العرب .. والفرنكوفونية

العرب .. والفرنكوفونية

حديث الشهر

مناسبة مهمة للتأكيد على هويتنا وثقافتنا، تلك التي يتيحها انعقاد أول مؤتمر في القرن الواحد والعشرين للفرنكوفونية في عاصمة عربية، زفي مثل هذا الوقت الذي باتت فيه التساؤلات تطرح بشكل صارخ حول غول العولمة الشرس، فإن "حوار الحضارات" وهو العنوان الذي تك اختياره لهذا المؤتمر، يعد بديلا صالحا للهيمنة والسطوة، شرط أن يكون الحوار متكافئا وملخصا

  • موجات الغزو فشلت طوال التاريخ في محو ثقافتنا والعرب أثبتوا قدرة فريدة على امتصاص الغزاة وتذويبهم
  • دعم فرنسا للتيار الفرنكوفوني في المغرب العربي يتناقض مع عم اعترافها باللغات الباسكية والكورسكية داخلها
  • نحن أمام مفترق طرق سلاحنا الأساسي فيه الهوية والثقافة

تستضيف العاصمة اللبنانية بيروت هذا الشهر قمة الدول الفرنكوفونية. ومما لا شك فيه أن هذا الحدث ينطوي على أهمية كبيرة بالنسبة للأشقاء اللبنانيين. وتعود هذه الأهمية إلى عوامل عدة. فأولا سيحضر القمة ثلاثون رئيس دولة، وهو أمر لم يحدث في تاريخ لبنان المعاصر، بما يعنيه ذلك من فتح الباب أمام تعريفالعالم بقضايا لبنان الملحة، سواء على مستوى تحديات البناء التي يواجهها لبنان حكومة وشعبا. وثانيا، سيعني تنظيم القمة أن السلام قد استتب نهائيا في لبنان، بما يعنيه ذلك من مزيد من انفتاح لبنان على العالم وإظهار مدى التقدم الذي تحقق على الأصعدة كافة، وإعادة الاعتبار المعنوي والثقافي والدبلوماسي للبنان بين دولا لعالم. وثالثا، سيثبت تنظيم لبنان للقمة أنه عاد مجددا بوتقة حضارية تنصهر فيها تقاليد وأديان مختلفة، وهو أمر ينسجم في ذاته مع الشعار الذي اختارته لنفسها قمة الدول الفرنكوفونية، أي " حوار الحضارات". إضافة إلى الإطار الأهم، وهو أنه أول مؤتمر لقمة الفرنكوفونية ينعقد في القرن الحادي والعشرين، وسيواجه قضية جديدة في المجتمع الدولي وهي قضية العولمة، كما جاء على لسان الأمين العام للمنظمة الدكتور بطرس غالي في المقابلة المنشورة معه في هذا العدد من العربي، والتي أكد فيها "أن التعددية هي التي ستحمي السيادة الوطنية، فنحن لا نقول أننا ضد اللغة الانجليزية، أو ضد الثقافة الأمريكيةن إننا ننادي بأنه إلى جانب اللغة الإنجليزية وبجانب اللغة العربية، فلتكن هناك لغة ثالثة، أو لغة رابعة، أي أن المبدأ التعددية اللغوية، والتعددية الثقافية، ونحن نرى أنه من خلال تلك التعددية نستطيع أن نتجنب سيطرة دولة واحدة !"

نموذج للتسامح

والواقع أن إدراكنا لأهمية الحدث بالنسبة للأشقاء اللبنايين هو ما دفعنا إلى تخصيص كامل ملف هذا العدد من مجلة العربي لموضوع الفرنكوفونية. وقد تضمن الملف مقالات عدة. لكن التباين الحاد للآراء الواردة فيه - وهي بالمناسبة تعبر عن آراء أصحابها وليس عن الموقف الرسمي لمجلة العربي - يدفعنا إلى طرح بعض الملاحظات حول موضوع الفرنكوفونية، خاصة تلك الجوانب المتعلقة بجدل وصراعات الهوية.

فبعض المتحمسين للفرنكوفونية يذهبون بعيدا في الدعوة لهان وأحيانا يعتبرونها: "تتضمن القيم الإنسانية والكونية الرائعة للثقافة الفرنسية، وتشكل بجوهرها نموذج انفتاح وتسامح. وبهذا فهي نموذج لم يعد ملكا لفرنسا وحدها، بل تجاوز الحدود الفرنسية، وأصبح تراثا إنسانيا ومنهجية حضارية. قد نتحدث عن مقومات الثقافة الفرنسية، أو الأمريكية، أو العربية، أو الروسية أو غيرها، لكن للثقافة الفرنكوفونية مقومات وأبعاد من نوع آخر، فالأمر يتعلق يمختبر ثقافي حقيقي على امتداد الكرة، وبديناميكية تألق وحوار، وبتكامل قيم حضارية وافدة من القارات الخمس نستطيع أن نكون عربا .. فخورين بحضاراتنا ومتجذرين بعمق في ثقافتنا، وملتزمين عمليا بقضايا دولنا وفي الوقت نفسه متبنين للفرنكوفونية منهجية حضارية وثقافية وسياسية واقتصادية"

(منى معضاد، "لبنان سفير فوق العادة للفرنكوفونية في العالم العربي"، النهار، عدد 26 يناير 2001).

ويستشهد هؤلاء كثيرا بالرئيس اللبناني الراحل شارل حلو عندما قال: "ليست الفرنكوفونية إمبريالية لغوية أو سياسية، إنما هي الوسيلة الفضلى لحوار الثقافات". بل إن مفكر بارز مثل وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة - وهو صديق ومثقف كبير لا يمكن لأحد أن يشكك في عروبته - يؤكد أن: "الفرنكوفونية ترمي إلى توطيد العلاقات بين مختلف البلدان الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسيةن وإلى ترسيخ التواصل فيما بينها في مختلف المجالات وخصوصا منها الثقافة، وإلى بناء تضامن حقيقي في مواجهة التحديات المحدقة. كما أن الفرنكوفونية، التي كانت ولا تزال مبينة على مبادئ الانسانية والحرية والأخوة التي ترمز إليها تاريخيا الثورة الفرنسية، يمكن أن تؤدي، عن طريق هذا التواصل، إلى حيث البلدان الفرنكوفونية على التمسك بالمبادئ الدمقراطية الراسخة وعلى بناء دولة القانون التي تطمح إليها. إن انعقاد القمة الفرنكوفونية التاسعة في بيروت تحت عنوان "حوار الثقافات" يعني الكثير، لا سيما وأن لبنان، أكثر من غيره من الدول والمجتمعات الفرنكوفونية لديه ما يغني النقاش في هذه القضية المحورية في عالمنا المعاصر، وله رسالة في هذا النقاش في هذه القضية المحورية في عالمنا المعاصرن وله رسالة في هذا الشأن، يوصلها إلى عالم اليوم الذي ترسم حدوده العولمة ويحمل في طياته بعض الشوائب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، يأتي حوار الثقافات ليكون المنهج الكفيل بردع هذا المخاطر والشوائب وليضفي بعضا من الانسانية والقيم الرحيمة في ديناميت تكاد تجرف كل شيء في طريقها".

والحقيقة أن طرح الفرنكوفونية على هذا النحو ينطوي على قدر غير قليل من "الطيبة السياسية" التي يمكنأن تفضي إلى مزيد من التشويش في الساحة الثقافية العربية، التي تعاني أصلا من علل لا أول لها ولا آخر.

ويهمنا هنا أن نوضح أنه يتعين علينا بداية، أن نميز بين الفرنسية كلغة وثقافة. يمكن أن نتعلمها طواعية - أو كرها كما حدث للمثقفين في المغرب العربي إبان الاحتلالا لفرنسي - وبين الفرنكوفونية التي تبشر بها أيدويولوجيا و"منهجية حضارية وثقافية وسياسية واقتصادية" فالبون شاسع بين أن نتعلم الفرنسية باعتبارها أداة لاكتساب المعرفة، أو لمخاطبة "الآخر والتواصل معه، وبين أن يطالبنا البعض البعض بأن نتخلى عن لساننا، وقيمنا وثقافتنا لننضوي عن طيب خاطر تحت ظل ثقافة خلاسية لا تمت بصلة لعناصر هويتنا من ثقافة وإرث روحي ونسيج حضاري ومصالح وطنية.

ومن المفيد هنا العودة إلى تاريخ حتى لا تغشى عيوننا شعارات "الحرية والإخاء والمساواة". والواقع أن الاستعمار الفرنسي كان يختلف كلية في منهجيته عن أساليب كل القوى الاستعمارية الأخرى. فالاستعمار البريطاني على سبيل المثال كان يركز في حكمه لمستعمراته على نخب محلية تتشرب الثقافة البريطانية لكنها تبقى جزءا من المجتمع المحلي. لكن الأمر مع الاستعمار الفرنسي كان مختلفا. فقد كان ناموسه هو استخدام أبشع أنواع القسوة والقهر من أجل مسح الهوية الثقافية للمستعمرات، بما في ذلك إخراجها من إرثها الروحي وعاداتها وتقاليدها وإجبارها على ابتلاع لسانها والتحدث بالفرنسية، أي باختصار جعلها تتماهى مع المستعمر من موقع التابع الذليل.

ويعلمنا التاريخ أيضا، أن العرب تعرضوا على امتداد تاريخهم لموجات من الغزاة من الشمال والشرق والغرب، لكنهم ظلوا عربا بفضل لسانهم وثقافتهم وإرثهم الحضاري، وأثبتوا قدرة فريدة عل امتصاص الغزاة وتذويبهم. السلاجقة اجتاحوا المشرق وسيطروا على مساحة ضخمة من الأرض العربية، وكذلك فعل البويهيون، والطولونيون، والمغول، والتتار والصليبيون. وأمضى العثمانيون أربعة قرون جاثمين على صدر هذه الأمة، لكنها صمدت وحافظت على وجودها بفضل ثقافتها ولسانها. وشهد القرنان الماضيان غزوات إنجليزية وفرنسية وإيطالية حاولت هي الأخرى طمس معالم الهوية العربية، لكن مصيرها لم يكن أفضل من سابقاتها.

نعود إلى فرنسا ونهجها الاستعماري، لنجد أنها حققت نجاحاً كاملاً في مسح هوية المجتمعات المحلية في مستعمراتها الإفريقية. وزعم أن القمع كان أقسى وأعنف في بلدان المغرب العربي، فإن ما فعلته في بلدان القارة الإفريقية عجزت عن تحقيقه في الجزائر وتونس والمغرب، بسبب اللسان العربي والثقافة العربية، وحتى لا تأخذنا الخطابية الجوفاء، تنبغي الإشارة إلى أن جهود فرنسا المحمومة من أجل فرنسة بلدان المغرب العربي لم تذهب هباء، فمازالت هذه المجتمعات تعاني حتى الآن من وطأة الإرث الاستعماري، ومن الشرخ اللغوي واللساني الذي غرسه الفرنسيون عن عمد وسبق إصرار.

وكما يقول الدكتور محيى الدين عميمور، فإنه "رغم كل الادعاءات، فقد كان تحميل الجزائريين هو أهم أهداف الاستعمار الفرنسي، رغم أن الكثيرين يعتقدون أن فرنسا عملت على طمس العربية لتحل محلها الفرنسية، وهو خطأ شائع، لأن فرنسا أرادت كخطوة أولى لترسيخ وجودها، تحطم العربية للفضاء على الإسلام ، على أساس أن الجزائريين لم يعتنقوا الإسلام لأنهم عرب، بل انتسبوا للعروبة لأنهم مسلمون"

نسق وحيد

لقد ولدت الحركة الفرنكوفونية في ذروة سنوات الحرب البادرة، لكنها لم تكسب زخمها الأكبر إلا مع صعود حركة العولمة، وهنا تحديدا بيت القصيد، فقد سلطت العولمة الضوء على قوة الثقافة في القرية الكونية، فكما أزالت الحدود بين الدول والاقتصادات، فإنها أزالت الحدود أيضا بين الثقافات. لكن كثيرين يشعرون أن العولمة ستقود إلى تجريد البشر من هويتهم وإلى عالم "مؤمرك" عليل ووحيد النسق.

ومن أكثر المتضررين من العولمة فرنسا والثقافة الفرنسية. ولعل بروز الدور الفرنسي المناهض للعولمة وهو الذي نفخ الفرنكوفونية زخمها الأكبر في السنوات الأخيرة. وكما تقول الدكتورة أمينة رشيد: " في العقد الأخير الذي شهد سقوط نظام الاتحاد السوفيتي وانفراد أمريكا بالسيطرة على العالم تشعبت الدعوة الفرنكوفونية ووجدت صدى مهما لكل من رأى فيها. بديلاً غير شيوعي لأمريكا على الساحة العالمية، كما رأى البعض الآخر أنها ربما تكون بديلاً للعولمة وتهديداتها بتهميش الآخر، إفقاره، أو حتى نفيه".

لكن الفرنكوفونية تبقى في جوهرها أداة لاحتواء الآخر. يتغير الأسلوب لكن تبقى النظرة الاستعمارية الاستعلانية هي ذاتها. حيث لا ترى في المجتمعات (الفرنكوفونية) سوى أملاك استعمارية سابقة ومناطق نفوذ حالية أو مستقبلية. ويبدو أن فرنسا الاستعمارية كانت أكثر وعياً من القوى الاستعمارية الأخرى. التي شغلها النهب الاقتصادي المباشر للمستعمرات عن النظر إلى الأفق الأبعد، حيث ثبت أن الاستعمار الثقافي هو الأبقى الأبعد، حيث ثبت أن الاستعمار الثقافي هو الأبقى وأن الاحتلال العسكري المباشر والفج ليس سوى مرحلة انتقالية في تاريخ البشرية.

ولنناقش بهدوء الأفكار الأساسية للحركة الفرنكوفونية والفكرة الرئيسية للحركة الفرنكوفونية. إذ تتمحور الفكرة الرئيسية للحركة الفرنكوفونية حول "الرابطة التي تجمع كل الناطقين بالفرنسية"، لكن الفرنكوفونية تتحول على الأرض إلى أداة لتفجير الهويات. فلا يمكن أحد أن ينكر أن هناك تيارا سياسيا لبنانيا لطالما اعتبر اللغة الفرنسية عمقا حضاريا وحجة في إدعاء الخصوصية والتميز التام عن المحيط الوطني، وأحيانا التعالى عليه. كما لا يمكن لأحد أن يفهم الأزمة الجزائرية دون أن يفهم بعمق إشكاليات قضية اللغة والثقافة، لأن الشرح اللغوي الثقافي هو أخطر أسباب الأزمة الجزائرية.

استنارة وانفتاح

أما تصور أن الفرنكوفونية، التي كانت ولا تزال مبنية على مبادئ الإنسانية والحرية والأخوة التي ترمز إليها تاريخيا الثورة الفرنسية، يمكن أن تؤدي، عن طريق هذا التواصل، إلى حث البلدان الفرنكوفونية على التمسك بالمبادئ الديمقراطية الراسخة، فعليهم أن يتذكروا أن الوكالة الفرنكوفونية، حسب لوائحها الداخلية، لا تتدخل في الشئون الداخلية لأعضائها، ولا ترى من وظائفها الرئيسية المبادئ الديمقراطية، والأسوأ من هذا الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية تشكل الكتلة الرئيسية لأعضاء الأسرة الفرنكوفونية. وملف حقوق الإنسان في هذه الدول هو الأسوأ في العالم أجمع.

وفي الوقت الذي يؤكد البعض أن الفرنكوفونية تتضمن القيم الإنسانية والكونية الرائعة للثقافة الفرنسية، وتشكل بجوهرها نموذج انفتاح وتسامح، وبينما يتمثل هدف الوكالة الفرنكوفونية المعلن في تعزيز مكانة اللغة الفرنسية في العالم أجمع، فضلاً عن مساعداتها للغات المحلية المهدة (مثل اللغة الأمازيغية)، فإن الحقائق على الأرض في فرنسا "المنفتحة"، و"المستنيرة" و"المتسامحة" تثير الفزع. ففي الوقت الذي لا تخفي فيه فرنسا دعمها المعلن للتيار الفرنكوفوني في بلدان المغرب العربي، ونخصص ميزانيات خاصة لدعم اللغة (وبالأحرى اللغات) الأمازيغية (لا أقول من أجل تعميق الشرخ اللغوي وعدم الاستقرار هناك)، فإن فرنسا لا تعترف باللغات الباسكية، والكورسيكية والأوكسيتانية داخلها، وتتعامل بعداء شديد مع اللغة العربية.

ولعل التحقيق الذي نشرته صحيفة "اللوموند" الفرنسية في عدد 22 يناير 2001 حول التعامل الفرنسي السلبي مع اللغة العربية يجعل الفرنكوفونية العرب (الذين يتفاخرون بأن تعليم الفرنسية إلزامي في مدارسهم) يستفيقون قليلاً ويدعون فرنسا المستنيرة إلى الترفق. ولو قليلاً، بلغة الضاد، التي هي اللغة الأم الأكثر من خمسة ملايين عربي يعيشون في فرنسا وفي هذا التقرير، قالت "اللوموند" إن كل اللغات الحية تتقدم في فرنسا بينما اللغة العربية هي وحدها التي تتراجع.

ولا يعود ذلك لأن العرب يريدون تعليم أبنائهم اللغة العربية، وإنما بسبب العراقيل الإدارية المتعمدة التي تضعها الإدارة الفرنسية. والدليل على ذلك أن 34 ألف تلميذ يدرسون اللغة العربية في المساجد لأنه لا يسمح لهم بدراستها في المدارس الرسمية. والدليل الثاني، أن ثمانية آلاف طالب فقط هم الذين سيتقدمون هذا العام لامتحان اللغة العربية في التعليم الرسمي بينما حجم الجالية العربية يتجاوز الملايين الخمسة. وتنقل "اللوموند" عن مسئول تربوي فرنسي قوله إن عملية تعليم اللغة العربية في المدارس الرسمية الفرنسية "ليست نزيهة". فعندما يطالب الآباء بتعليم أبنائهم اللغة العربية في المدارس الفرنسية تخبرهم الإدارة بأنها لا تستطيع ذلك لأن هذا الأمر روح الجيتو بين الجالية العربية. وعندما يرسلون أبنائهم للمساجد لتعلّم العربية تتهمهم الحكومة بأنهم "أصوليون". وهكذا يصبح العربي وحده مطالباً بأن "يبتلع" لسانه ويتماهى مع السيد الفرنسي حتى يصبح "صالحاً" من وجهة النظر الفرنسية.

ورغم كل هذه الحدة، فإننا نرحب بالقمة الفرنكوفونية في العاصمة اللبنانية بيروت. وكل ما أردنا قوله أننا أمام مفترق طرق حاد في تاريخنا وتاريخ العالم. وفي مثل هذه المفترقات، تصبح الهوية والثقافة هما سلاحنا الأساسي في التعامل مع العالم م حولنا. فهناك ثلاثمائة مليون عربي مقابل مائتي مليون فرنكوفوني. والتنوع الحضاري، واحترام ثقافة الآخر، شرطان أساسيان لإعادة التوازن إلى العالم الذي اختل عندما أعلنت حضارة واحدة هيمنتها الكلية وسعت إلى طمس وإلغاء الثقافات الأخرى.

وإذا كنا نعترف بأن الفرنكوفونية باتت تتصدر الخطوط الأمامية في المعركة ضد العولمة الأنجلوساكسونية، فإننا سنسقط في فخ العولمة ذاته، عندما نتبنى الدعوة الفرنكوفونية لأننا ببساطة لسنا فرنكوفونيين. وعندما نحاول إيهام أنفسنا بذلك، فإننا فقط نعيد إنتاج نموذج مسخ لثقافة هجين لا هي بثقافة عربية مستنيرة تحقق شروط نهضتها العلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا هي بالثقافة الفرنسية العظيمة التي حققت نهضتها بالفعل عبر قرون عدة، منذ أن دعت إلى الحرية والإخاء والمساواة، ومن ثم نهرب من عالم مؤمرك إلى عالم مفرنس، ونبقى نحن الضائعين.

وبالتالي، فإننا نؤيد تماما الشعار الذي رفعته القمة الفرنكوفونية في بيروت، أي "حوار الحضارات" فإذا كان قد كتب علينا أن نخوض معركة العولمة فيجب أن نخوضها من موقع الشريك والند، وليس من موقع التابع.

فهناك فرق بين الانفتاح الثقافي على الآخر - بالتثاقف بالمعنى الدقيق - وموقف الاجتياح والهيمنة . وعلى العرب في بيروت أن يطالبوا باحترام لغتهم وثقافتهم بصفتهم هذه. ففي هذا فائدة للعرب، وللحركة الفرنكوفونية ذاتها لأنه في ظل هذه التنوع والاحترام المتبادل بين الثقافات المختلفة، يبزغ أمل ظهور بين الثقافات المختلفة، يبزغ أمل ظهور حركة إنسانية جديدة، تتبنى المبادئ الإنسانية المطلقة، وحدة التنوع البشري، كرامة الفرد واحترام حقوقه الإنسانية والثقافية، تحكيم العقل كأداة للتصالح بين الناس، حق الاختلاف الثقافي ونبذ كل أشكال العنصرية والفقر، والتضامن الإنساني وردم الهوة بين الشمال والجنوب وعندما نفعل ذلك، فأننا نكون قد استفدنا حقاً من قيمة الدول الفرنكوفونية.

 

سليمان العسكري