم يتفقون على هذا في أوربا وجهاً لوجه: نجيب محفوظ وسامي خشبة والغرب كله، وحتى في شرق أوربا التي اشتهرت بكثرة القراء والقراءة بسبب تحديد حجم وقوة التلفاز، بدأت القراءة تضمحل.. ولكن مع فارق كبير بيننا وبينهم، هناك قاعدة القراءة قاعدة واسعة جداً، ودائرة الحوار حول إنتاج الكتاب دائرة هائلة، لذلك فإن مايتبقى بعد هجوم السينما، والتلفاز يظل بالملايين.. ربما لأنهم لا يواجهون سوى السينما والتلفاز، أما عندنا فإننا نواجه- بالإضافة إليهما- الأزمة الاقتصادية زائد البطالة، زائد سيادة اقتصادية لفئات من المجتمع لم تتعود القراءة، بل لم تتعلم احترام الكلمة المكتوبة، زائد التيار المتطرف.
- والأمية طبعا،
وسوف نعرف ماذا بقي للقراءة، وللأدب وللفكر الحر، عندما تزول الأسباب التي يمكن أن
تزول، وعندما لا نكون في مواجهة إلا مع داء العصر وحده الذي لا مفر من وجوده ..
وربما يكون الأمل في أن تبقى قاعدة قوية للقراءة، ولو قاعدة خاصة في أن يتطور
الفيلم السينمائي والتلفزيوني إلى مستوى الأدب الجيد: فالمهم أن يسيطر صوت ومستوى
الثقافة الجادة والجميلة والرفيعة، بصرف النظر عن وسيلة توصيلها، وفي هذه الحالة
يمكن أن نطمئن على مستقبل الأدب والفكر الحر.. سيحميهما المناخ الجاد وسيختفي
التناقض بينهما وبين الأدوات العصرية. |