السينما العالمية.. والشغف بمصر عرفة عبده علي

السينما العالمية.. والشغف بمصر

الصيغة الأساسية للعلاقة بين الشرق والغرب.. كانت قد تشكلت لحظة أن خاطب "نابليون" أربعين قرنا كانت تتأمل مجيئه من أعلى الأهرام !

حينئذ، تطلب الأمر إعادة النظر في المعرفة الغربية للشرق، وأصبحت مصر محورا لاهتمام الأوربيين، بكل ثراء ماضيها، وبما تمثله من نمط فريد من الدلالات التاريخية والجغرافية : علوم وفنون وأساطير وأحداث.. وأرض الفراعنة الجميلة، يغلفها عالم سحري ميل، يضفي نوعا من متعة وحرارة اكتشاف الأشياء، وما بين ذاكرة الماضي والواقع الفعلي، ستظل أساطير مصر القديمة، بما تحمله من معان إنسانية، تطرح حلما معينا، يحث الإنسان على محاولة تجسيده أو استلهامه.. !

خصصت مجلة (Egypte, Histories a - Cultures) عددها الثالث لهذا العام، لتغطية مختلف جوانب معرض (Egyptomenia) الشغف أو الجنون بمصر !.. الذي أقامه "متحف اللوفر" بالعاصمة الفرنسية، لإحياء أمجاد مصر الفراعنة، ثم انتقل إلى "أوتأوا" بكندا، و"فيينا" بالنمسا.. وقد تم تصميمه على أساس زمني ومنهجي، في إطار رؤية أو ربية لمصر على مدى قرنين من الزمان (1730 - 1930) من خلال مجموعات رائعة ونادرة من التحف واللوحات والوثائق والأفلام التاريخية. وقد استحوذ على اهتمامي - موضوع شديد الطرافة والجاذبية - في فكرته وأسلوب عرضه، بعنوان (Le Decor des Films Egyptiens, Ou l' Art d e'vouq - ver les Pharaons) "ديكور الأفلام المصرية أو فن استحضار الفراعنة " بقلم المؤرخ الفرنسي : "جان بوفو". إلى أي مدى أدرك مهندسو ديكورات السينما مصداقية أعمالهم بالنسبة للفن المصري ؟.. وهل أسهمت العناصر المستعارة من هذا الفن في تأصيل هذه الكادرات لتطابق الحقيقة ؟ !.. هناك نوعان من ديكورات الأفلام "المصرية".. ديكورات أفلام تتخذ من مصر المعاصرة إطارا جغرافيا، وديكورات لأفلام تتناولهوارد هوكس أحداثا تاريخية من مصر الفرعونية.. ففي النوع الأول، استخدمت الكادرات الطبيعية : مظاهر الطبيعة الساحرة.. الرمال.. الماء.. النخيل.. الشمس.. استهلالا بأبوالهول : "أبوالهول" 1980 لفرانكلين شافنير، مشاهد "المومياء" 1969 لشادي عبدالسلام، "أرض الفراعنة" 1955 لهوارد هوكس.. كما استغلت الكادرات الطبيعية في تونس "فرسان التابوت" المفقود 1980 لستيفن سبيلبيرج، وفي "الطفل" 1988 لفرانكو روسي، والطبيعة المغربية في"عبدوفرعون" 1986 لباتريك مونييه، وولاية كاليفورنيا في "الوصايا العشر" 1923 لسيسيل دي ميل، ورمال سيث في قصة المسلسل التلفزيوني "المهمة المستحيلة" 1991، والطبيعة الفرنسية في "معبدالتماسيح" 1960 والدانمارك في "سر أ بو الهول" 1915 لروبرت دينسين، وصحراء كازاخستان في"فرعون" 1965 لجيري كأو اليروفيتش.أما النوعية الثانية فهي التي تستخدم ديكورات البيئة التاريخية مع الاستعانة بعناصر حقيقية، وفي بداية صناعة السينما، كان مجال الرواية محدودا، والديكور في الغالب، عبارة عن أقمشة ملونة "رسولة طيبة" 1908 لجورج ميليس، وكما في المسرح أو الأو برا، حركة العرض السينمائي ثابتة على أحد المناظر الفقيرة في أثاثها، والخلفية تكاد توحي بمصر، مع الاستعانة ببعض العناصر المعبره والمرسومة عن قرب كالنخيل والكثبان الرملية والأهرام ! وهذه "اللوحة الحية" تتأثر بمشاهد غنائية، وجموع غفيرة تغزوها من الكومبارس الصامتين.. !

كليوباترا الصامتة

والفيلم الألماني "كليوباترا" 1909 حاول أن يمزج الطبيعة بالديكور، مع فخامة في الزخارف، وطنافس سميكة من جلود الحيوانات، ومقعد كبير بقوائم مستديرة، وأكوام من الوسائد، وشمعدان بسبعة فروع، ونقوش على مبان وهمية !...

ثم تقدم هذه الدراسة تحليلا لثلاثة أفلام عن كليوباترا وتأثير الموضة.. !

لم تتبق أي نسخة من "كليوباترا" 1917، لتيدا بارا، الصامت، أبيض وأسود، فقط هناك بعض الصور الفوتوغرافية التي تقدم ديكورا ثريا بالأثاث والسجاد والمفروشات، التي يعود طرازها إلى أو ائل هذا القرن، وتوضح وسطا يونانيا- رومانيا ممسرحا كقصر فرعوني !. والأعمدة ذات الجذع الاسطواني - مصرية - بزخارف على شكل شجيرات العنب، والموتيفات غير المؤثرة، تم اختيارها وفقا لذوق العصر "مطبوعة على قماش" دون علاقة بالحقيقة الأثرية !.. سجاجيد شرقية لا تحصى، ستائر جوخ فخمة وطنافس تزين الجدران، مسقفة بنقوش لنباتات مجدولة، والمشهد العام يذكرنا بثراء البيوت البورجوازية في بداية هذا القرن.. أكثر من قصر مصري لـ... كليوباترا !

ورجال بتنورات تعلو رءوسهم أغطية مزدانة بالشمس المجنحة، أو ان كثيرة مبعثرة على مقاعد خشبية صغيرة.. ومجموعة من الأو اني الفخارية الكانوبية (كان المصريون القدماء يضعون فيها أحشاء موتاهم بعد التحنيط) متناثرة على مناضد منخفضة !..ونقوش على أسوار مقلدة عن صور للوحات من عصر الرعامسة.. وتجدر الإشارة إلى أن ديكور هذه ال "كليوباترا" قد استخدم - دون تعقيد - في فيلم "هي" 1917 لكنعان بويل...

أما فيلم" كليوباترا" 1934 مع كلوديت كولبير، فكان متعة كاملة في فن الديكور لمصر المتخيلة.. الرخام، النقوش البارزة، الحلي، ستائر من الجوخ، مقاعد صغيرة، مناضد منخفضة، موتيفات من الأرابيسك، أحواض رائعة بنافورات ونباتات طبيعية.. والشكل العام في مجموعه من الصعب إدراكه في قصر فرعون ! وقد نجح هذا الإنتاج الباهر لسيسل دي ميل، بالرغم من تأثره بعصره، أكثر من تأثره بالاكتشافات العلمية ! أما مركب (طوف) كليوباترا من الداخل، فلم يتحقق فيه إلا قدر قليل من الواقعية، حوافه محلاة على الطراز المصري، السلالم مكسوة بالجوخ، تماثيله الخرافية (جسد أسد ورأس حصان وجناحا نسر).. وماذا نقول عن "بهو العرش".. مجموعة رائعة تخطف الأبصار (تنفيذ هانز دريير ورولاند أندرسون)، لكنها بعيدة تماما عن معرفتنا التاريخية، تحيط به أساطين ضخمة على هيئة حزم البردي، ويتصدر المقدمة تمثالان لأبي الهول برأس كبش، وعلى منصة من الرخام يتألق عرش كليوباترا- كلوديت كولبير - على شكل صرح تزينه أقواس ورءوس حيوانات تعتلي قرص الشمس المزود بجناحين ضخمين، الحوائط المغطاة بالطنافس، مكسوة بالجوخ فتبدو كستائر مسرح أكثر منها حوائط لبهو عرش.. ! ثم نسختان وسيطتان "أفعى النيل" 1953 مع روندا فليمنج، و"فيالق كليوباترا" أو فيالق النيل 1961 مع ليندا كريستال.. أفقروا التاريخ والديكورات حتى مجيء.. ليز تايلور ! !

إليزابيث وكليوباترا الجديدة

هذه الكليوباترا الجديدة "كليوباترا" 1963 لجوزيف مانكيفيتز، كانت سببا في إفلاس شركة فوكس للقرن العشرين - ففي سبتمبر 1960 شيد ألفا متر مربع من الاسكندرية القديمة في ستوديو "بينيوود" بإحدى ضواحي لندن. وبسبب الضباب ومرض ليز تايلور، تقرر نقل الإنتاج إلى روما، حيث تم استئجار بلاج أنزيو بمبلغ 150 ألف دولار لإعادة بناء الإسكندرية من جديد.. ! وشيد مركب كليوباترا بعظمة تلقائية، وتفصيلات غاية في الفخامة، كانت ثمرة الخيال المحموم لمهندس الديكور، والرغبة الجارفة في الوصول إلى مستوى فيلم دي ميل أكثر من تحقيق المصداقية ! يدور الحدث في خليج نابولي، ودخول روما تحت قوس قنسطنطين، ويجذب الأنظار مشهد لعربة ضخمة على هيئة أبو الهول، بلغ وزنها طنين، يجرها ثلاثمائة من العبيد السود، وعليها المنصة الذهبية تجلس إليها متألقة كليوباترا وابنها قيصرون، وكان أبوالهول منمنما بعناية فائقة، وله رأس امرأة تحمل "خرطوشة" الملكة.. تكوينات عجيبة فخمة وإخراج مثالي، وتصوير مفعم بالحركة، وستظل هذه النسخة هي الأقرب لتصورات المؤرخين..

الديكور والأثاثات في مجموعها تنتسب إلى عناصر الفن المصري.. العرش يرجع إلى عصر "توت عنخ آمون".. المصابيح البرونزية كانت من العصر الروماني، والمشاهد تبدوفي معظمها فرعونية ! وفيما يتعلق بفن العمارة، فإن بعض التحفظات التاريخية، كانت بالنسبة للانطباع العام تبدومقبولة !.. وقد استلزم الأمر تدبير ميزانية ضخمة لبناء مقبرة أو ضريح داخل الاستوديو..

أكثر الأفلام اتخذت من المقبرة المصرية "كادرا" لحدث وقع في العصر الفرعوني "أرض الفراعنة"، أو وادي الفراعنة أو في أيامنا هذه بصفة عامة، لحظة اكتشاف أثري مثلما في "لعنة وادي الملوك" أو "أبوالهول".. المدخل يطل - بالتأكيد - على منطقة صحراوية، وينفتح على مجموعة معقدة من الأروقة والممرات والسلالم.. متاهة مستوحاة من معظم المقابر المصرية في الحقيقة.. ثم باب سري يفضي إلى الغرفة النهائية التي تحتفظ بالكنز - الحتمي - وحماته ! العناصر المعمارية مميزة والديكور فرعوني الطابع.. يمثل لوحة مدهشة ومؤثرة، رفيعة الابتكار لموضوعات مصرية. ديكور لمعبدبطلمي استخدم في تصوير مقبرة في فيلم "فجر المومياء" عام 1981، مزيج من طراز الإمبراطورية القديمة والعصر اليوناني - الروماني - معالج بنقوش بارزة ومسطحة كتلك التي ظهرت في "لعنة فرعون" (طفل مانهاتن - 1983).. صورة مباشرة - على سبيل المثال - للموكب الجنائزي لمقبرة "رعموس" بغرب طيبه، تزين كهف د. فيبس في "عودة المنبوذ د. فيبس " 1972..

وتجدر الإشارة أيضا إلى الأعمدة العجيبة على شكل زهور اللوتس. ويظهر لعنة الفراعنة (المومياء) 1957 لتيرانس فيشر، كثيرا من رسوم مقبرة "خيروف" ولمقبرة الملكة " نفرتاري".. إحدى الخطط الأولى لـ "المصري" 1954 لميشيل كيرتز، توضح تكوينات عجيبة مرسومة على الزجاج.. هضبة الجيزة كما كانت في عصر الامبراطورية الحديثة مع أهرام مازالت سليمة !.. إنها عمليا نفس المشهد، لكنه اقتصر على هرم واحد، في نهاية فيلم "أرض الفراعنة" الذي تركزت أحداثه في تشييد مقبرة خوفو.. وعدم الأمانة التاريخية متعددة المواضع ومعروفة في هذا الفيلم ! ومن الناحية المعمارية، عنصر واحد فقط كان واقعيا ومؤثرا لأنه أخرج في موقع مصري : حفرة لهرم لم يكتمل بزاوية العريان !.. لكن ماذا نقول عن الحجرات الداخلية للهرم مع أنها معروفة تماما أو عن ميكانيزم الإغلاق بالرمال، الذي ينطوي على مغالطة تاريخية.. !

المراكب الشمسية التي نسخت في الهرم (بالرغم من الحفر الأربع أو الخمس المحددة بالخارج) وطرازها الذي يعود إلى زمن الإمبراطورية الحديثة، أي بعد ذلك بنحوأحد عشر قرنا !!

فضلا عن ذلك، فإن تابوتا لتوت عنخ آمون قد نسخ من أجل الملك، لا يمت بصلة إلى طرز الإمبراطورية القديمة ! وإذا كان الفتى رمسيس "الفرعون" قد ذهب على قدميه، ليفكر في حقيقة هرم خوفو.. فقد كان مطابقا في الواقع للهرم المدرج !.. وأبو الهول "المتمصر" شيد ليشكل ديكورا استعراضيا في "سر أبوالهول" ! وقد تم بناء المجموعة على الكثبان الرملية بمنطقة "رع ابجيرج ميل" بارتفاع نحو 25 مترا، وقد أصبحت موضعا لزيارة ونزهة سكان هذه المنطقة !..

ديكور المقبرة في فيلم "إغراء من مصر" 1923 نسخة صادقة للمقبرة المكتشفة بوادي الملوك.. فيكفي أن تقارن صور ديكور المقبرة مع الصور المنشورة بتقارير الحفائر، فتأخذك الدهشة لدقة بناء هذا الديكور.. المشكاة مع الأو اني الكانوبية من طراز تل العمارنة، تابوت القديس، مع الشعر المستعار.. كلها تمايزت بشكل خاص !.. فكان على العكس من إنتاج "الباب الأربعون" 1923 الذي قدم مقبرة غريبة في ديكور شديد التواضع !

وعظمة فيلم "الاستعادة" كانت بفضل ديكورات المقابر الملكية، وصور مقبرة نفرتاري كانت أساسا لإنتاج الكثير منها، بينما "الوصايا العشر" استوحى ملابس الأميرة من فيلم "لعنة وادي الملوك".. وفي فيلم "اليقظة" 1980 كانت نقوش المقبرة والأثاثات من طراز توت عنخ آمون.

أما الفيلم المصري الرائع "المومياء" لشادي عبدالسلام فلم يكن له الفضل في تجديد مقبرة الملكة "انحابي" الخبيئة الملكية بالدير البحري المكتشفة عام 1881، ولن يتم تجديدها وستظل مجرد رواق طويل دون زخارف !.. بينما تجدر الإشادة والتقدير لروعة النسخ المطابقة للتوابيت المحفوظة بالقاهرة، التي نفذها فريق صلاح مرعي. وإذا كانت المقبرة مكانا لإبداع الخيال، فستظل منظرا جديرا بالمشاهدة في معظم الأفلام، وستظل أماكن أخرى تخضع للخيال الجامح لمهندسي الديكور : المدينة، المعبد، قصر، فرعون.

مدينة الخيال

أو المدينة المتخيلة، هناك عناصر معمارية تستخدم بصفة دائمة في الاستوديو، مثل الأعمدة ذات التاج الحتحوري (حتحور إلهة الجمال) تزين قاعة العرش، تجتمع فيها كل فنون الشرق الأدنى !.. "ماشيست ضد رجال من صخر" أو ماشيست ومملكة سامار - 1964 أو في "فيالق كليوباترا".. تلك الأعمدة العجيبة اللوتسية، ذات الجذع الضيق المحلى بالذهب، باعث الحياة في قصر الملكة !

هذه المجموعات من القطع المعمارية، تكاد توحي بالواقعية، طبقا لتقنية خاصة بجميع الأفلام الفرعونية، في مشاهد متفرقة من "فيالق كليوباترا" تظهر الأعمدة البردية بشكل مبسط.. الأفاريز، الأروقة، توحي - مع قدر من التحفظ - بمدينة مصرية !.. وكانت الذروة في عظمة الديكور المتداخل بالقصر والمعبد، أعمدة الساحات الداخلية.. التماثيل العملاقة (تقليد لتمثال خفرع) مرتبة في المواجهة، ومقطع جزئي لبوابة ضخمة.. ملحقة بطابق أكسب المشهد تناغما جماعيا في رشاقة وأناقة إلى حد ما. "الحقيقة التاريخية" لم يصبها إلا أقل قدر من الإساءة في فيلمي" الوصايا العشر" 1923 و1956 (في رأيي الخاص أن الحقيقة التاريخية أصابها قدر كبير من التزييف في فيلم دي ميل 1956 على الأقل!).. وتشير هذه الدراسة، إلى أن النسخة الأولى - الصامتة - قد سبقها بحث عميق شمل كل المصادر المتاحة لمطابقة الحقيقة !.. ونظرا إلى أنه لم يكن مسموحا بالذهاب إلى مصر لإتمام التصوير، فقد شيد- دي ميل ديكورا عملاقا - في "جوادالوب "على ساحل كاليفورنيا.

وكان يرغب في باب أثري للمدينة الرعمسية، المكان المفترض لعملية "الخروج " وبدلا من تتبع الحقيقة الأثرية (كان دون شك باب حصن) لكنه استخدم ديكورا لواجهة معبدالأقصر كأساس للعمل، وباستثناء هذه المخالفة، كان الديكور صادقا إلى حد بعيد، فقدم واجهة ببوابة ضخمة من جزأين، تسبقها أربعة تماثيل عملاقة جالسة، السلم بأسفل الأسوار، مشاهد بالنحت البارز، ومقتطفات من النص وخراطيش مفرغة ضئيلة المطابقة، ويسبق الجميع - بالطبع - ممر به 24 تمثالا لـ "أبو الهول" وقد استبعدت المسلات، فالأمر يتعلق ببوابة مدينة.

نجاح دي ميل كان حافزا لإخراج النسخة الثانية - المدوية - بكل يسر، بالتكنيكلر والفيستافيزون، وبحث تاريخي آخر - أكثر تعمقا - سبق التصوير في مصر ! التصور العام، خاصة مشهد الخروج من بوابة مدينة "بي رمسيس" كان متحفظا، لكن الديكور كان أكثر إتقانا، التماثيل العملاقة المستوحاة من "أبوسمبل "، المشاهد أكثر واقعية وتتفق مع العرض الحقيقي وخراطيش رمسيس الثاني المسجلة. مجموعة تماثيل أبو الهول لا تنتظم في صفين متوازيين، ولكنها تشكل زاوية منفرجة لإضفاء الطابع المسرحي على مشهد الخروج ! ثمة مشاهد لم تتكرر من نسخة 1923، منها المشاهد الخاصة بإقامة مسلة في "بي رمسيس"، بإشراف المهندس المعماري موسى، في حضور الملك والفتى رمسيس، وتضمنت منظرا عاما للمدينة..

أما فيلم "عبدفرعون" فكان واحدا من الإنتاج الإيطالي لأفلام مستوحاة من تاريخ العصور القديمة، التي لم تتردد في انتحال وتزييف الفن المصري وأن تصدق على الديكور بالختم التاريخي !

واستحضار المدينة ظل مهملا، العمارة بوجه عام أبرزتها عناصر أكثر أو أقل نموذجية، مثل الديكور المفترض أن يعيد تقديم الإسكندرية في" كليوباترا ملكة من أجل قيصر" ماذج يونانية من تماثيل أبو الهول (سبق أن استخدمها - كوتافافي - في : هرقل يغزو اطلانطا) 1961، كما استخدم جزء من نفس الديكور في تصوير "الملك المتوحش" أو هيرود العظيم" 1959 لنفس المخرج !.. بينما تتألق عبقرية "ألكسندر ترونر" في توظيف أحد أحياء القاهرة، أعيد تنظيمه حاليا، وباب وهمي في إشارته لعودة الملك خوفو إلى ممفيس في"أرض الفراعنة".. ومن المعروف أن المصريين الفراعنة قد شادوا تماثيل عملاقة (أبو الهول العظيم بالجيزة وتمثالي ممنون أو أبو سمبل وتماثيل الرمسيوم..) إذن فقد عرضت السينما هذه السمة للفن المصري مستخدمة هيئة هذه التماثيل بشكل مباشر، أو بتعديل مقاييس هذه التماثيل على خلاف الحقيقة، والدليل ذلك التمثال الضخم في "عبدالملكة، قمر إسرائيل ! " 1923 لميشيل كورتيز، أو التمثال النصفي الفرعوني في "الوصايا العشر" 1923. هذه الآثار الضخمة ظهرت أيضا في القصر، خاصة في بهو العرش.

المقدس.. فُسِّر كثيراً !

تمثال عملاق منحوت بدقة ومرونة، وأعمدة بردية الشكل، وظل باهت وإضاءة شاحبة، كانت كافية لأن تعبر عن معبدفي فيلم "وادي الفراعنة"، وأما فيلم وليام إيرل "راقص النيل" 1923، الذي تغلب على مشكلة الديكور باستخدام صور مرسومة على الزجاج، تتوافق مع الممثلين بازدواج العرض.. البوابات الضخمة (باب لقصر، منظر لواجهة معبد، أبوالهول..)، فإذا طرحنا الخدع السينمائية القديمة جانبا، فقد كان واضحا الالتزام باحترام حقيقة الأشكال، المشاهد والنصوص، نفس القاعة الكبيرة التي يرتكز سقفها على أعمدة الكرنك، وبالرغم من الرسومات السهلة فإنها تميزت بالدقة والفخامة.. روبرت دنسين في فيلمه "قلادة المومياء" 1995، جمع على رمال الدانمرك : أعمدة بردية الشكل، وأعمدة لوتسية وتماثيل عملاقة جالسة، ليصور أطلال معبد. عناصر مستوحاة من الواقع، تركت هكذا بلا ترتيب كي تضفي إحساسا بالخراب.. ديكور يكاد يوهم بالحقيقة بالرغم من ابتعاده عن الحقيقة، الأثرية ! وفي المشهد الذي حول فيه " موسى " النيل إلى نهر من الدماء، في الوصايا العشر ظهر كنيس (مصلى) على الشاطىء الوهمي، بأعمدة بردية مستوحاة من معبدالأقصر، وتمثال "خنوم " بمتحف اللوفر. وفيما بعد تظهر لقطة لهيكل "سوكار" المقدس حيث "رمسيس يول برينر" يتضرع إلى الآلهة لتبعث الحياة في ابنه، مواقد الجمر، تمثال سوكار بقوته العضلية بصفة خاصة.. مشاهد تبدو رعمسيسية ! الأفلام المعاصرة لم تهمل مصر القديمة.. "فرسان التابوت المفقود" جرت أحداثه في الموقع الأثري لـ "تانيس" حيث أعيدت - البيئة المرئية - بشكل صحيح بفضل حفائر عالم المصريات "بيير مونتيه ". المقبرة، والتابوت، ليس فيهما ابتكار، الديكورات دائما تنزع إلى خلط العناصر الواقعية، لضمان الإيهام بالحقيقة (النقوش الهيروغليفية، الرسم).. السمة المميزة للديكورات المعاصرة : النحت المدروس بدقة للتماثيل (كلاب ابن أوى أنوبيس) التي يخشى ألا تبدو في سمات فرعونية مميزة.

وفيلم آخر "سر الهرم أو : شرلوك هولمز الصغير وهرم الرعب ! " 1985، دائرة ديكورات نموذجية تقيم معبدا داخل هرم (مقبرة) بقلب لندن.. أمنية فيكتورية ! الديكور أكثر إتقانا بالهيروغليفية الأقرب للواقعية، رأس ضخم لكبش مقطب الجبين يحيط بأبي الهول !.. مرتديا غطاء الرأس المعروف وقناع أو زوري و هو نوع من "الماسكات" الآمونية المرعبة، كان سائدا في الاحتفال الدموي وطقوسه. والرؤية السينمائية تحتوي جميع مجالات الفن مادامت نفس المومياء حاضرة! في متتالية سينمائية، عرضت هو ليوود كتالوج عبقريتها في فن الديكور.. وحرية الاختيارات مع ديكورات تتفق - غالبا - مع الحقيقة الأثرية، وبالرغم من بعض التحفظ، فلن نفسد متعتنا.. وسيظل خالدا سحر مصر وفتنتها..

 

عرفة عبده علي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




مقعد العرس الذهبي لتوت عنخ آمون وبعض كنوزه الأخرى استخدمت نماذج منها في الوصايا العشر وغيره من الأفلام العالمية





مشهد من أفعى النيل لروندا فليمنج عام 1953."





"مشهد من سقوط الإمبراطورية الرومانية لانتوني ماند - 1964."





ليزا أو كيلوباترا الجديدة!