نمور آسيا.. هل هي من ورق.. هل سقطت المعجزة الآسيوية؟

نمور آسيا.. هل هي من ورق.. هل سقطت المعجزة الآسيوية؟

في تايلاند.. النمر الآسيوي الأضعف بدأت اعرض المرض الذي سرعان ما تحول إلى أزمة عصفت بكل النمور الآسيوية وخلعت كل أظافرها المالية.

جاءت أزمة الأسواق المالية في بلدان جنوب شرق آسيا والتي بدأت منذ شهر يونيو الماضي مفاجأة لعدد كبير من المراقبين وجمهرة الناس الذين طالما نظروا بإعجاب نحو "المعجزة الآسيوية" بنمورها القدامى والجدد. ولعل استمرار هذه الأزمة المالية منذ بضعة أشهر وحتى اللحظة الراهنة قد تسببت في قدر كبير من البلبلة حول حقيقة ما جرى ودلالاته وأبعاده، وهل تمثل تلك الأزمة نهاية المعجزة الآسيوية؟، وهل كانت تلك النمور نموراً حقيقية أم "نمورا من ورق" كما ذكر في بعض الكتابات الغربية منذ أكثر من عام في ثنايا حملة بدأت قبل حدوث الأزمة المالية الأخيرة؟!

وبادئ ذي بدء، فإن جوهر الأزمة يكمن في نوع من الخلل الذي تزايد في السنوات الأخيرة بين جودة أداء "الاقتصاد العيني" من ناحية، وانفلات وعدم القدرة على الضبط والتحكم في عملية التوسع في "الاقتصاد النقدي والمالي"، بما يشمله من أسواق للعملات وتسهيلات ائتمانية للبنوك وتداول الأسهم في الأسواق المالية، من ناحية أخرى. وبالتالي فإن جوهر الأزمة يتلخص في أن هشاشة أوضاع "القطاع المالي" في تلك البلدان قد تسببت في الأزمة الأخيرة، رغم أن الاقتصاد العيني "البنية الإنتاجية، التحديث والابتكار التكنولوجي، قوة العمل المدربة والماهرة" مازال يتمتع بقدر كبير من العافية وجودة الأداء. وإذا ما نظرنا إلى تجربة بلدان جنوب شرق آسيا بإمعان، فسنجد أن هناك سمات واضحة جمعت بينها، وطبعت مسارها التنموي، برغم تنوع واختلاف تجارب تلك البلدان، أهمها:

أ ـ ارتفاع معدلات الادخار القومي والاستثمار، إذ وصلت تلك المعدلات إلى 30% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي تعتبر من أعلى المعدلات في العالم قاطبة.

ب ـ نجحت معظم تلك البلدان في إقامة هيكل إنتاجي ديناميكي متطور، فبدأت بصناعات بسيطة ثم انخرطت في صناعات متطورة، وذلك بعد أن حققت قفزات واضحة في هياكلها الصناعية.

ج ـ سعت تلك البلدان إلى اجتياز ما يسمى "حاجز التقنية"، فحاولت أن تمسك بناصية التكنولوجيا الحديثة" وسارت في البداية على طريق التقليد ثم التعديل ثم التطوير، وحققت بعض الاستقلال النسبي والتطور الذاتي في هذا المجال.

د ـ حرصت تلك البلدان على الجودة في الإنتاج، وذلك عبر الأداء التصديري المتميز لسلع تنتجها صناعات متقدمة وليست تقليدية. ولم تحقق تلك البلدان "قفزة كبرى" في حجم صادراتها الصناعية فحسب، بل حققت تطوراً كبيراً في تركيب "سلة صادراتها" من سلع وخدمات.

ولذا فإن "الأزمات المالية" التي مرت بها النمور الآسيوية، قديمها وجديدها، لم تعصف "بالاقتصاد العيني" الإنتاجي والتصديري "لأنه يقوم على ركائز قوية وتطوير تكنولوجي مستمر".

كذلك فإنه في تجربة جنوب شرق آسيا، مع تنوعها واختلافها، إنجازات مهمة على المستوى الاجتماعي، فهناك توزيع نسبي عادل في ثمار النمو والتقدم. فإذا أخذنا بعين الاعتبار خريطة توزيع الدخل، نجد أنها أفضل من مثيلاتها في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، الأمر الذي عمق عنصر الانتماء والارتباط بالتجربة، هذا بالإضافة إلى الحرص على قيم التجويد والإتقان في العمل، بخلاف ما يحدث في بلداننا العربية، بل لقد حاولت مجموعة النمور التفوق على الغرب في موضوع الدقة والإتقان. فحققت قفزة مهمة في إنتاجية العمل.

ولدى البحث في تجربة "النمور" أىضا نجد أن تطوير نظام التعليم كان من أهم العناصر المؤسسية فيها، ذلك أن تطويره وتحديثه يعتبر تطويرا لرأس المال البشري، أساس التنافس في عالمنا المعاصر.

وكما هو معروف، فقد ركزت نظريات "النمو ذاتي المركز" endogenous growth على عوامل أهم من رأس المال المادي والعمل، كالتركيز على التراكم المعرفي ورأس المال البشري. فحين يحدث الانقطاع المعرفي يصبح هناك خلل في البناء الاقتصادي يؤدي إلى زعزعة مقومات النهضة. خلاصة القول هنا، أن "الكفاءة الاقتصادية" و"الكفاءة الاجتماعية" يسيران معا جنبا إلى جنب في تجارب النمو في تلك البلدان.

وهكذا فإن عناصر القوة في تجربة دول جنوب شرق آسيا هي عناصر حقيقية، ولن تهتز بحلول الأزمة المالية الحالية. ولكن السؤال يظل مطروحا: من أين جاءت "الأزمة المالية" الكبرى التي هبت على اقتصادات تلك البلدان، وعرضتها لهزات عنيفة في أسواق المال والعملات؟

إن البحث الموضوعي في عناصر الأزمة يشير إلى أسباب وعوامل بعضها عالمي "أي مرتبط بعمليات العولمة" وبعضها داخلي يتعلق بالسياسات المتعلقة بالانضباط المالي والمصرفي، ولعل أهم العوامل التي تسببت في حدوث الأزمة:

أ ـ أن هذه البلدان انفتحت مبكراً على أسواق المال ودخلت في عمليات اندماج مالي دون توافر الخبرة الطويلة المتاحة لبعض الدول الرأسمالية المتقدمة ذات الباع الطويل في هذا المجال. وقد نجم عن هذا الانفتاح عمليات ضغط متواصلة على هذه البلدان. هذا بالإضافة إلى الانخراط المبكر في عمليات "الخصخصة" لبعض القطاعات الاقتصادية، كالقطاع المصرفي الذي راح يزاول أنشطة مالية لا يمتلك الكثير من أدواتها. وهو ما أدى تاليا إلى اختلال عميق في التوازن المالي ما بين الأصول والخصوم المالية، ولاسيما تلك المقومة "بالعملات الأجنبية" وقاد ذلك إلى ما يسمى بـ "الذوبان المالي" نتيجة السهولة المفرطة في حرية انتقال الأموال الساخنة من وإلى تلك الدول. وكما نلاحظ فإن الأزمة نشأت في القطاعات المالية كالمصارف وشركات السمسرة والبورصات وشركات التأمين لأنها قطاعات مازالت هشة، في حين أن قطاعات الإنتاج العيني والسلعي كانت قوية وهذه نقطة مهمة للغاية، إذ يمكن لمثل تلك القطاعات الضعيفة أن تبدد ثروات قومية هائلة إذا لم تحسن التصرف، أو إذا لم تضع الدولة ذاتها ضوابط على أعمالها.

ب ـ استشراء الفساد المالي: إذا نجم عن نمط من التحالفات التي تفشت بين بعض مديري الاستثمار وأفراد من الأسر الحاكمة ممارسات غير قويمة، إذ منح هؤلاء الأفراد قروضا على سبيل المجاملة، وبلا ضمانات كافية، ومن ثم سادت "حمى المضاربات" إلى القطاعات العقارية كما يحدث الآن في بعض الدول العربية حين انتقل الاستثمار من قطاعات الإنتاج السلعي إلى قطاع المضاربات العقارية والمالية.

كل ذلك حدث في السنوات القليلة الماضية في دول جنوب شرق آسيا. وقد صاحب ذلك خطأ في تقييم الأوضاع المالية لتلك البلدان من قبل مؤسسات الإقراض الدولية كصندوق النقد الدولي الذي التزم جانب الصمت إزاء عمليات المضاربة والإقراض السابق ذكرهما.

وهذه ليست السابقة الأولى لمثل هذه المنظمات التي لم تعد تقاريرها دقيقة حيال تقييم الأوضاع الاقتصادية والمالية لبلدان العالم. وبرأيي أيضا أن ذلك جزء من الاقتصاد السياسي للعبة الدولية في "عصر العولمة"، إذ إن التنافس زادت حدته بعد انتهاء الحرب الباردة بين بلدان العالم الأول، من جانب ومجموعة دول جنوب شرق آسيا من جانب آخر، تلك البلدان التي توقع لها المراقبون أن تتسيد القرن القادم. وقد عبر خبير مالي عالمي عن خشيته من استمرار النمو الاقتصادي بهذه الوتيرة في تلك البلدان، وقال بهذا الصدد: "إذا تركتم هذه الأشجار تنمو، فسوف تصل إلى السماء".

وللإنصاف، أود الإشارة إلى أن هذا التنافس هو تنافس طبيعي بين المراكز الرأسمالية المتقدمة. وقد سبق أن حدث هذا التنافس والصراع خلال الحروب العالمية السابقة، ذلك أن "العالم الأول" كان يبتغي إضعاف دول "النمور" ليضعها تحت وصايته، وليس لضربها نهائيا. وباختصار فإن رسالة العالم الأول إلى "النمور" مؤداها "إذا كنتم أنتم النمور، فنحن الأسود" وسنظل وحدنا "الأسود" في هذا العالم الرأسمالي الجديد المعولم!

إذن فإن هذه النمور ليست نمورا من ورق ـ كما يحلو للبعض الآن أن يسميها ـ بل هي نمور حقيقية، ولا ريب أنها ستتجاوز أزمتها خلال السنوات الثلاث القادمة، لأن الأزمة لم تنفذ إلى صلب اقتصادها العيني الذي بقي قويا ومتماسكا.وحسب توقعي، فإن هذه البلدان ستواصل النمو، ولكن بوتيرة أبطأ من السابق، وستعاني من انكماش اقتصادي وبطالة خلال السنوات الثلاث القادمة. وستضطر إلى إعادة النظر في إجراءات التنسيق فيما بينها، خصوصا أن رئيس الوزراء الماليزي "مهاتير محمد" هو الوحيد الذي رفض تدخل صندوق النقد الدولي في عمليات الإنقاذ والتقويم الاقتصادي لبلده.

وهذا الموضوع يهمنا جدا نحن العرب ـ لأن مثل هذه الأموال تؤدي إلى بلبلة مالية في الدول النامية. وثمة مشروع سيطرح قريبا على دول جنوب شرق آسيا خلال مؤتمر القاهرة يهدف إلى حماية تلك الدول على هذه الهجمات على العملة. لأن أي انخفاض يمس قيمة العملة يؤثر مباشرة على مستويات المعيشة وعلى الطاقة الاستيرادية لتلك البلدان.

إذن فنحن أمام أزمة مطروحة، لعلها أولى ثمار العولمة. ولذا يجدر وضع نظام "أمن اقتصادي جماعي" لتلافي مثل تلك الأزمات في البـلدان النامية. وما يحدث الآن هو نوع من اليقظة بين بلدان جنوب شرق آسيا، بعد أن أدركت أن العالم الأول لن يمنحها فرصة النمو كاملة، وبالتالي فإن عليه أن يعيد ترتيب دفاعاته وأن يسارع إلى تبني فكر تنموي جديد مع الانفتاح الحذر والمشروط على السوق العالمية.

وبالعودة إلى الوضع الاقتصادي العربي الراهن،يمكن تلخيص أزمته بأنها معاكسة تماما لأزمة دول جنوب شرق آسيا. بمعنى أننا حيال اقتصاد مالي جيد ومنضبط إلى حد ما، غير أن الاقتصاد العيني يعاني من ضعف وهشاشة بنيوية ملحوظة، فالادخار ضعيف والاستثمار غير موجه للقطاعات المنتجة، والأداء تصديري متواضع للغاية، والهيكل الإنتاجي يتسم بالتمرد والركود، والنظام التعليمي متدهور. وهكذا فإن اقتصادياتنا العينية تحتاج إلى نضال جاد وطويل النفس للوقوف على أقدامها. وبالتالي فإن مشكلتنا مركبة، وتحتاج إلى جهد إنمائي حقيقي في القطاع العيني.

ويزيد الأمر سوءا أننا نحتاج إلى مضاعفة هذا الجهد بعد إقرار اتفاقات "الجات" التي تضيق الخناق على السياسات الحمائية للصناعة الوطنية وتفتح الأسواق على مصاريعها، قبل أن نعد العدة لمواجهة تلك المنافسة الضارية القادمة من الشرق والغرب.

 

محمود عبدالفضل

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات