د. عبدالعزيز المقالح و د. وجدان الصائغ

د. عبدالعزيز المقالح و د. وجدان الصائغ

نحن العرب نعاني من غياب القراءة
والأمية تمثل فضيحة حقيقية

  • كتاب صنعاء تحول من مجموعة قصائد إلى تجربة في السيرة الذاتية

ما إن يأتي ذكر المشهد الثقافي اليمني حتى تنعكس ملامح الشاعر عبدالعزيز المقالح على مرايا القصيدة, بوصفه رمزًا من رموز الريادة الشعرية والتجديد معًا. المقالح المولود عام 1939 - الذي ترأس جامعة صنعاء على مدار تسعة عشر عاما, ولايزال يرأس مركز الدراسات والبحوث اليمنية - نجح في أن يجعل من القصيدة وعبر دواوينه الستة عشر طقسًا من طقوس الوجد بالمكان, وترتيلاً من تراتيل العشق بصنعاء (المدينة/الحلم), وأفلح في أن يمنح رؤاه النقدية خلاصة تجربته البحثية وخبرته الأكاديمية, وعبر كتبه التي تربو على الثلاثين كتابًا في النقد الأدبي والدراسات الفكرية, وقد تلقفها المشهد النقدي العربي بوفير من الاعتزاز والتقدير, لما تحمله من طروحات جادة تمركزت حول القصيدة والنص السردي والمسرحي. نال عبدالعزيز المقالح جوائز عدة, وأوسمة, أذكر منها جائزة اللوتس 1986 وهي جائزة تمنح لأدباء آسيا وإفريقيا وجائزة الشارقة, التي تمنحها اليونسكو في باريس 2003, ولعل آخرها وسام الفارس من الحكومة الفرنسية. وقد قامت بإجراء هذا الحوار الدكتورة وجدان الصائغ وهي الناقدة الأدبية العراقية, وتشغل منصب أستاذة الأدب الحديث والنقد البلاغي بجامعة ذمار باليمن, وقد شغلت منصب رئيس قسم اللغة العربية بها, وهي مديرة تحرير مجلة (الجامعة للدراسات والبحوث المحكمة, وقد صدر لها العديد من الكتب مثل الصور البيانية في شعر عمر أبي ريشة (1997), زهرة اللوتس (2002), الصورة الاستعارية في الشعر العربي الحديث (2003), وآخر كتبها هو القصيدة الأنثوية العربية الذي صدر عام 2005, وقد حازت العديد من الجوائز من الشارقة , البحرين, اليمن, فضلا عن درع مؤسسة المثقف العربي لمسيرتها النقدية في القاهرة عام 2004.

  • لن أسأل عن بداياتك, ولكني سأسأل عن طفولتك والكتابة? وأي طفولة هيمنت على نصوصك: الطفولة المتخيلة أم الطفولة المطلة من فضاء التذكر?

- أرى أن الطفولة المطلة من فضاء التذكر تشكّل عوالم حميمة من البراءة والنقاء, وأن استعادة تذكر زمننا الجميل يعد المهيمن الأكبر على هذه النصوص. وأكاد أجزم أن طفولة المبدع هي مخزونه الأساس ومصدره الذي يؤسس للواقعي والمتخيل في كتاباته, يضاف إلى ذلك أن الحضور العميق لهذا المخزون المترسب في أقاصي الذاكرة يعطي للمبدع الحقيقي معنى الخصوصية. صحيح أن لكل مبدع, بل لكل إنسان طفولته, وزمن صباه, إلا أن لكل واحد من هؤلاء مشروع طفولته الخاص وظلال هذا المشروع وأصداءه. وأعترف أن طفولتي التي تميزت في بدايتها بشيء من الرفاهية النسبية, ثم ببؤسها وقسوتها بعد ذلك, وتنوع مناخاتها من القرية إلى المدينة, قد نجحت في استيعاب الكثير من المشاهد والكثير من الأحداث الصغيرة والكبيرة, وسجلت في تضاريس الذاكرة صورًا لا تمحى, وهي التي ما برحت تشكل عوالم من الإيحاءات, وتطرح مزيدًا من الأسئلة غير المسبوقة, فضلاً عن هذه الحالة من الدهشة والنشوة, التي لاتزال تثيرها تجاه كل جديد وغريب, والخوف من انطفاء زمن الطفولة, وهو زمن داخلي, خوف من أن تنطفئ معه هذه الدهشة, وما يرافقها من نشوة وشعور بأنه مازال في الإمكان أبدع مما كان. ومن أجل الشعر أولاً, ثم من أجل إبقاء شيء من الإحساس بالبراءة وبالدهشة تجاه ما يستحق أن نندهش به أتمنى طفولة دائمة.

أثر التصوف

  • أثار المتن الصوفي إشكاليات مازالت متقدة, تتحرك, بين صيرورة القصيدة خطابًا دينيًا, أو بنية شعرية خارقة للنسق, وباذخة الحداثة! وتجربتك الشعرية لم تقف بعيدًا عن الفضاء الصوفي, بل يمكن القول إنها انغمرت به, فأضاءت قصائد عدة, وربما أضاءت مجموعة برمتها, كما في مجموعتك الشعرية (أبجدية الروح), ماذا تعني لك هذه الفضاءات?

- لا أريد أن أصادر على الآخرين تصوراتهم, أو أحاكمهم تجاه هذا المؤثر الروحي والفني الخارق, فأدّعي أن الشاعر الذي لم تحترق أصابعه بهذه النار المقدسة, نار المجاذيب, أو لم يحاول الرحيل إلى ذرى هؤلاء الصوفيين الأنقياء فليس شاعراً, لا لما يتضمنه الاقتراب من هذه النار من إيقاد طاقات تعبيرية, وإمكانات متجددة ومتجاوزة وحسب, وإنما لما تفيض به على الشعر من قلق مفعم بحيوية الوجود, ومن استشعار لظمأ دائم لا يرتوي بكل ما على الأرض من مياه. وإذا كانت التجربة الصوفية رحلة دائمة على طريق الكشف عن تضاريس الروح, فإن الشاعر أولى بتمثل هذه التجربة وبالاستغراق العميق في فضائها اللامحدود. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشعر, وهو ينهض من اللغة وباللغة لا يتعامل معها - أي مع اللغة - إلا في مستواها الثاني العميق بعيد الغور. وفي هذا يبدو الشاعر على تواصل وثيق مع الصوفي, هذا الذي يضيق بالظاهر, وتعوده رؤيا ضبابية حينًا, وشفّافة حينًا إلى استشراف ما وراء الحجب. وكلاهما الشاعر والصوفي من أصحاب الرؤيا. ولا أرغب, بل لا أستطيع أن أتحدث عن نفسي ليس على طريقة الصوفية الذين إذا كشفوا خانوا, وإنما لأن قراءة تجربتي في هذا المجال رهن بالنُقاد لا بي.

  • مجموعتك الشعرية الأخيرة (بلقيس...وقصائد لمياه الأحزان) يطل منها الحزن منذ العنوان, وهو يقودني إلى تساؤل عن الحزن, ودوره في ترصيع تجربتك الشعرية? وهل أنت مع تذويت الخطاب الشعري?

- الحزن في زمن الانتكاسات الشاملة والأحلام المجهضة يبدو طبيعيًا, بل ضروريًا للتعبير عن حريق الوجدان تجاه كل المآسي. وأزعم أن مساحة كبيرة من أحزاني المرصودة في بعض قصائد هذا الديوان وغيره, ناتجة عن إحساس عام بما يحدث للأمة, وعن قراءة داكنة للواقع وما يعكسه من اشتغال واشتعال, ومن رغبة في تمثل عذاب الناس وترجمة أحزانهم. وفكرة تذويت الخطاب الشعري لم تخطر لي على بال, لا في بداياتي ولا الآن, صحيح أنني ضد ذوبان شخصية الشاعر وصوته في الآخر حتى لو كان هذا الآخر هو الشعب أو الوطن أو الإنسان بعامة, وأحسبني لا أتصنّع المواقف, أو أسعى إلى الخلط بين الوجود الخاص والوجود العام. ومن المحزن أن أهم شعرائنا في الماضي والحاضر قد أهرقوا شعرهم في القضايا العامة إلا القليل منه, وضاعت بذلك ذواتهم. وما أجمل ذلك القليل عند شاعر كالمتنبي - على سبيل المثال - حيث تغنى فيه بأحزانه, وشكا للعيد (عيد بأي حال), وللرسول (مالنا كلنا جوٍ يا رسول), ولليالي (ليالي بعد الظاعنين شكول), وفيها جميعًا بعض شجونه وشئونه. وأزعم أن في كل حزن حقيقي من الإيجابيات ما يفوق كل ما تثيره الاهتزازات العابرة التي يصنعها الفرح. فالحزن مقرون بحرقة ذاتية لا يرقى إليها الشعر إلا قليلاً, ولا تستغربي إذا قلت إن القصيدة أحيانًا تئن في صدري أنينًا موجعًا, على حد تعبير الصديق الشاعر محمد علي شمس الدين.

أنا والكتاب

  • أصدرت ثلاث مجاميع شعرية تصدرت بمسمى (كتاب), هي: كتاب صنعاء, كتاب القرية, كتاب الأصدقاء, لماذا هذا المسمى?

- إذا قلت لا أدري, هل تصدقيني? لقد وجدت نفسي في أثناء كتابة قصائد (كتاب صنعاء) مغمورًا بحالة من لا يكتب قصائد متفرقة يجمعها (ديوان), بل بحالة من يكتب سيرة ذاتية تجعله مرتهنًا بإعداد كتاب, ولا أقول بتأليف كتاب, يقدم فيه حمولة تاريخية ونفسية عن مدينة أحبها وذاب في خصوصياتها. وفي حالات كثيرة يبدو تعبير الكتاب خصب في تحديد محتواه, وإلى هذا هدف أدونيس في عمله الشعري البالغ الأهمية المسمى بالكتاب. وأرجو ألا يذهب بك الظن, أو بآخرين إلى القول: بأنني استوحيت أدونيس, أو استأنست به في التسمية, فلم يخطر ذلك على بالي مطلقًا. وهذا لا يعني أنني لم أتأثر بأدونيس, أو أتتلمذ عليه, فجيلنا كله لا ينكر دور هذا الشاعر الكبير, ولا يتنكر لفتوحاته التي ألهمت جيلاً بأكمله, وما أود إضافته إلى ما سبق أنني أشعر بأن هذه التسمية سواء في (كتاب صنعاء) أم في (كتاب القرية) أم (كتاب الأصدقاء), وأخيرًا في كتاب المدن (رهن الإعداد), لم تكن صادمة أومقحمة, بل منسجمة ومتفاعلة مع المحتوى ومعبرة عنه. وليس صحيحًا, في هذا الصدد, ما ذهب إليه أحد نقاد الكتاب, وهو من أشد المحتفين به إلى أن تسمية الديوان بالكتاب تنطوي على إعادة الاعتبار للشعر بعد أن صارت كلمتي ديوان ومجموعة سلفيتين ولا تشدان انتباه القارئ.

  • طرحت في مجموعتي (كتاب القرية, وكتاب صنعاء) صياغة شعرية لافتة, لم تشكل إيقادًا لذاكرة المكان (القرية وصنعاء) فحسب, بل إنها أضاءت قدرة الشاعر المعاصر على صياغة القصيدة الملحمية, متجاوزًا بذلك الادعاءات التي تسعى إلى خنق خرائط الشعر بحجة التكثيف تارة, والتشفير تارة أخرى, ولتعيد بهذه الهيكلية البنائية قراءة الثقافة الشعرية المعاصرة, هل هي تقنية صياغية جمعت من خلالها بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر, لتكون في مواجهة جنس أدبي جديد يشتغل في المتن المنطوق به على تقنيات الشعر وإيقاعاته, ولكنه يضيء في بنيته الغاطسة فضاء روائيا متقنًا, يتكئ إلى عناقيد سردية تقف عند أحداث وشخوص, وأمكنة وأزمنة, وأحاديث هامسة تارة, ومسموعة تارة أخرى? وهو ما يقودني إلى تساؤل آخر هو: هل فكرت في كتابة الرواية?

- مرة أخرى أقول لا أدري, وأرجو أن تصدقيني أن شيئًا من ذلك لم يكن في ذهني وأنا أكتب قصائدالكتابين. وبالمناسبة, فقد تحدث إلي أدونيس من باريس بعد أن قرأ كتاب صنعاء, وكتب عنه مقالته البديعة المنشورة في جريدة الحياة, قال لي كيف اهتديت إلى هذا الشكل ومن أين استوحيته? وكان ردي هو ما سبقت الإشارة إليه. لا أدري. فقد وجدتني أكتب دون حضور نموذج سابق يقوم على الجمع والفصل في الوقت ذاته بين نص مترع بالإيقاع, وآخر خال منه, ذلك عن التقنية في (كتابي صنعاء والقرية). أما عن الشق الثاني من السؤال, فقد كان هاجس كتابة الرواية يطارني منذ وقت ليس بالقصير. ومازلت أسيرًا لرغبة حقيقية في كتابة هذا النوع من الكتابة السردية القادرة على البوح بكل الأسرار, دون أن يكون ما تبوح به سرًا, سيما وقد تطور فن الرواية, وانخرط كتّابه في التجريب هادمين كل القواعد والقوانين المتعارف عليها لدى الروائيين السابقين, وصارت مهمتهم شبيهة بمهمة الشعراء, فضلاً عن تداخل السردي بالشعري, واستفادة الأخير من الأول من خلال الأمكنة والشخصيات والحوار والتسميات ووجهات النظر, وظهور كذلك ما يمكن تسميته بالغنائية الروائية. إن كتابة القصيدة تكون مصحوبة بخلفية انفعالية تحاول, بل تجاهد لكي تتحرر من الذهنية, في حين أن كتابة الرواية تعطي عناصر تحفيزية للذهن لكي يمسك بزمام التعبير, ويسترسل ما شاء له الفن في تضمين محمولاته العاطفية والقيمية.

القصيدة والهوية

  • هناك مَن يرى أن القصيدة على مقربة من إلغاء الهوية, وتحويلها إلى مجرد نص في زمن الفضائيات, وزمن الدراما وزمن الرواية, من أي الزوايا تنظر إلى هذه الرؤية, وكيف ترقب مستقبل القصيدة في زمن امتساخ الهوية وهيمنة لافتات العولمة, وكتابة الجسد, وتفجير النسق القيمي والعقائدي. وهتك التابو تحت مظلات الحداثة?

- لا أشعر نحو هؤلاء المتفلسفين بشأن مستقبل القصيدة إلا بقدر من الاحترام والإشفاق, الاحترام لانشغالهم بالنظر إلى ما سيكون عليه حال الكتابة الإبداعية والشعرية بخاصة, والإشفاق عليهم من الإيغال في هذا التفلسف السابق لأوانه, والذي قد يمنعهم,أو بالأحرى يحول بينهم وبين قراءة الإنجاز الراهن, والنظر فيه بوصفه منجزًا قائمًا وتجربة متحققة. وأعتقد أن كل ما قيل في هذا الصدد لا يقلل من أهمية الشعر, ولا من دوره الأزلي والأبدي, بكونه وسيلة تعبير مجازي باللغة, تلك التي من خلالها يكتسب خصوصيته وهويته معًا, سواء جاء في نص تقليدي أو متجاوز. ومهما اشتدت الخلافات وتناقضت التفسيرات حول الحداثة, وما تحدثه من هزات, وتهديد بالقطيعة مع النص الشعري الأول أو النص الشعري الثاني, أو حتى النص الشعري الأخير, فإن كل حداثة إيجابية - ومن منظور جدلي واقعي - لا تستطيع أن تنشط بعيدًا عن الزمان والمكان اللذين صدرت عنهما, مهما توهم أصحابها أنها قادرة على أن تقوم بذلك, انطلاقًا من المفاهيم النظرية المجردة. وإذا كان البعض قد وصف النص النثري المفتوح بالعالمية أو الكونية, لأنه يصدر من خارج الخصوصيات الإيقاعية, ولأن تركيبته البنائية تتماثل في أنحاء العالم وتشترك إنسانيًا في الهموم والأسئلة والتحديات, فإن الظلال اللغوية للنص النثري, وما تتميز به كل لغة تجعله ذا هوية مستقلة ومحتشدة بإمكاناته المحلية المكتسبة من أنساقه اللغوية, ومن وعيه للمعنى والقيمة المحددة في الدلالات التي يتم التقاطها من الوقائع والأشياء لزمن ومكان محددين. وأجزم أن لا خوف على الشعر بخاصة من العولمة مهما نجحت في اجتياح الأسواق والأذواق.

تكريم عربي ودولي

  • كرمت في أكثر من محفل عربي ودولي, وحصدت مسيرتك الإبداعية جوائز عدة, وحضرت أنا شخصيًا احتفاء صنعاء عاصمة الثقافة بالشعراء التسعينيين العرب واليمنيين, ورأيت تحلقهم حولك, ثم تكريمك في حفل رسمي بوصفك أبًا للقصيدة التسعينية? ما هي انطباعاتك عن فعل التكريم وعن القصيدة التسعينية?

- أعترف وبكامل التقدير للذين سعوا ويسعون إلى تكريمي, أن بي عزوفًا تامًا عن كل تكريم, سواء جاء من الداخل أو من الخارج, من الشيوخ أو من الشباب. وأضيف أنه لولا خجلي واحترامي لمن أرادوا التعبير عن مشاعرهم النقية نحوي في احتفاء صنعاء عاصمة للثقافة العربية, لترددت ألف مرة عن حضور هذا التكريم. فالتكريم الحقيقي للمبدع يتمثل في قراءته, وتكريم الجيل الجديد للجيل القديم يكمن في استمرار التواصل وعدم التنكر لجهوده. أما عن القصيدة التسعينية, فإن شأنها شأن القصيدة السبعينية والثمانينية, تجمع بين الغث والسمين, بين الشعراء الواعدين وأدعياء الشعر. هناك تسعينيون يكتبون شعرًا بديعًا يتأسس على نوع من تجليات المعرفة الجديدة بخصوصياتها الجمالية المتنوعة التقنيات. وهناك متشاعرون يمارسون باللغة لعبة شكلية زائفة, ومن حسن الحظ أن هناك نقادًا وقراء يميزون الغث من السمين. وهذا النوع الأخير من المتشاعرين لا هو تسعيني ولاعشريني ولا هو من الماضي ولا من الحاضر, وليس لديه من الأسئلة الحارقة ما يدعو إلى التفاعل, أو يحض على الإجابة.

  • لو بقينا في دائرة المنجز الشعري التسعيني وأنا أرقب عن كثب متابعتك الجادة لهذا النتاج, توقًا إلى الاستزادة من تصوراتك إزاء هذا المشهد ورؤاك إزاء الثوابت الثقافية التي يفترض الوقوف عليها?

- الجيل الجديد عمومًا وليس الثمانيين والتسعينيين فقط, ينفتح على حال كتابة جديدة وتقنيات فنية ذات فاعليات جمالية غير مسبوقة ليس في الشعر وحسب, وإنما في بقية أشكال الإبداع الأدبي, رواية, قصة, حوارات...والمهم أن هذه الكتابات الجديدة ليست - كما يرى بعض الشبان الكسالى من فاقدي الموهبة - خالية من القواعد التي تجعل من كل كتابة قديمة كانت أو جديدة عملاً إبداعيًا, وأهم قواعد الإبداع تكمن في اللغة, في امتلاك قواعد نحوها وأساليب تركيبها. حيث لا يمكن لمن يسعى إلى أن يكون مبدعًا يتعامل مع المناطق الساخنة في منعرجات الكتابة والتعبير ألا يجيد لغته. وهنا يكمن السبب الأول والأهم من الأسباب التي تجعل إبداع بعض هؤلاء الشبان متعثرًا وفارغًا من الخصائص الفنية والجمالية التي تجعله يستحق وصف إبداع.

وهناك استحالة مطلقة في أن يظهر مبدع لا يمسك بزمام لغته, ولا ينصت إليها, واستحالة مطلقة أيضًا في أن يظهر مبدع لا ينطلق من موروثه الأدبي, إذ من الأمور الأساسية لمن يريد أن يكون شاعرًا أو كاتبًا أن يكون على صلة وثيقة بالموروث الأدبي, وفي الموروث الشعري الكثير من النصوص المضيئة والمحركة لاختلاجات المبدعين الشبان, ولعل أخطر ملامح النمطية السائدة في إبداعاتهم الأولى تأتي من رفضهم الاستهداء بفضاءات الموروث الشعري بعيدة وقريبة. ومن هنا, فإن أمام كل مبدع قضيتين جوهريتين هما قضية اللغة وقضية التواصل مع الموروث, وما لم يتمكن من حل هاتين القضيتين, فلا أمل في أن يكون مبدعًا في يوم من الأيام.

وأتمنى ألا يتم النظر إلى هذه الملاحظات الاستقرائية بوصفها تتضمن نصيحة ما أو تعبيرًا عن الوصاية كما قد يتبادر إلى أذهان أولئك الفاشلين, الذين لا يريدون النظر إلى صورتهم على حقيقتها بعيدًا عن أوهام الطفولة وتضخيم الذات, وحبّ الظهور دون أسس ثقافية أو معرفية.

لابد من صنعاء

ضمت مجموعتك الشعرية البكر (لابد من صنعاء) مسرحية شعرية اشتغلت على تقنيات حداثوية قياسًا بشرطها الاجتماعي والسياسي والثقافي, لماذا لم تستمر في كتابة هذا الجنس الأدبي?

- لي محاولات في هذا المجال لم تنشر, وقد كنت قريبًا من الصديق الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور أثناء كتابة مسرحياته الشعرية الأخيرة ابتداء من (مسافر ليل) و(الأميرة تنتظر) إلى (بعد أن يموت الملك) وأدركت مدى المعاناة التي يلقاها في صياغة نص مسرحي شعري قابل للانتقال من ساحة القراءة إلى خشبة المسرح.

وقد أنجزت محاولتي المتواضعة التي تشيرين إليها قبل أن تكون لي ثقافة مسرحية كافية جعلتني أؤمن أن المسرح الشعري غير صالح لعصرنا القائم فيه المسرح على الواقعية وتكسير الحدود بين الممثل والمشاهد ومحاولة إيهامه بأن ما يراه جزءًا من واقع الحياة, فكيف أقنعه بذلك عندما أجعل كل أبطال المسرحية من البواب إلى الملك يتحدثون شعرًا وينتقون كلماتهم بالمستوى نفسه الذي يفعله الشاعر? لذلك فقد أقلعت عن خوض التجربة. وأرى أن صلاح عبدالصبور هو أفضل من كتب مسرحًا شعريًا في العصر الحديث, وأن أحدًا لم ينازعه مكانته هذه.

لقاء الأصدقاء

  • كيف تحول اللقاء الأسبوعي بالأصدقاء إلى صالون أدبي ينعقد بانتظام عصر كل أحد? كيف بدأت التفكير به والتخطيط لطروحاته الثقافية?

- لم يكن هناك أي ترتيب أو تنظيم. لقد جاء اللقاء تلقائيًا وبمحض الصدفة التي تحولت إلى انتظام وربما إلى التزام. وإذا شئت الحقيقة فإن الصالون الأدبي بالنسبة لي ولعدد من الأصدقاء يكاد يكون يوميًا لا أسبوعيًا. وإن كان للقاء الأسبوعي حضوره ومستواه وأفق تجربته التي تجمع بين نخبة راقية من أساتذة الأدب والشعراء والنقاد. وعدد من كتاب القصة الشبان الذين ينعشون بأسئلتهم الحوار وما يصدر عنه من آراء وأفكار متعددة.

ويمكن القول: إن هذا الملتقى الصنعاني ما هو إلاّ امتداد تاريخي لملتقى الثلاثاء في القاهرة الذي كان يجمع في منزلي المتواضع القريب من نادي الصيد عددًا من المبدعين الشبان الذين صاروا - الآن - كبارًا في إبداعهم وأعمارهم ومنهم الشعراء: علوي الهاشمي, وحسن طلب, وحلمي سالم, وحسن اللوزي وآخرون.

  • هل أردت في مجموعتك الشعرية (كتاب الأصدقاء) أن تقول: إن الشعراء والمبدعين والنقاد على اختلاف أزمنتهم وأصقاعهم ومشاربهم متجاورون وأصدقاء يعيشون في واحة الإبداع?

- ذلك ما تمنيته وحلمت به. وأعتقد أن الشعراء الكبار والمبدعين الحقيقيين بعامة يشكلون هذه الوحدة المتنوعة وهذا الاختلاف البديع. والصداقة هي الحبل السري الذي يربط بين عشاق الكلمة وضحاياها, بين مشاريعهم ومواقفهم. وهي التي تؤكد على التوحد وتطمس الانفصال ليس بين الأحياء وحسب وإنما بينهم وبين من سبقهم إلى العالم الآخر منذ قرن أو عدة قرون. والصداقة كالمحبة قادرة على إيجاد قواسم مشتركة ومنافذ للتواصل, وأصحاب المواهب الضحلة والمنطفئة هم الذين يراهنون على الخلافات ولا يسعدهم التعايش بين المبدعين.

الشعر أم النقد

  • أنت تكتب الشعر وتكتب النقد, أي الهويتين أقرب إلى نفسك? ومن وجهة نظرك للمشهد الثقافي العربي أي منهما يعيش مأزق الآخر الشعر أم النقد?

- الشعر هو الأقرب بل هو الأصل, فقد ولدت شاعرًا أما النقد فقد جاء بالاكتساب عن طريق الدراسة الجامعية وما تلاها من دراسات عليا. وقناعتي الراهنة تكاد تؤكد لي أن الناقد الحقيقي هو الشاعر الحقيقي وأنه ما من ناقد إلاّ وقد مارس الشعر واستمر في معايشته أو تخلى عنه مؤقتًا أو دائمًا. وحين ننظر في قائمة النقاد العرب المعاصرين نرى أن أهم الأسماء في القائمة هي لشعراء ابتداء من أدونيس وكمال أبو ديب وعز الدين إسماعيل وعلوي الهاشمي وقاسم حداد وصلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وجابر عصفور وصلاح فضل وعلي جعفر العلاق وحاتم الصكر وخليفة الوقيان ومحمد عبدالحي ومحمد بنيس إلى آخر القائمة. أما عن الشق الثاني من السؤال فإن رؤيتي المتفائلة تجعلني لا أرى في المشهد الثقافي سوى مأزق واحد هو غياب القارئ وفقر الحياة الأدبية في أقطارنا العربية إلى تشجيع القراءة ومساعدة الأمة على الخروج من زمن الأمية وما يترتب عليه من تخلف حاد في التلقي.

  • أرى أنك تنقلنا إلى بؤرة المأزق الثقافي وهي إشكالية القراءة?

- نحن العرب نعاني غياب القراءة. الكتاب موجود والمكتوب له في حالة غياب. قد لا تكون الأميّة التي يتحدثون عنها بقدر من الخجل - وهي فضيحة حقيقية - مسئولة وحدها عن هذا الغياب. ملايين المتعلمين والمثقفين من خريجي الجامعات يلاحظ وكأن بينهم والكتاب خصومة تعود إلى أيام الدراسة القسرية وفرض المقررات الصعبة. ربما يكون هذا الفرض صحيحًا وإلاً فما هذا العزوف عن القراءة التي يصل إلى درجة النفور من الكتاب ومشتقاته. وقد يقال أيضًا إن الفقر هو السبب, فالمجتمعات العربية فقيرة وشريحة كبيرة من المتعلمين تعاني أزمات مالية, وهذا عذر يخص هذه الشريحة الفقيرة فأين الشريحة الميسورة, وهي تعد بعشرات الآلاف إن لم يكن بمئات الآلاف, فلماذا لا يبيع الكتاب العربي سوى ثلاثة آلاف نسخة أو أقل?!

إن هناك أزمة, في القراءة, وإن مجتمعنا العربي لم يتعود على القراءة لقد تعود على أن يسمع فقط. يسمع خطيب الجامع أو خطيب الحزب أو خطيب السلطة, يضاف إلى ذلك مجموعة من التناقضات العديدة التي تتقاطع داخل العقل العربي وتشغله عن متابعة الجديد والاحتفاء به. والذين زاروا أوربا وسافروا بالقطارات أو بالحافلات يدركون العلاقة العميقة بين الإنسان الأوربي والكتاب مقارنة بالمسافرين العرب على تلك الوسائل وكيف أننا نهدر الوقت بالثرثرة أو النوم أو السرحان الطويل. ولعل الكتاب آخر ما نفكر به من وسائل قتل الفراغ أو قطع المسافات, بالرغم من أن الغربيين أنفسهم - وهذه مفارقة - يشكون من انحسار عدد القراء, وانشغالهم بتقنيات الحداثة كالحاسب والإنترنت.

  • المشهد الثقافي اليمني الذي فوجئت بحيويته وعنفوانه وثماره الإبداعية الناضجة على صعيد الشعر والسرد, إلى ماذا تعزو التعتيم عليه, أهو غياب أم تغييب?

- القطرية المستشرية بين النقاد هي السبب الأول والأساس وراء هذا التعتيم والتغييب, كل ناقد يولي اهتمامه بأبناء قطره ويرى أن الأقربين أولى بالنقد, ومن هنا افتقدت الحركة النقدية العربية ما كانت قد تميزت به من متابعة مبكرة لأهم ظواهر الإبداع في الوطن العربي, بغض النظر عن القطرية ومفهوم المركز والأطراف الذي ساد لفترة ثم تلاشى هو الآخر تحت وطأة القطرية التي صنفت المصري مصريًا واللبناني لبنانيًا والعراقي عراقيًا.. إلخ.

الثقافة الأنثوية

  • إشكالية التغييب تقودني إلى إضاءة تفاصيل المشهد الثقافي الأنثوي العربي عمومًا, واليمني على وجه الخصوص, الذي استطاع أن يؤثث لنفسه لغة تنبثق من طبيعته النفسية والاجتماعية لتهتك تابو التهميش المضروب حوله بوصفه أدب الجسد الناعم أو قل أدب القوارير والغرف المغلقة نصف المضاءة, بحركته الجادة للخروج من دائرة الجسد ونداءاته المحمومة للاكتمال بالآخر صوت معترك الحياة, وهو ما يوقد إشكاليات متناسلة لعل أهمها هو التساؤل الملغوم, هل هناك أدب أنثوي? أو ألا يكون الإبداع الأنثوي هو نوع من أنواع إثبات الحضور أو التعويض البيولوجي? وهل تبدو المسألة مختلفة مع النقد الأنثوي?

- لا أظن أن ثمة تغييبًا من أي نوع لكتابات المرأة العربية في أيامنا على الأقل, ويبدو أن النجاح الذي حققته المرأة ولاتزال تحققه في عالم الإبداع صار أكثر من لافت للانتباه. والتنبؤات المستمدة من الواقع, لا من التنجم, تؤكد أن شأن المرأة المبدعة في القرن الواحد والعشرين سيرتفع إلى درجة تجعل منها سيدة الحقل الأدبي دون منازع. ومن يقيني الذي لا يتزعزع بأن المرأة إنسان وأن ما تكتبه ويكتبه الرجل من أدب هو أدب إنساني نسبة إلى الإنسان الذي يجمعهما في صفة واحدة مشتركة. ومع يقيني أيضًا بأن الأدب شعرًا كان أو قصة أو رواية هو تعبير عن الواقع لا عن الذكورة أو الأنوثة فإن كتابة المرأة تمتلك بريقًا لا يقارن وظهور الأدب النسوي بهذا المستوى المدهش لاسيما في مجال الكتابات السردية تكريم للكتابة وإنعاش لذيذ للغة.

وفي اليمن كما في سائر الأقطار العربية بدأت المرأة تثبت وجودها واقتدارها سواء في الكتابة الإبداعية: الشعر والقصة القصيرة أو في الدراسات النقدية ولا أخفي أنني أصبحت مفتونًا ببعض هذه الكتابات لما تتميز به من جاذبية مدهشة وحنان غامر وبراعة في تصوير المشاعر والأحاسيس بكثير من البراءة والصدق الفني, الحديث هنا عن المبدعات الحقيقيات وليس عن الهاويات واللائي اعتبرن العمل الإبداعي مدخلاً إلى السباحة في مياه السياسة بمفهومها التعصبي البغيض الذي يرفع من درجة العدوانية ويحول مشروع المبدع أو المبدعة إلى بوق رخيص لا يساوي واحدًا من حروف الجر التي تستخدمها في كلماتها المبتذلة متناسية هموم المرأة وإبداعها.

ولا أشك في أن صوت الإبداع الأدبي للمرأة في هذه البلاد قد تجاوز محليته من خلال أسماء لامعة أمثال د.آمنة يوسف, والشاعرتان هدى أبلان وابتسام المتوكل, والقاصة هدى العطاس, وأخريات ممن وضعن أقدامهن على أول الطريق في مجال الكتابة الجديدة. واقتربن من البحث في المنسي في حياتهن وحياة البلد والأمة التي ينتمين إليها.

  • سؤال أخير بقي يرن في ذاكرتي منذ بدء الحوار مفاده: ما دور الكلمة في عالم اليوم الذي تكتسحه مجنزرات إعلام عالمي يطمس الاختلاف, ويسيد الأحادية وقولبة الثقافي, وآليات أيديولوجية تكثف إحساسات التفوق, وتدين الآخر بوصفه مسكونًا بالعنف ومنتجًا للإرهاب?

- ثقتي بالكلمة لم تهتز في يوم من الأيام, صحيح أنني في حالة النزق والتشاؤم المؤقت أقول إننا نكتب على وجه الماء, إلاّ أن الأيام تثبت لنا عكس ذلك. ومهما اختلطت الأوراق ونجحت في الظاهر مجنزرات الإعلام العالمي أو إعلام العولمة فإن الكلمة المعتصمة بمصداقيتها المطلقة تظل أقوى من أحدث الصواريخ ومن الدمار الشامل نفسه. وهذا ما يقوله الواقع اليوم في فلسطين والعراق وفي أماكن أخرى يسعى الإعلام المأجور إلى تشويه كفاح أبنائها وتصديهم لمنطق الاستعمار الجديد وهيمنة القطب الواحد.





عبدالعزيز المقالح





عبدالعزيز المقالح و وجدان الصائغ





عبد العزيز المقالح سعدي يوسف, جابر عصفور, أدونيس, في ملتقى الشعر العربي الفرنسي 1989م





من إبداعات المقالح الشعرية





من إبداعات المقالح الشعرية





غلاف الاعمال الشعرية الكاملة





كتاب القرية المترجم إلى الفرنسية





عبد العزيز المقالح وجونتر جراس في ملتقى الرواية العربية الألمانية ـ ديسمبر 2002