مرفأ الذاكرة

مرفأ الذاكرة

عشقت التجديد والفكر المتحرر

أهي أحلام يقظة، تلك التي تراودني في هذه الأيام. وقد تجاوزت الثمانين ـ فتردني دون قصد إلى أيام الطفولة والصبا في أحضان ذلك الريف الهادئ البعيد، في أقصى شمال مصر، لتنفض عن كاهلي عبء السنين، وتعيد إلى النفس وما يختلط فيها من مرارة الغربة أو الإخفاق وحلاوة التواصل والتوفيق، صفو الطفولة الأولى وغفلتها؟ أم تراها استعادة واعية لمرحلة من الحياة كاد أن يطويها النسيان وتختفي تحت ركام ثقيل من التجارب مازال فيها ـ خلل الرماد ـ وميض نار قد يتكشف عن دفء يحنو على برد السنين؟ وعن بعض نور يكشف ما غطى على البصر من طول النظر إلى المُعاد والمألوف؟

كانت البداية في قرية صغيرة تفصلها مساحات شاسعة من حقول الأرز الخضراء، والمياه الممتدة حتى شريط ساحلي من الرمل الأبيض ملئ بالنخيل والأعناب.

ولم يكن بالقرية من وسائل التعليم إلا "الكتاب" التقليدي الذي يتعلم فيه الصغار مبادئ القراءة والكتابة وشيئا من الحساب وآيات من القرآن.

وهكذا فرضت علي غربة باكرة منذ كنت في الثامنة، فالتحقت بالمدرسة "الأولية" في المدينة الصغيرة المجاورة، أقيم فيها أيام الأسبوع وأعود إلى القرية في نهايته.

وفي المدرسة الأولية كان للغة العربية مكان الصدارة في مناهج الدراسة. وكان مدرسها "معلما شاملاً" ينقل إلى تلاميذه خلال اللغة الكثير من المعارف في التاريخ والدين والأدب.

ولعل طبيعة تلك البيئة الجميلة ذات الطابع الشعري، وتلك المعارف الإنسانية العامة في ظل غربة باكرة لصبي صغير، قد تآزرت لترسخ في النفس حب اللغة والأدب، والشعر الذي كنا نتلقاه في أناشيد نرددها وراء المدرس، قد يعز علينا إدراك بعض مفرداتها وأسلوبها العام، لكنها ـ بإيقاعها وحلاوة نغمها وطبيعة تجربتها القريبة إلى نفوس الأطفال ـ كانت تتجاوز بنا محاولة الفهم الدقيق إلى التلقي الوجداني المؤثر الذي يترسب في النفس ويتراكم فيفسر المعروف منه بعض المجهول

وكانت اللغة العربية حينذاك ـ في جميع مراحل التعليم ـ ذات شأن متميز حتى في تعليم المواد الأخرى كالتاريخ والجغرافيا وبعض العلوم مثل الكيمياء والطبيعة، بما لها من رموز علمية عربية.

لم تكن اللغة العربية في مراحل التعليم العام مجرد "مادة" من مواد المنهج الدراسي، بل مكونا من مكونات الشخصية في التفكير والتعبير. وكان الطالب يدرب على قراءتها و"إنشائها" تدريبا مستمرا، ويقرأ ما يتعلم منها ومن تراثها في كتب يؤلفها كبار الأدباء والمفكرين. وكان من ينبغ في هذا المجال يظفر من المجتمع بتقدير عظيم ويحقق لنفسه مكانا رفيعا بين أبناء عصره.

وهكذا أحببت اللغة العربية بالفطرة وطبيعة النشأة والعصر، وزاد حبي لها في غربة ثانية جديدة كانت أقسى من غربتي الأولى في مدرسة المدينة الصغيرة. فقد شاءت ظروف خاصة ألا التحق بالمدرسة الثانوية في عاصمة الإقليم، كما كان مألوفا حينذاك، ورحلت إلى القاهرة ـ في الثالثة عشرة ـ لألتحق بالمدرسة التوفيقية الثانوية هناك.

كنت أقيم في رعاية ثلاث سيدات فاضلات سبقن في ذلك العصر الباكر إلى التعليم العالي وأكملن تعليمهن في الخارج، وعدن ليشغلن مناصب رفيعة في التعليم العام. وقد ساقني إلى تلك الرحلة البعيدة من القرية إلى العاصمة أني كنت صديق دراسة في المدرسة الإبتدائية لابن أخيهن فرحلنا معا إلى القاهرة.

وقد أتيح لي بإقامتي مدة عامين مع هؤلاء السيدات المثقفات الفاضلات أن أستمع إلى كثير من النقاش الفكري وإن ألتفت إلى وجوه من السلوك الحضاري كانت جديدة على فتى ريفي. وقر في نفسي احترام كبير للمرأة وقدرتها ومكانتها، ومازلت حتى اليوم يسوؤني ما أراه في حياتنا من تناقض عجيب بين النظر والممارسة حين نعرض لأوضاع المرأة في المجتمع، ففي حين تبلغ المرأة العربية مكانة مرموقة وتفوقا ملحوظا في أغلب مجالات العلم والعمل، وتصل إلى أرقى المناصب، وتجمع في كثير من الأحيان بين مسؤوليات الأسرة والعمل، نغفل عن كل هذا الواقع ونناقش أوضاع المرأة في المجتمع كأنها قضية معروضة للنظر لكي نتخذ قراراً فيها من "نقطة الصفر!".

ولعل الغربة والفقر والاستعداد الفطري، قد جعلتني مهيأً لاستقبال المذهب الأدبي الجديد الذي كان قد بدأ يسود الأدب العربي حينذاك، ذلك المذهب الذي استعرنا له المصطلح الغربي فسميناه "الرومانسية" وأسميته أنا فيما بعد "الاتجاه الوجداني".

وقد ساقتني المصادفة إلى الاقتراب المبكر من نماذج الإبداع القصصي والروائي عند رواد ذلك الاتجاه، إذ نلت في نهاية العام الدراسي الأول جائزة التفوق في اللغة العربية وكانت رواية "البؤساء" للشاعر الفرنسي الرومانسي فيكتور هيجو، وتعريب الشاعر حافظ إبراهيم.

ثم تلتها مصادفة طيبة فكان لوالد أحد أصدقائي في المدرسة مكتبة منزلية كبيرة تعرفت فيها إلى مصطفى لطفي المنفلوطي وما عربه من روايات فرنسية رومانسية، وما كان يكتب من قصص أو شبه قصص قصيرة بعنوان "العبرات".

وكان المنفلوطي ـ وبعض الكتاب العرب الآخرين ـ علامة بارزة في تطور النثر العربي حينذاك إلى ما يشبه الشعر المنثور الذي يسير موازياً لاتجاه الإبداع في الشعر الوجداني. وقد عاش جيل كامل من الشباب على أدبه الذي كان قريبا من عواطفهم الحادة وخيالهم الجامح وتطلعهم إلى التعبير الشعري عن عواطفهم ورؤيتهم للحياة حينذاك.

واجتمعت في نفسي أحاسيس الصبا وطبيعة العصر وما كنت أقرأ من أدب مؤلف ومترجم، وزادت قدرتي الفكرية واللغوية بمساندة كتب مدرسية متميزة تقدم إلى الطالب نماذج مختارة من الشعر والنثر في الأدب العربي على مر العصور، يؤلفها كبار الأساتذة في التعليم والجامعة.

ولم يكن المدرس في المدرسة الثانوية بأقل تأثرا من تلاميذه بطبيعة العصر وما جلب من تحولات في رؤية الحياة والتعبير عنها بالشعر والقصص والمقال، فكان يقدم النصوص "المقررة" بحرية وتوسع وذوق شخصي، ويوجه طلابه في موضوعات "الإنشاء" إلى التعبير الحر عن الذات. وأذكر ـ في هذا المجال ـ أن مدرس اللغة العربية طلب إلينا ذات يوم أن نكتب في موضوع عنوانه "خواطر في ليلة أرقت فيها"، فأرقت له ذات ليلة وكتبت مقالاً طويلاً، لابد أن أغلبه كان مقتبسا ـ دون أن أفطن ـ مما ترسب في خاطري من كتابات المنفلوطي.

وأعجب الأستاذ بالمقال إعجاباً كبيرا، وكتب تعليقا في نهايته ـ مُجارياً إياي، أو على الأصح مجاريا المنفلوطي المصدر الأول لخواطر أرقى. وكنت قبل أن أنتهي من الدراسة الثانوية قد عقدت العزم على الالتحاق بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، يدفعني حبي للغة والأدب، وتشدني أسماء كبيرة لامعة تجاوز وجودها الجامعة إلى المجتمع المصري والعربي في الأدب والفكر والسياسية، منهم طه حسين وأحمد أمين، وأمين الخولي وعبدالوهاب عزام ومصطفى عبدالرازق وعبدالحميد العبادي وإبراهيم مصطفى.

وكان عدد الطلاب قليلا يتيح الاتصال الوثيق بالأساتذة والانتفاع المفيد بالمكتبة العامة، وكان من بين هؤلاء الاعلام من يحث طلابه ـ عن قصد ـ على الحوار والمناقشة، بل قد "يستفزهم" أحيانا إلى ذلك كما كان يفعل أمين الخولي.

وكانت محاضرات طه حسين تتجاوز تقديم "الحقائق" إلى إثارة "التساؤل" ودراسة النحو للأستاذ المجدد إبراهيم مصطفى لا تقنع بتقديم "القواعد" بل تحاول أن تصل إلى مناهج جديدة وتربط النحو بالمنطق، في محاضراته وفي كتابه الرائد "إحياء النحو".

وكان المؤرخ الكبير عبدالحميد العبادي "يفسر" أحداث التاريخ ويفلسفها ولا يسوقها لطلابه مجرد أحداث ووقائع.

أما أمين الخولي، فقد تميز من بين الأساتذة جميعا بقدرته على إثارة الجدل حول الرأي الواحد، وبقسوته "الظاهرية" في مناقشة ما كنا نقرأ في المحاضرة من بحوث، وكان بادي السخرية أحيانا، لكنها سخرية يقصد من ورائها أن يصرف الباحث عن الالتفات إلى رأي واحد دون النظر في وجوه أخرى ممكنة للموضوع أو القضية.

ومن الاستماع إلى هؤلاء الرواد الكبار، والإفادة من قراءات وثقافات أخرى بعد ذلك، قر في فكري أن الأمور قد تحمل من الدلالات أكبر مما يبدو على ظاهرها وأن قضايا الفكر والأدب ـ مهما تبدو محسومة من قبل ـ قد تقبل النظر من جديد.

وهكذا تعلمت أن أبتعد فيما أكتب من بحث أو نقد، البدايات الحاسمة اليقينية التي تتردد كثيرا لدينا، من أمثال: "ومما لاشك فيه.. ولا جدال في أن.. ومن المؤكد أن.." وأن أعدل عنها إلى بدايات تفيد الاحتمال، والصواب والخطأ من مثل: "ولعل.. ويبدو أن.. وربما كان.. ويخيل إلي.. وفي ظني". وكان لأستاذنا طه حسين بداية مأثورة يقول فيها "وأغلب الظن أن..".

على أني لم أكن راضيا كل الرضى عن تلك الدراسات والمناهج المتميزة، إذ كنت أفتقد فيها الاهتمام بالأدب العربي الحديث، في مرحلة كان ذلك الأدب يجتاز ألوانا من التحول الجسيم في رؤيته وصياغته، وتنشأ فيه ضرورة جديدة من فنون القول، قد يكون لها أصول عربية قديمة، لكنها في صورتها الحديثة وليدة التطور الحضاري الحديث، والتأثر بنظائرها المتأصلة في الأدب الأوروبي، في الرواية والقصة القصيرة والمسرح.

عايشت الكتب

وفي عام 1938 تخرجت من الكلية وعملت أمينا بمكتبة الجامعة على مدى سبع سنين مع صديقي الراحل الدكتور عبدالعزيز الأهواني. وعهد إلينا أستاذنا طه حسين بإنشاء قاعة مطالعة كبيرة للدراسات العربية والشرقية، جمعنا فيها عددا كبيرا من الموسوعات والمعاجم وكتب التراث في فنون الأدب والتاريخ والفكر والدين، مصنفة حسب العصور والموضوعات. وعهد إلينا أستاذنا في الوقت نفسه بتحقيق كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لابن بسام، وهو كتاب كبير يؤرخ للأدب في الأندلس.

وكانت أعداد الطلاب مازالت قليلة حينذاك، تأذن بأن يكتبوا بحوثا في موضوعات تتصل بدراساتهم، وكانوا يترددون كثيرا على هذه القاعة الكبيرة لينتفعوا بمراجعها وكتبها الميسورة.

ومن معايشتي الدائمة للكتب ومعاونتي المخلصة لهؤلاء الطلاب، كانت هذه السنوات السبع مصدر تكويني الثقافي الحقيقي الحر، بعيدا عن مناهج الدراسات المقررة وساعاتها المحددة، وأعباء الامتحانات الثقيلة.

وكانت تلك الصلة الدائمة بالأجيال المتعاقبة من الشباب بذرة نمت في نفسي حتى أصبحت ذات جذور متأصلة، توجه سلوكي الثقافي وفكري الأدبي، واستطعت من خلالها أن أدرك طبيعة الخلاف بين الأجيال وسنة التطور، وما يجلبه الزمن من تحولات في الفكر والإبداع والسلوك.

وزاد هذا الوعي بعد ذلك بما اكتسبت من خبرة عبر السنين، إذ التقيت بعد تخرجي بطائفة من شباب الأدباء، في مقهى ثقافي معروف كان يلتقي فيه عدد كبير من الأدباء الراسخين، ويفد إليه شباب يريدون أن يتعرفوا إليهم.

وهكذا أصبحت ميالاً بطبيعتي وبهذه المعايشة الدائمة للشباب إلى أن انتصر للجديد، إذا اقتنعت بأنه قد نشأ ليعبر عن طبيعة مرحلة حضارية جديدة، أو ليبشر بها قبل أن تبزغ إلى الوجود وإذا رأيت أن هذا الجديد بفكره وإبداعه قد أرضى حاجات تلك المرحلة.

وأدركت أن الخصومة بين القديم والجديد أمر لابد منه لكي يتمحص خلالها أمر الجديد، ولكي يألفه الناس على مهل فلا يواجهوا بلبلة الانسلاخ المفاجئ من القديم المألوف. وتنتهي الخصومة دائما ـ مهما تطل أو تقصر ـ بانتصار الجديد إذا لم يكن نزعة فردية، أو بدعة خاصة، بل كان تعبيرا عن مرحلة ذات تميز شامل، لا في الأدب وحده، بل في كثير من وجوه الحياة.

لذلك اخترت ـ حين أرسلت في بعثة إلى لندن بعد انقضاء الحرب الثانية لنيل درجة الدكتوراه ـ موضوعا يمثل تلك المواجهة الحضارية المتكررة بين القديم والجديد، فدرست "مفهوم الشعر عند العرب، كما يتمثل في كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري".

وحين عدت من البعثة وبدأت المحاضرة في الجامعة حرصت على أن أعرف طلابي بالأدب العربي المعاصر وأقدم إليهم مذاهبه ونصوص إبداعه، بمنهج نقدي شامل. وكان كثير من هذه النصوص لشباب من الشعراء والقصاصين والروائيين مازالوا في مطلع حياتهم الأدبية.

وقد ساقني الانتصار للجديد إلى كثير من الخصومات حين وقفت إلى جانب رواد الشعر الحر، وكتبت مقدمة لديواني الوحيد "ذكريات شباب" الذي أصدرته عام 1958. وفي تلك المقدمة تحدثت عن نظرية الشعر الحر وأشدت بتجاربه، وبينت أن قصائدي تنتمي إلى مرحلة قد انحسرت ـ هي المرحلة الرومانسية، بعد أن أبدع أصحابها إبداعا جديدا متميزا عبر عن طبيعة المرحلة التي عاشوها وجددوا في مفهوم الشعر وصيغته وهيأت نماذجهم البديعة لظهور المرحلة التالية. وفي عام 1954 صدر أول كتاب لي بعنوان "في الأدب المصري المعاصر" يتضمن ثلاثة بحوث طويلة عن "السلبية في القصة المصرية.. المسرح الذهني عند توفيق الحكيم.. الأدب بين الغاية والفن".

وكنت شديد الاعتزاز ببحثي عن مسرح توفيق الحكيم، وكان مصطلح "المسرح الذهني" مصطلحاً صغته بنفسي وأطلقته لأول مرة على هذا اللون من المسرحيات التي تدور حول فكرة واحدة ـ قريبة من الفلسفة أو الفكر المجرد ـ تحاول عناصر المسرحية من أحداث وشخصيات وصراع وحوار أن تبرزها على نحو مجسد.

أما بحثي "الأدب بين الغاية والفن" فكان يعرض لبعض ظواهر فنية في الشعر والقصة تتجاوب مع النزعات القومية وحركات الاستقلال والإصلاح الاجتماعي التي سادت في الوطن العربي وبعض الدول الإفريقية حينذاك، ويواجه المبدع فيها مشكلة التوازن بين "القضية" والفن.

لكني فوجئت بضجة نقدية كبيرة ـ لم أكن أتوقعها ـ حول بحث "السلبية في القصة المصرية" دامت أكثر من شهرين على صفحات الجرائد والمجلات وفي الندوات الثقافية، ولقيت من جرائها عنتاً كبيرا لازمني طويلا في حياتي الأدبية بعد ذلك، إذ كان الجدل قد انحرف من الموضوع الأدبي إلى السياسة.

كان البحث يدور حول روايتين إحداهما "إني راحلة" للأستاذ يوسف السباعي، والأخرى "بعد الغروب" للأستاذ محمد عبدالحليم عبدالله. وكانا حينذاك في طليعة الروائيين الرومانسيين الذين يجتذبون الشباب بتصويرهم العواطف الجامحة والمواجهة بين الحب الصادق وسلطان الجاه والمال.

لكن عهد الرومانسية كان قد انقضى وبدأ المجتمع العربي يواجه مشكلات وتحولات خلفتها الحرب العالمية الثانية ووجهت الأدب إلى النظر الواقعي والبحث عن صيغة فنية جديدة. وكان نقدي ـ بما فيه من حدة وتفصيل ـ مفاجأة للكاتبين الشهيرين ولقرائهما من الشباب، فبدأت تلك "المعركة" الأدبية الحامية!

وحاول كثير من الأصدقاء أن يصلحوا بيني وبين الأستاذ يوسف السباعي الذي كان أكثر ضيقا بما كتبت وأشد عنفا في الرد عليه. وفي إحدى تلك المحاولات عاتبني لعبارات جاءت في نهاية نقدي لروايته لم ألتفت حين كتبتها إلى ما فيها من قول جارح، إذ كنت ما أزال شابا شديد الحماسة، متطلعا إلى تحقيق ذاته من خلال فكر مستقل صريح.

معارك مستمرة

وسرعان ما وجدتني أخوض "معركة" ثانية بعد أن هدأت عاصفة "السلبية في القصة المصرية". ففي عام 1960 أصدر الدكتور رشاد رشدي الأستاذ الجامعي والكاتب المسرحي المعروف كتابا صغيراً بعنوان "ما هو الأدب؟" نقل فيه آراء مدرسة أمريكية معروفة باسم "النقد الجديد" نقلاً فيه كثير من الإسراف والإيجاز المخل، وإغفال لما جد على آراء تلك المدرسة بعد نشأتها وتطبيقها لنظريتها، وسخر ممن ينهجون في تعريف الأدب منهجا آخر.

كانت مدرسة "النقد الجديد" قد نشأت "رد فعل" لاتجاهين غلبا على النقد في مطلع القرن العشرين وابتعدا كثيرا عن الدراسة الفنية للنص واتجها إلى العناية الزائدة بمضمونه.

أما الاتجاه الأول فكان "التفسير النفسي للأدب" بعد ظهور نظرية العقل الباطن عند "فرويد"، وقد أغرت النظرية كثيرا من النقاد بالربط المباشر بين بعض ما عُرف عن المبدع من سلوك أو خصائص نفسية، وما أبدع من نصوص في فنون القول المختلفة، وحاول بعضهم أن يرسم صورة لحياة المؤلف من خلال نصوصه متخذين منها ما يشبه "الوثائق" النفسية.

وأما التفسير الاجتماعي فقد ساد عند جماعة من النقاد بعد ظهور الاشتراكية في روسيا عام 1917، فاتجهوا إلى تحليل "مضمون" النص الأدبي، وقاسوا قيمة العمل الأدبي بمعيار رؤيته الاجتماعية والمذهبية، مهما تكن طبيعة فنه ومستواه.

وجاء أصحاب "النقد الجديد" فحاولوا أن يعيدوا إلى النص وجوده الصحيح بوصفه إبداعاً أدبيا نبع من أوضاع ومشاهد من الحياة، لكنه في صورته الفنية كيان مستقل، فقالوا إن النص الأدبي "لا صلة له بنفس قائله ولا بروح عصره".. وكان ذلك رد فعل بما تحمل ردود الأفعال من حدة ومبالغة.

لكن أصحاب المذهب بعد أن تجاوزوا مرحلة الدعوة النظرية إلى الدراسة والتطبيق، رأوا انه لا مناص في أحيان كثيرة من الإشارة إلى بعض جوانب من حياة المؤلف أو طبيعة العصر أو أصول النص السابقة أو عرض "القضية" المطروحة في العمل الأدبي.

وكتبت نقدا حادا ساخرا من كتاب الدكتور رشاد رشدي. ويبدو أني لم أكن قد خلصت بعد من اندفاع الشباب! أو أن ظروف المجتمع العربي وقضاياه القومية الملحة كانت ترفض أن يتحول النص الأدبي عند الناقد إلى مجرد تشكيلات لغوية وأبنية أسلوبية، دون النظر إلى مضمونها وفنها معا.

وطالت "المعركة" وتشعبت أطرافها ـ وعرفت بقضية الشكل والمضمون، وإن كان هذا بعيدا عن طبيعتها في الحقيقة، وكان إلى جانب النقد الشامل الدكتور محمد مندور والناقد أنور المعداوي والدكتور محمد غنيمي هلال، وانضم إلى الدكتور رشاد رشدي بعض تلاميذه في قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب.

وكما نالني بعض رذاذ من اتهامات سياسية في قضية "السلبية" نالني من هذه المعركة أذى أشد، إذ كان الجدل عند بعض النقاد ينحرف في النهاية إلى السياسة.

وفي عام 1964 عهدت إلي وزارة الثقافة برئاسة تحرير مجلة جديدة باسم "الشعر" وكنت بطبيعة ميلي إلى الجديد وتشجيع المواهب الواعدة والحفاوة بالمتميزين من الأدباء "العصريين" أنشر لكثير من المجددين في مصر والوطن العربي.

وفوجئت ذات يوم بأن "لجنة الشعر" بالمجلس الأعلى لرعاية الآداب والفنون ـ ومقررها حينذاك الشاعر المعروف عزيز أباظة ـ قد قدمت مذكرة إلى وزير الثقافة تأخذ على المجلة تجاهلها الشعر العمودي وتحيزها للشعر الحر.

والحق أن المجلة لم تكن تتجاهل الشعر العمودي، لكنها كانت تنشر أحسنه وأقربه إلى روح العصر، وكان من الطبيعي أن تقل هذه النماذج الجيدة بعد أن تحول أصحاب المواهب الجديدة إلى شعر "التفعيلة" وظل أغلب الشعراء العموديين يكررون ما سبق إليه شعراء موهوبون من أبناء الحركة الوجدانية التي كانت موجتها قد انحسرت حينذاك.

وانتهى الأمر بعد جدل طويل ومناظرات في ندوات أدبية باغلاق المجلة بعد بضعة أشهر، ومعها عدد من المجلات الأخرى التي كانت تصدرها وزارة الثقافة.

على أن النشاط الأدبي والثقافي لم يكن مقصورا على تلك المعارك والخصومات، فقد كان في المجتمع من القضايا الأدبية والفكرية ما يستدعي النقد الموضوعي الهادئ بعيدا عن نوازع الإثارة والخصومة الشخصية.

وكان ما جدّ من قضايا اجتماعية وسياسية بعد الحرب العالمية الثانية يتجلى في أعمال بعضها يتخذ من تلك القضايا وسيلة إلى رؤية وصيغة فنية سليمة، وبعضها تدفعه الحماسة إلى نزعات خطابية أو ميول إصلاحية أو مذهبية.

وأصبحت المواجهة بين "الالتزام" الذي طال الحديث عنه حينذاك، ومقتضيات الفن، موضع كثير من النقد النظري والتطبيقي.

مشاركة في النهضة الأدبية

وفي تلك السنوات نضجت بدايات القصة القصيرة والرواية العربية وانتهت إلى إبداع متميز متعدد المستويات والمذاهب والمواهب، وكانت موضع دراسات أكاديمية أو نقدية في المجلات المتخصصة. وقد أتيح لي أن أرأس تحرير بعض هذه المجلات، كمجلة "المسرح" ثم مجلة "المجلة" فشاركت بما استطعت من جهد في متابعة تلك النهضة الأدبية الكبيرة.

وكان لمجلة "الآداب" البيروتية شأن كبير في اجتماع كثير من مواهب المبدعين والنقاد على صفحاتها. وكانت تفرد لنقد ما تنشر باباً فريدا بعنوان "قرأت في العدد الماضي من الآداب" يتناوب الكتابة فيه عدد من النقاد كنت من بينهم.

لكني خلال ذلك كله كنت حريصا على ألا يقتصر دوري في المتابعة على النقد المكتوب وحده فشاركت في ندوات كانت تقيمها جمعيات أدبية كثيرة كان لها شأن كبير حينذاك، يقبل عليها الجمهور كما يقبلون على أمسية شعرية متميزة أو على عرض مسرحي جديد.

ومن خلال تلك الندوات كانت الصلات الإنسانية الحميمة واللقاءات الدائمة تزيل ما قد يبعثه النقد ـ دون تواصل شخصي ـ من هواجس أو سوء ظن، وتقيم العلاقة بين الأجيال على أساس من التوقير والحب، وإن اختلفت الآراء والمذاهب.

وقد طرأ على فنون الأدب العربي في السنوات الأخيرة كثير من التحولات، ونبغت أجيال من المبدعين لهم رؤيتهم الخاصة وأساليبهم الجديدة، مستجيبين أحيانا استجابة واعية لدواعي التطور الحضاري، ومتأثرين أحيانا ـ تأثرا واعيا أيضاً ومسرفا إلى حد كبير ـ بنظريات جديدة في فنون الأدب والنقد.

ساد في الشعر اتجاه "الحداثة" وسادت في القصة والروايات اتجاهات مماثلة، ومحاولات للتجريب تتجاوز المألوف إلى ما يشبه الطفرة. واستطاع ذوو المواهب الحقة أن يترجموا رؤيتهم العصرية إلى إبداع متميز، على حين نظر غيرهم إلى مناهج النقد الجديدة ومصطلحاتها وأخضعوا إبداعهم لها فغابت عنه تلقائية الموهبة وحريتها.

ومع أن متابعة نظريات النقد الغربية والانتفاع بها أمر لابد منه لكي ينتفع أدبنا بثمار العصر الحديث، فإن هذا الانتفاع ينبغي أن يتم في إطار من الاختيار الواعي والقبول والرفض والجدل والإضافة والتعديل.

لكن نقادنا قد أسرفوا في متابعة تلك المناهج فتجاوزوا حد التأثر والانتفاع، وجعلوا من أنفسهم "تلاميذ" لرواد تلك المناهج، لا يضيفون ولا يعترضون ولا يناقشون ولا يختارون، ويسارعون إلى ترجمة مصطلحات هؤلاء الرواد، فلا تسلم ترجماتهم أحيانا من خطأ العجلة، أو من تجاهل طبيعة اللغة العربية ودلالات ألفاظها وأبنية أساليبها، وطرق اشتقاقها.

وفقد الناقد العربي بكثرة استخدام المصطلحات في صياغتها المصنوعة أسلوب تعبيره الخاص، وكاد النقاد جميعا يصبحون نسخا مكررة في التفكير والتعبير، وهم من خيرة المثقفين ومن أولى الناس بالتميز لو اقتصروا على "الانتفاع" بتلك المناهج، ولم ينسوا أنها في حقيقتها فلسفات حول اللغة جلبها تراكم فلسفات أخرى في مجالات كثيرة للمعرفة، وأنها تواكب آدابا تختلف في طبيعتها وتتابع تطورها ومذاهبها عن الأدب العربي.

وفي ظل هذا الخضوع المسرف للمناهج الجديدة ومصطلحاتها، بدا أن الصلة بين النقد والإبداع قد انقلبت إلى وضع جديد، فأصبح المبدعون في كثير من الأحيان ينطلقون من رؤية الناقد ومن فهم قد يكون غير سليم للمصطلح النقدي الذي تتضارب ترجماته عند الأفراد وفي أقطار الوطن العربي المختلفة.

وقد نشأ عن ذلك ما يبدو لي خللا في حياتنا الثقافية، فقامت فرقة بين الأجيال تتجاوز الفرقة الطبيعية المألوفة إلى العداء والإنكار.. يرمي شباب الأدباء ونقاد المناهج الجديدة أبناء الجيل السابق بالعجز عن ملاحقة ثقافة العصر، ويتهم أبناء الجيل السابق الشباب بالإسراف في تجديد يرفض نقاده أن يضعوا معايير واضحة له، ويتجاهل طبيعة المتلقي وطبيعة المجتمع العربي.

وفي ظني أن المجتمع العربي لم يبلغ بعد من التناسق الحضاري ما يتيح سيادة مذهب أدبي واحد، أو منهج نقدي خاص، فمازال الناس في هذا المجتمع يختلفون حول "أوليات" في الإبداع، اختلافا يتجاوز خلاف الأجيال إلى ما يمكن أن يسمى "خلاف حقب" أو "مراحل".

انحياز للتجديد

وقد أتيح لي أن أتابع المواهب الأدبية الجديدة ومحاولاتها في التجديد والحداثة، حين أشرفت على مجلة "إبداع" مدى ثمانية أعوام كاملة، "1983 ـ 1991"، ورحبت بمحاولاتهم الجادة، حتى أكثرها إسرافاً في التجديد، وقدمت إلى القراء نصوصا قد تبدو غريبة عليهم في باب للشعر أسميته "تجارب" لكي يفطن القارئ إلى طبيعة النص وما يقتضي من جهد خاص في القراءة وتحرر من قياسه إلى ما اعتاد من قديم.

لكن ما أنكرته حينذاك ـ ومازلت أنكره اليوم ـ أن تقدم التجارب أو نصوص الحداثة "بديلا" عن كل الاتجاهات في الإبداع، فإن المتلقين في الوطن العربي لا يزالون يفتقدون "الأرض" الثقافية المشتركة، ويختلفون في "أوليات" لا يختلف حولها أبناء المجتمع المتجانس. ومازالت طبيعة المجتمع العربي تسمح بأن "تتعايش" اتجاهات كثيرة في الأدب والنقد.ومع أن حياتي الثقافية والأدبية قد ارتبطت ارتباطا وثيقاً طويلا بالجامعة على مدى خمسين عاما أو يزيد، فقد غطى النقد والمشاركة في الحياة الثقافية على تلك الحياة الفكرية المتجددة في رحاب الجامعة، وفي بعض المعاهد المتخصصة كمعهد الفنون المسرحية والمعهد العالي للسينما، بين أجيال متعاقبة من الأساتذة والطلاب، وبخاصة حين كان عدد الطلاب حينذاك يأذن بتواصل قريب دائم بين الطالب والأستاذ، وحين كانت الجامعات المصرية تضم عدداً كبيرا من طلاب الدراسات العليا في الوطن العربي، كان لهم بعد ذلك شأن كبير في الأدب والثقافة والسياسة.

وإذا كانت جهودي في النقد قد شاركت قدر طاقتي في الحياة الأدبية العامة مع طائفة مرموقة من الرواد، فإن العمل في الجامعة كانت له ثمار طيبة في كتب كاملة تدرس بعض الظواهر الفنية في الأدب ومذاهبه وتجمع بين النظرية والتطبيق، وتتجدد بالمحاضرة التي تكشف من خلال المناقشة ومعاودة النظر عن وجوه جديدة للنصوص الأدبية أو الظاهرة الفنية.ومازلت أشعر بأني أكون في خير حالاتي الذهنية والبيانية حين أقف محاضرا أمام طلابي في الجامعة وأحس بتجاوب صريح أو خفي بيني وبينهم يجلب إلى نفسي كثيرا من الرضى.ولعل هذا الشعور هو ما يشدني حتى اليوم إلى المحاضرة في الجامعة على الرغم من اختلاف الظروف وكثرة الأعداد، وهبوط المستوى في مرحلة التعليم العام، وتوجيه الطلاب إلى الدراسات الجامعية حسب تقديرهم في شهادة الدراسة الثانوية، لا حسب ميولهم واستعدادهم الفكري والنفسي.ومع أن هذا الدور الذي أعتز به يبدو مجهولاً ـ أو متجاهلاً ـ عند كثير ممن يتابعون جهود النقاد، فإنه كثيرا ما يتجسد على نحو يملأ النفس بالسعادة، في لمسات جميلة من الحب والوفاء، حين يلقاني بعض طلابي السابقين في مصر والوطن العربي، وقد أصبحوا من الأعلام في مجالات كثيرة- فيذكرونني بذلك الماضي القديم الجميل، الذي يحملون له أطيب العرفان والذكرى وأحمل له أصدق الحب والاعتزاز.

 

عبدالقادر القط

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب





غلاف الكتاب





غلاف الكتاب