الاحتياطات الدولية

الاحتياطات الدولية

عرض: الدكتور حسين طه الفقير

الأزمة الاقتصادية في الدول النامية مع إشارة خاصة عن الاقتصاد المصري

لا ريب أنه كلما زادت القدرة على السداد في بلد معين تضاءلت الشروط التي تفرض عليه عند طلب المزيد من القروض أو طلبه تأجيل السداد عن طريق إعادة الجدولة.

وقد اتضح أيضا أن هناك علاقة وثيقة بين المشكلات الناجمة عن الاستدانة الخارجية والاحتياطيات التي تملكها الدولة. وهذه الاحتياطيات تتكون من الذهب الموجود لدى البنك المركزي، الاحتياطيات الرسمية من العملات الأجنبية القابلة للتحويل والموجودة لدى السلطة النقدية "البنك المركزي" وحق الدولة في السحب من صندوق النقد الدولي، في حدود الشريحة الذهبية، زائد حقوق السحب الخاصة التي يخصصها صندوق النقد الدولي للدول الأعضاء.

وبالطبع فإن مقدرة الدولة على سداد ديونها تتوقف إلى حد كبير على مقدار ما تملكه من هذه الاحتياطيات. وتمكن الاحتياطيات الكبيرة الدولة من تجنب ما قد ينشأ من أزمات في السداد بسبب الارتفاع المفاجئ في أسعار الواردات أو الانخفاض الشديد في أسعار وحصيلة الصادرات. كما أن وجود هذه الاحتياطيات يؤدي إلى توفير الثقة لدى أطراف التعامل الدولي في مقدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، وهو مايمكنها من الحصول على القروض الخارجية حينما تنشأ الحاجة لذلك.

ويناقش الإصدار الجديد للدكتور رمزي زكي تلك العلاقة القائمة بين الاحتياطيات الدولية وما تتعرض له البلدان النامية من أزمات وضغوط راجعة في المقام الأول إلى مشكلة الاستدانة الخارجية وضعف الاحتياطيات الدولية وسوء إدارتها. ويقترح رؤية جديدة وبديلة تقوم على هداها الإدارة المالية لمواجهة مشكلة الديون الخارجية ومانجم عنها من أزمات ومشكلات. والدكتور رمزي زكي، عالم الاقتصاد العربي والعلم البارز بين كتاب العالم الثالث قد تصدى بكتاباته الغزيرة لعلاج المشكلات الاقتصادية والاجتماعية لدول العالم الثالث من منظور التنمية المستقلة، وانطلاقاً من عقيدة راسخة في عدم فاعلية الحلول التي تأتي من خارج الواقع المادي والتاريخي والحضاري لهذه الدول. فهذه الحلول تستهدف في المقام الأول هيمنة الشمال على الجنوب واستنزاف الشطر الأعظم من الفوائض الاقتصادية التي يحققها الجنوب. ومن أخطر المشكلات التي تصدى لها هذا المفكر العملاق العربي ومن خلفه حشد من كتاب وباحثي المدرسة الاقتصادية الوطنية التي انتزع زعامتها بجدارة: مشكلة الديون الخارجية، والتضخم، ومشكلات ميزان المدفوعات، وتمويل التنمية، وأزمة الفكر الاقتصادي المعاصر، فضلاً عن مشكلات السكان في دول العالم الثالث، والليبرالية الحديثة.

وفي هذا الكتاب الجديد، يقوم الدكتور رمزي زكي بتأصيل رؤية جديدة في التعامل مع مشكلة الديون الخارجية وإدارة الاحتياطيات الدولية في عصر الخصخصة وتهميش دور الدولة في النشاط الاقتصادي وعلى نحو يجنب الدولة قدراً كبيراً من الإرهاق الناجم عن سياسات "الإصلاح" الاقتصادي المفروضة من قبل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمعروفة تحت مصطلح "التكيف الهيكلي" Structural Adjustment وهي السياسات التي تعلي من شأن "الربحية الفردية" على "الربحية الاجتماعية" واعتبارات التنمية المستقلة.

استجابة للحوار

ويمثل هذا الإصدار استجابة للدكتور رمزي زكي للحوار الذي دار بمصر أخيراً حول جدوى بناء "جبل مرتفع" من الاحتياطيات الدولية التي راكمتها الحكومة المصرية خلال الفترة "1991 ـ 1994" بعد توقيع الاتفاق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في عام 1991، وبعد أن تناولت الصحف المصرية في حوارات ساخنة أراءه التي نشرها حول كيفية استفادة مصر من هذه الاحتياطيات.

ويتضمن الكتاب ثلاثة أبواب رئيسية، قسمت إلى خمسة مباحث فرعية، بالإضافة إلى المقدمة والمدخل النظري. وقد استغرق التحليل 367 صفحة من القطع الكبير.

وقد استهل المؤلف كتابه بتمهيد ومدخل نظري. وهو عبارة عن حوار مفترض بين المؤلف والقارئ حول معنى الاحتياطيات الدولية International Reserves ومكوناتها والوظائف التي تؤديها في الاقتصاد القومي. وأوضح كيف ارتفعت هذه الاحتياطيات في الاقتصاد المصري من حوالي ملياري دولار في عام 1990 إلى حوالي 17.4 مليار دولار في عام 1994. ويعتقد المؤلف أن هذا القدر الكبير من الاحتياطيات الدولية الذي كونته مصر في هذه الفترة الوجيزة يتجاوز الحجم الأمثل المطلوب لتلك الاحتياطيات. ومن هنا فهو يرى أن هذا الجبل المرتفع من الاحتياطيات ينطوي على اكتناز إجباري يمكن استخدامه في شراء ديون مصر الخارجية المعروضة الآن للبيع بسعر 50% من قيمتها الاسمية، وفي تمويل برنامج للانعاش الاقتصادي بمصر.

وبعد هذا الحوار العلمي تطرق الكاتب إلى تحليل أوجه الاختلاف بين النظام النقدي المحلي والنظام النقدي العالمي من حيث السلطة التي تتحكم في عرض النقود، وطرق تسوية الديون والحقوق، ثم أشار إلى التعاون النقدي الدولي، ومعايير الكفاءة لنظام النقد الدولي، وهي: معيار نمو التجارة العالمية، ومعيار تحقيق الاستقرار في الأسعار، والتنسيق بين الاختلال الداخلي والاختلال الخارجي. كما بين المؤلف أدوات النظام في تحقيق هذه المعايير. وهذه الأدوات تتمثل في: قابلية العملات للتحويل، واستقرار أسعار الصرف، وتوفير حد أدنى من التعاون الدولي، وتوفير السيولة النقدية الدولية. وفي نهاية هذا الباب يلفت المؤلف النظر إلى حقيقة بالغة الخطورة، وهي غياب معايير الكفاءة لنظام النقد الدولي بالنسبة لمجموعة البلاد النامية. فالمعايير المشار إليها قد صيغت أساساً من وجهة نظر البلاد الرأسمالية المتقدمة ومصالحها الخاصة. وتحتاج البلاد النامية إلى صياغة المعايير التي تعبر عن أمانيها ومصالحها وبخاصة في إطار الأزمة الراهنة لنظام النقد الدولي والجهود التي تبذل لإصلاح هذا النظام في المستقبل.

وعبر هذا الحوار وعبر هذا المدخل التمهيدي، يكون المؤلف قد نجح بأسلوبه البسيط والواضح في أن يحيط القارئ غير المتخصص بالأسس النظرية والمبادئ العلمية الأساسية التي ستمكنه من متابعة التحليل عبر صفحات الكتاب.

مفاهيم وأموال

أما الباب الثاني فقد خصصه المؤلف لتحليل مشكلة الاحتياطيات الدولية في الدول النامية، وتناول في المبحث الأول منه المفاهيم المتعلقة بالنقود والاحتياطيات الدولية والسيولة الدولية وعناصرها المختلفة واحتمالات استخدامها. ثم قام المؤلف بتصعيد مستوى التحليل بتناول مؤشرات ومقاييس السيولة الدولية على النطاق العالمي وعلى مستوى البلدان الرأسمالية المتقدمة ومستوى البلدان النامية. ثم اختتم هذا الجزء بتحليل علاقة الاحتياطيات الدولية بسعر الصرف وتطور هيكل السيولة العالمية.

وفي المبحث الثاني من الباب الثاني تناول المؤلف العوامل المحددة لطلب البلاد النامية على الاحتياطيات الدولية. وفي رأي المؤلف، إنه بخلاف تأثير مستوى الدخل القومي، فإن هناك عشرة أمور تؤثر في هذا الطلب، وهي:

1 ـ حجم قطاع التجارة الخارجية وأهميته.

2 ـ درجة التركز السلعي للصادرات.

3 ـ حجم الاستثمارات الأجنبية والخارجية.

4 ـ درجة الاحتياط لمواجهة أخطار المستقبل.

5 ـ قدرة الدولة على الاقتراض الخارجي.

6 ـ طرق تسوية المدفوعات الخارجية.

7 ـ اتجاهات شروط التبادل التجاري.

8 ـ مدى عبء الديون الخارجية.

9 ـ تأثير سياسة سعر الصرف.

10 ـ حركات رءوس الأموال قصيرة الأجل.

مبادلة الديون

أما المبحث الثالث من الباب الثاني فقد تناول فيه المؤلف موضوعاً في غاية الخطورة بالنظر إلى تأثيره الجهنمي في منجزات نضال التحرر الوطني لدول العالم الثالث، وهو موضوع مبادلة الديون بأصول القطاع العام Debt for Equity Swaps وعلاقة ذلك باحتياطيات البلد وبعمليات الخصخصة Privatization، حيث إن تلك المبادلة تتم في الدول النامية المدينة التي قبلت مبدأ بيع قطاعها العام. ويعتقد المؤلف،أنه إذا كانت الخصخصة تمثل رؤية غربية لعلاج أزمة تراكم رأس المال والنمو بدول الغرب الصناعي، وهي رؤية صاغها التيار النيوكلاسيكي في علم الاقتصاد الرأسمالي وثبت فشلها الذريع في هذه الدول في وضع نهاية للركود الاقتصادي، فإن عمليات الخصخصة التي تطبق الآن في الدول النامية والدول التي كانت اشتراكية لم تكن وليد فكر اقتصادي داخلي أو صدى لضرورات موضوعية محلية بقدر ما كانت وليدة الشروط التي حددها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي في سياق التمهيد لإعادة جدولة ديون هذه البلاد طبقاً لقواعد نادي باريس ونادي لندن. وقد أوضح المؤلف ببراعة شديدة، أنه لئن كان أنصار مبادلة الديون بأصول القطاع العام يدافعون عن هذه المبادلة على أساس أنها تسهم في تسوية جانب من ديون البلد دون أن يضطر لاستخدام احتياطياته في هذه التسوية، إلا أن المؤلف يؤكد، عبر تحليله المنطقي، أن هذه المبادلة سوف تؤثر تأثيراً سيئاً في احتياطيات البلد في الأجلين المتوسط والطويل، وقد تستنزف هذه الاحتياطيات، وتوقع البلد مرة أخرى في فخ المديونية الخارجية. وقد دعم هذا الجزء من الدراسة بمتابعة دقيقة إحصائية لعمليات المبادلة التي تمت في السنوات الأخيرة في عدد من البلاد النامية التي فرطت في بيع قطاعها العام للأجانب.

ويختتم المؤلف الباب الثاني بمبحث رابع عنوانه "نحو إدارة سليمة للاحتياطيات الدولية بالبلاد النامية" في ظل تضاؤل فرص الاقتراض الخارجي. ويرى المؤلف أن أسس هذه الإدارة تقوم على ثلاثة محاور أساسية هي:

1 ـ تحديد مستوى الحجم "الطلب" الأمثل على الاحتياطيات الدولية.

2 ـ تحقيق التوليفة المثلى لعناصر الاحتياطيات الدولية.

3 ـ رسم سياسة سليمة لإدارة هذه الاحتياطيات واستثمارها.

ولعل أهم ما يطرحه الكتاب في نهاية هذا المبحث، هو التذكير بحقيقة ضآلة فاعلية سياسة الاحتياطيات الدولية لمواجهة الصدمات الخارجية المستمرة وتصحيح العجز الهيكلي في ميزان المدفوعات. فتلك أمور لن تحسمها الأدوات النقدية والمالية ولكن التنمية المستقلة الجادة التي تؤدي إلى بناء الهيكل الإنتاجي المتنوع وتوسيع السوق المحلية وتحقيق الاعتماد على النفس. وهي أمور تقتضي إعادة النظر في مجمل ممارسات وسياسات التنمية في البلاد النامية.

وفي الباب الثالث والأخير الذي خصصه المؤلف لمناقشة قضية الاحتياطيات الدولية لمصر، استخدم المؤلف أدوات التحليل التي طبقها والنتائج التي توصل إليها عبر صفحات الكتاب، لكي يؤكد مقولة مهمة، وهي أن الاحتياطيات الدولية المبالغ في حجمها لاتمثل نجاحاً لسياسات الإصلاح الاقتصادي وبخاصة إذا كانت قد تراكمت في ظل ركود اقتصادي وبطالة متزايدة وخفض مستمر في مستويات المعيشة. وفي هذا الجزء من الكتاب استخدم المؤلف أسلوب تحليل التكلفة والمنفعة Costbenifit analysis لكي يحدد، من وجهة نظره، أفضل الطرق لاستخدام الفائض من هذه الاحتياطيات.

وبعد...

إن هذا الكتاب يمثل مساهمة جادة من المؤلف الذي عودنا دائما على اقتحام المجالات غير المطروقة في البحث. وكتابه هذا يعد إضافة ثمينة للمكتبة العربية في فهم إحدى القضايا المهمة والمهملة في البحوث الاقتصادية العربية.

 

رمزي زكي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب