دفاعا عن صلاح الدين.. سطور في فقه التاريخ

دفاعا عن صلاح الدين.. سطور في فقه التاريخ

بقلم: عطية فتحى الويشي

لقد درجنا على إيلاف مجلة "العربي".. منبرا حيويا مرنا، تتسع حدوده الفكرية حتى تشمل أولئك المخالفين لها في بعض الرؤى والخلفيات.. وإنا لنحمد للخطوب جميلها..! فما ألم بنا من نوائب مروعة.. قد أوجد نوعا من الإحساس -لدى المخلصين- بوحدة المصير، وبحتمية التفاهم والتواؤم بين الفكرين: القومي والإسلامي، باعتبارهما في الحقيقة اتجاهين في نسق حضاري واحد،

وإن النيل من رموزنا التاريخية على نحو ما نيل من صلاح الدين.. وفي ظروف أعيانا البحث فيها عن قدوة صادقة وأسوة طيبة.. بعيدا عن صخب المهرجانات الداوي.. وضجيج الشعارات الفضفاضة والمقالات الجوفاء.. إنما ذلك ضرب من السفسطة وسوء الفقه بتاريخ وواقع أحوج ما يكونان إلى وعي واستيعاب لأبعاد حوادث تجري في إطار الجهد البشرى الذي لم يسلم أبدا من النقص والتعثر والتقصير.!

ندلف إلى مقال "العربي" المنشور بعددها الثاني والأربعين بعد المائة الرابعة، الموسوم بـ "صلاح الدين.. نظرة مختلفة".. ذلك الذي أسهب كاتبه في المقدمة حتى أوشكت أن تأتي على نصف ما كتب! دون الخوض في صلب الموضوع. فالكاتب في موضع يلمح إلى عدم رغبته في الإطالة على القارئ، هذا الأخير الذي تاه بين سطور المقدمة لا يعرف ماذا يراد بها؟ أيراد الانتصار لنور الدين محمود على حساب صلاح الدين؟ أم يراد الانتقام من صلاح الدين على حساب نور الدين؟!

لقد بدا كاتبنا حسن الأمين انتقائيا في استقاء معلوماته من مصادرها التي كانت في أغلبها فرعية.. فضلا عما وقع فيها من أخطاء تتعلق بإغفاله ثبت مراجعه، وتوثيق إحالته.. ومما يؤكد ذلك : الفقرة التالية التي نبدأ بها مداخلتنا حيث نسبها الكاتب إلى ابن الأثير، والعبارة بنصها ليس لها أصل في "الكامل" ولا في غيره من كتب ابن الأثير..!

قال كاتبنا: "يقول ابن الأثير: وكان المانع لصلاح الدين من غزو الإفرنج الخوف من نور الدين، فإنه كان يعتقد أن نور الدين متى زال عن طريقه الإفرنج أخذ البلاد منه، فكان يحتمي بهم ولا يؤثر استئصالهم، وكان نور الدين لا يرى إلا الجد في غزوهم بجهده وطاقته. فلما رأى إخلال صلاح الدين بالغزو وعلم غرضه تجهز بالمسير إليه، فأتاه أمر الله الذي لا يرد".. ويتوقف الكاتب متسائلا.. من هو الجدير بالتكريم، أمن يرى الجد في غزو الإفرنج أم من يحتمي بهم على هذا الجاد؟ بل أتساءل أمن يحتمي بالإفرنج هذا الاحتماء جدير بالتكريم؟ أ. هـ

قلت: مما لا يخفى علينا قصور جل مؤرخينا القدامى في ميدان فلسفة التاريخ فغاب عنهم ربط الحوادث - حتى المتناسق منها - ببعضها، ودرجوا على تقديم الحوادث مجردة يفتقر أغلبها إلى الربط السليم ويعوزها التصويب والتهذيب..! "ثم إذا تعرضوا لذكر دولة، نسقوا أخبارها نسقا، محافظين على نقلها وهما أو صدقا. لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها، وأظهر من آياتها ولا علة الوقوف عند غايتها.. أما ذكر الأحوال العامة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أس المؤرخ، تنبني عليه أكثر مقاصده، وتتبين به أخباره".

وما ذكره ابن الأثير ومن نقل عنه لا يعدو أن يكون وهما للأسباب الآتية:

أولا: أن مؤرخينا لم يرصدوا أي إنذار أو تحذير سابق لصلاح الدين من جانب نور الدين محمود، فكيف يعلل أولئك اجتهاد صلاح الدين بالتباطؤ والشروع في شق العصا، مما حدا بنور الدين إلى التجهز تو ذاك لمعاقبته وتأديبه؟!

فكلا الرجلين لم يكن بينهما إلا الحب والمودة حتى آخر عهدهما، فلقد خرج صلاح الدين سنة 568 هـ / 1173 م إذعانا لأمر قائده بالتوجه لتنفيذ الأمل القديم بيد أن عوامل كثيرة حالت دون لقاء الرجلين، ولعل أبرزها:

أ - حركات التمرد النشطة من جانب فلول الباطنيين وأشياع الفاطميين المنتشرين في طول البلاد وعرضها.. وما كانوا عليه من أمر حكيم في شأن الانفصال وتدبير الاغتيالات لرموز الوحدة في مصر.. فلم يكن قد زال خطرهم بالقدر الذي يسمح لصلاح الدين بإنفاذ أمر قائده على الوجه الأكمل، وهو مطمئن إلى أمان ظهره من ذلك الخطر الذي يتهدد جبهته الداخلية، ولم تزل ناره مستعرة حتى بعد وفاة نور الدين.!

ب - قرابة صلاح الدين.. الذين كانوا بمثابة غصة في حلقه، ومصدر إيلام له، وتعكير لصفوه.. أولئك من طمعهم وتعلقهم بالدنيا وتطلعهم إلى خلافة صلاح الدين.. قد قالوا شيئا في نور الدين محمود.. تحريضا لصلاح الدين.

فلقد شقي بهم كثيرا وتعب من تصرفاتهم وسوء مشورتهم،! ولقد أفضى صلاح الدين بشيء من هذه الهموم.. نقلها عنه ابن شداد فقال: حكى لي السلطان قال : كان بلغنا عن نور الدين أنه قصدنا بالديار المصرية وكانت جماعة من أصحابنا يشيرون بأن نكاشف ونخالف ونشق عصاه، ونلقى عسكره بمصاف ونرده إذا تحقق قصده، وكنت وحدي أخالفهم وأقول لا يجوز أن يقال شيء من ذلك، ولم يزل النزاع بيننا - بين صلاح الدين وأصحابه حتى وصل الخبر بوفاته".

"فأولئك الأذناب حفزهم الخوف على أنفسهم وعلى ما في أيديهم.. على الإسراع بالعودة إلى مصر تجنبا للقاء نور الدين، ووجد صلاح الدين نفسه في حرج شديد فإذا هو في ذلك إذ بلغه نبأ مرض أبيه مرض الموت، فتعلل به وبعث يقول إنه يخاف أن يحدث حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم" فتأثر لذلك نور الدين ولم يبدها "والأغلب أنه قدر ظروف صلاح الدين وعذره وقال لرسوله: حفظ مصر أهم عندنا من غيرها".

ثانيا: أن صلاح الدين لم يكن رجل دنيا ولا شغوفا بمنصب، ولا متعلقا بملك، فبينما هو راجع من غزواته إلى دمشق "وجد الصفي بن القابض" وكيل الخزانة وقد بني له دارا بالقلعة هائلة مطلة على الشرفة القبلية، فغضب عليه وعزله. وقال: إنا لم نخلق للمقام بدمشق ولا بغيرها من البلاد، وإنما خلقنا لعبادة الله والجهاد في سبيله وهذا مما عملته مما يثبط النفوس، ويقعدها عما خلقت له"

فأي ملك ذلك الذي يخشى صلاح الدين عليه من نور الدين..؟! إن كلا الرجلين ظاهرة فريدة في عصرهما.. فلقد كانا من شدة الإيمان، وقوة الأخلاق، وأمارات الزهد، وحسن تدبير الأمور، بحال تقطع سبل النفرة والخصومة أو العداء بين الرجلين.

وإنما الذي كان بينهما مجرد اختلاف في وجهتي نظر كل منهما.. فنور الدين رحمه الله وهو بالشام كان يرمي بضم مصر في المقام الأول إلى وضع الصليبيين بين فكي كماشة فيتمكن منهم ويستأصل شأفتهم، بيد أن صلاح الدين - كما يقول الدكتور حسين مؤنس - "قد أهمه أمر ترتيب مصر أولا، وصرف في هذا همه فلم يتعاون معه في هذه الغاية التعاون الكامل" ولا يقدح في صلاح الدين أن يجتهد برأيه فيخطئ لدى أستاذه ومعلمه سيما أن كلا الرجلين قد بلغ شأنا من الحكمة "ولكن مؤرخينا يغلب عليهم سوء الظن في طبائع البشر، ولا يكادون يستبعدون على أحد خيانة".

وأي عصيان وإفساد للخطط، بل أي بهتان ذلك الذي رمى الكاتب به صلاح الدين، اعتمادا على مقولة تفرد ابن الأثير بتوهمها وروايتها من وحي خياله الذي اختلجت به مشاعر العداء لبني أيوب وجاء نفر بعده من المؤرخين فأخذوا عنه دون تثبت أو تمحيص، !.. وتلك آفة لم يسلم المؤرخون منها - إلا من عصم الله - قال ابن خلدون "إن الأخبار إذا اعتمد فيها على النقل فقط ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب فيها بالشاهد والحاضر بالذاهب، فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلة القدم والحيدة عن جادة الصدق".

ثالثا: أن صلاح الدين لم يكسر قط أوامر قائده وأستاذه.. فما انفك ساعة عن مهاجمة الإفرنج كلما تيسر له ذلك ولكنها كانت بمنزلة ضربات سريعة، ثم ما يلبث أن يعود، ولقد خرج صلاح الدين بالفعل مرتين - 567، 568 هـ إلى بلاد الكرك والشوبك، إنفاذا لأمر قائده نور الدين وجرى بينه وبين الإفرنج منازلات بعد حصارهم بيد أنه لم ينل منه قصدا وعاد.

من ضد من؟!!

"ضد الخليفة".. ذلك عنوان فرعي، أفسح تحته كاتبنا جبهات متعددة للحرب على صلاح الدين.. فمن رمي بالأثرة.. إلى الانتقاص من نصر حطين.. ومحاولته صرف العقول وإعماء البصائر عن القيمة الدينية لتحرير القدس.. وانتهاء بتصوير صلاح الدين بالآبق الخئون لأمته، المتمرد على الخليفة العباسي أحمد الناصر.. إرضاء للصليبيين، وخلال ذلك كله يضغط كاتبنا على العبارات ويشد إيقاعها.. مثل قوله! "إن ما فعله صلاح الدين شيء لا يستطيع الإنسان تصور وقوعه، ولكنه وقع".. إلى مثل هذه العبارات المفعمة بالانفعال.. والتي تحيد بالمقال عن إطار الموضوعية.!!

فمن يرغب لشمس الحقيقة أن تشرق، فتبدد ما اكتنف حقاب تاريخنا من غبش وغيوم.. لا بد أن يتخلى عن رذيلة التلكؤ حول نصوص بعينها فيها ما في ظلمات الغفلة وحلكة الالتباس..!

وفقيه التاريخ حين يواجه نصاً أحادي المصدر.. حينئذ يصير النظر فيه والحكم بصدده مخاطرة علمية وأخلاقية لا طاقة للضعفاء بها.. فليس بمستساغ أبدا أن يلتمس للناس عثراتهم، ويرموا بما ليس فيهم دون تبصر أو روية.. وقد أفضوا إلى ما قدموا.. إنه لأمر جلل.!!

إن لعملية تحرير القدس قيمة معنوية لا تقاس بزمان ولا مكان، ولا ينبغي بحال أن نعزلها عن سياقها الروحي ومغزاها الديني العميق الذي ينمي الشعور بالمسئولية تجاه هذا الدين، ويقوي ملكات الصمود والتصدي والاندفاع الذاتي استكمالا لمسيرة التحرير..!

وإذا سلمنا جدلا بتجريد القدس من قدسيتها.. فإن الصليبيين لم يكونوا مسلمين بذلك، فالقدس بالنسبة لهم هي المقوم الأساسي لغاراتهم على أمتنا.. وبها استشاط قادة الإفرنج مشاعر شعوبهم فخرجت عن بكرتها نحو بلادنا وإخلاء المسلمين من سكتهم.. نفاذا إلى مزارهم المقدس.. أليس كذلك؟!

ويزعم كاتبنا: "أن صلاح الدين بادر إلى التفاهم مع الصليبيين وإعلان وقف القتال بينه وبينهم، للتفرغ لقتال جيش الخلافة بالتعاون بينه وبين الصليبيين لمقابلة هذا الجيش"

من ممن أرخوا لماضينا تدوينا وتفسيرا قال بمثل ما قال أخونا الكاتب؟! لقد أعيانا البحث فيما انبسطت له أرفف كتب التاريخ.. فلم أقف على أثر لهذه الدعوى الباطلة..! فهل للكاتب "الأمين" أن يدلنا على من بث إليه بهذا الأمر الشائن الخطير.؟!

ولما لم يجد الكاتب ما يعضد كلامه وينهض بموقفه.. التجأ إلى ما كتبه العماد الأصفهاني في شأن طاعة صلاح الدين المخلصة للخليفة الناصر.. ثم يجتهد في الوقت ذاته بتكذيب الأصفهاني متهما إياه دون سند أو أثارة من علم، بالوهم والتدليس.!

وسوف ندع ما اشتجر بين كاتبنا وعماد الأصفهاني.. لنستعرض ما نقله ابن كثير حول علاقة صلاح الدين بالخليفة العباسي.. "وكتب الخليفة - 583 هـ إلى السلطان يعتب عليه في أشياء، منها أنه بعث إليه في إشارة الفتح بواقعة حطين شابا بغداديا كان وضيعا عندهم.. وأرسل بفتح القدس مع نجاب، ولقب نفسه بالناصر مضاهاة للخليفة. فتلقى - صلاح الدين - ذلك باليسر واللطف والسمع والطاعة. وأرسل يعتذر عما وقع. وقال إن الحرب كانت شغلته عن التروي في كثير من ذلك وأما لقبه بالناصر، فهو من أيام الخليفة المستضيء، مع هذا فمهما لقبني بها أمير المؤمنين، فلا أعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب، مع غناه عنه. "ولما مات صلاح الدين- 589 هـ - "وصل إلى بغداد الرسول وفي صحبته لأمة الحرب التي لصلاح الدين وفرسة ودينار واحد وستة وثلاثون درهما ولم يخلف من المال سواها".

أما عن أمر الصلح مع الصليبيين، فلم يكن لصلاح الدين به ود ولا استراحة، ولم يكن مختارا في إبرامه بل "وقعه كراهية" وباستقراء غير مجهد لتلك الحقبة من تاريخنا نخلص إلى أن صلاح الدين ومنذ توليه أمر مصر.. لم يزل بمناوشة الإفرنج دءوبا.. وحتى بعد انتصاره عليهم - أي عند الصلح - لم يكن مهادنا، بل جرى "هذا كله وسوق الحرب قائم، والقتال عليهم لازم".

ونرصد في هذا المقام ما سجله ابن الأثير عن صلاح الدين بشأن الصلح: "وأرسل صلاح الدين إلى الملك العادل في تقرير هذه القاعدة، فأشار هو وجماعة من الأمراء بالإجابة إلى الصلح. وعرفوه ما عند العسكر من الضجر والملل، وما قد هلك من أسلحتهم ودوابهم، ونفد من نفقاتهم، وقالوا إن هذا الفرنجي إنما طلب الصلح ليركب البحر ويعود إلى بلاده، فإن تأخرت إجابته إلى أن يجيء الشتاء وينقطع الركوب في البحر، نحتاج إلى البقاء ها هنا سنة أخرى، وحينئذ يعظم الضرر على المسلمين. وأكثروا القول له في هذا المعنى، فأجاب حينئذ إلى الصلح". وتجدر في هذا السياق إشارتنا إلى ضرورة تحرير المصطلحات التاريخية من مضامينها المغلوطة.. فالإفرنج هم الذين طلبوا الصلح وليس صلاح الدين! وبرغم ما ذكره ابن الأثير وغيره عن مبررات قبول الصلح.. فقد كان رأي صلاح الدين وموقفه من مصالحة الإفرنج جلي التمنع والكراهة.. فهو يعلم ما تكنه صدورهم من خسة وخديعة ونقض للعهود.. وكان مما قاله بصدد الصلح: "متى صالحناهم لا تؤمن غائلتهم، فإنني لوحدث بي حادث الموت.. ما تكاد تجتمع هذه العساكر وتقوى الإفرنج. فالمصلحة أن لا نزال على الجهاد حتى نخرجهم من الساحل أو يأتينا الموت" قال بن شداد: "هذا كان رأيه.. وإنما غلب على الصلح" مما لا يخفى على أولي الألباب: أن صلاح الدين لم يتنازل عن أي من البلاد المحررة.. بل اقتضى أمر الصلح: إقرار الفرنجة على ما بأيديهم من بلاد.. أما المسلمون فلهم ما يقابلها من البلاد الجبلية، وما بينهم من المعاملات فبالمناصفة. ووجه الدلالة على ذلك الأمر - فضلا عما ذكره ابن كثير.. وابن شداد بهاء الدين، وصاحب حماة وغيرهم بهذا الصدد - أن المسلمين إنما كانوا في مركز تفاوضي أقوى نسبيا.. فهم مناط قبول الصلح المعروض عليهم من عدمه، وكان لهم بشأنه الخيار.. ومن ثم فلا مجال لرمي صلاح الدين بما يعف عنه الجادون..!

وإنني بالحق أتساءل: هل من الموضوعية أن ينظر إلى هذا الرمز بذلك المنظار المحدب الأسود القاتم؟! وهل يقتضي فقه المرحلة التي نحياها.. استثارة الدهماء على صلاح الدين دون مبرر منطقي؟! وهل فحص الثوابت يعني إهدارها ونقض أركانها؟! وعلى أي حال نسأل الله أن يهبنا ملكات النخوة والمروءة وصدق التوجه، ونفلح في تجاوز ما يعرض لنا من تحديات معاصرة توشك أن تذهب بريحنا أجمعين!! وأن نحقق لأمتنا ما فرط فيه صلاح الدين - بزعمنا - وعجز عن تحقيقه!! فواقعنا يشهد بتآكل أمتنا من أطرافها. فضلا عن أحشائها الممزعة..!! فهل من مغيث..؟! وفي الأخير أقرر أنني لا أدعي لصلاح الدين العصمة والكمال، ولا ألتمس له ذاتا ملائكية! فكل الخلق دائر بين الخطأ والصواب، بيد أننا نتوق إلى صياغة تاريخنا بعيدا عن نزق العواطف أو جور الأهواء.. فلا ينظر إلى ماضينا بعين الرضا.. فتغفل الأخطاء وتضل العبرة طريقها إلى العقول والقلوب! ولا بعين السخط فتغمط الحقوق، وتجحد المآثر. ويشيع اليأس والإحباط والقعود.. وأغلب ظني فيما ذكرته بأثناء المقال: الكفاء.. والله المستعان.

حطين... معركة الزمان
بقلم: عمر أبوسعد

إن حطين هي واحدة من معارك التاريخ الفاصلة، وهي نقطة الانعطاف الأساسية في الحروب الصليبية، أما ما سبقها من معارك بين العرب والصليبيين فقد كانت غالبا ما تحدث قرب أحد أسوار القلاع والحصون، ولذلك فقد كانت تستغرق وقتا طويلا وجهدا عظيما دونما فائدة تذكر، أما إذا حدث اشتباك في السهول فإن المهزوم غالبا ما كان ينسحب إلى أحد مواقعه المحصنة القريبة، وهذا ما أطال من أمد الحروب الصليبية. ومن الجدير بالذكر أن صلاح الدين قد خاض الكثير من نمط هذه المعارك ونتج عنها تحرير عسقلان وغزة وعكا وغيرها من المدن العربية.

كما يشير الكاتب إلى أن معركة حطين لم تكن فاتحة لتحرير مدن أخرى، حيث يتساءل: "فماذا جرى بعد الانتصار في حطين وتحرير القدس ؟".

أنا سأجيب عن ذلك، فبعد معركة حطين قام صلاح الدين بإخضاع الساحل الفلسطيني ومن قبلها قام بتحرير عكا وتساقطت تحت ضرباته وهجماته القوية مدن الفرنجة وحصونهم، فقد أخذ اللد والرملة، وكذلك جفنة، كما استولى على بيت لحم، والخليل وبيت جبرين والنطرون، ثم حاصر عسقلان وحررها، ثم استولى على غزة. وبعدها قام بالإنجاز الأعظم وهو تحرير القدس ومن ثم سقطت في يده طرطوس وبانياس وجبلة واللاذقية، وقضى على أهم حصون الفرنجة الشمالية، وبعدها سقطت الكرك في يد أخيه الملك العادل، ثم سقطت صفد وكوكب في يده، ولولا بقاء صور في يد الفرنجة لما قامت للصليبية الثالثة قائمة بعد ذلك.

بعد هذا يحدثنا حسن الأمين عن تخاذل صلاح الدين وإعادته لما أخذه من الفرنجة من مدن متناسيا قيام حملة صليبية ثالثة تحالفت فيها أوربا المسيحية ضد الإسلام، فقد وصلت أعداد الصليبيين إلى ما لا يقل عن خمسة آلاف فارس ومائة ألف رجل وذلك إضافة إلى الصليبية الألمانية التي ضمت مائة ألف جرماني، فهل وقوف صلاح الدين في وجه هذه الأعداد والحشود الهائلة، ثم توقيعه معاهدة صلح مع الصليبيين أملاها عليهم إملاء المنتصر بعد العديد من المعارك الطاحنة، هل يعتبر نصرا أم هزيمة ؟ إنها معاهدة صلح تنازل لهم فيها عن شريط من الساحل يمتد من يافا إلى عكا، وقد أنقذ هذا الصلح الإسلام. فصلاح الدين كان يوشك أن يموت والحال لو أنه توفي خلال الحرب - كما كتب القاضي ابن شداد - "لكان الإسلام في خطر".

لقد كان صلاح الدين بطلا عظيما متحليا بأخلاق رفيعة دفعت تشرشل ليقول عنه إنه من أعظم ملوك الدنيا، ودفعت الكاتب الإنجليزي ريد هيجارد إلى القول بأنه أعظم رجل على وجه الأرض. كما يلاحظ الأستاذ نقولا زياده أن الصليبيين كانوا في السنين الأولى من القرن الثاني عشر قد عللوا عظمة عماد الدين زنكي بأن جعلوه ابن الكونتيس ايفا التي اشتركت في الحملة الأولى، وفي زمن الحملة الثانية اعتقدوا أن قلج أرسلان من نسل جرماني شريف، ولكن بعد أن ذاعت شهرة صلاح الدين ظهرت أسطورة تعلل عظمة توماس بكت أحد مشاهيرهم بجعله ابنا لأم عربية. حتى الصهيونية العالمية - وبالرغم من خشيتها من ظهور صلاح الدين جديد - لا تملك إلا أن تعجب بعظمة صلاح الدين، فتسعى لتزوير التاريخ لتجعل منه بطلا من أبطالها.

أو بعد كل هذا بقي أدنى شك بعظمة صلاح الدين وتأثيره الكبير جدا في الحروب الصليبية!

الحقائق لا تشوه
بقلم: عبدو محمد

سأوضح باختصار أبرز الحقائق التي حاول الكاتب تغييبها أو تشويهها:

1 - يقول الكاتب "وماذا كانت نتائج حروب صلاح الدين، لقد انتصر في حطين فتحررت القدس، وإذا أبعدنا قدسية القدس جانبا، فإن تحرير القدس لا يعدو في نتائجه تحرير أية مدينة أخرى في فلسطين".

وهنا نقف عند نقطتين: هما معركة حطين وقدسية مدينة القدس.

أما عن معركة حطين وحروب صلاح الدين فأورد له الفقرة التالية:

"لم يكن للمسلمين قبل انتصارهم في موقعة حطين شبر واحد في أرض فلسطين غربي نهر الأردن، لكنها قد أصبحت بعد صلح الرملة أرضا إسلامية، اللهم إلا إذا استثنينا هذا الجزء الضيق بحذاء الساحل ويمتد من صور إلى يافا، وقد خرج صلاح الدين من هذه الحروب بقوة لا تقهر، وانتشر أتباعه في جميع البلاد الواقعة بين جبال كردستان وصحراء ليبيا".

فهل يعقل بعد هذا أن يهون كاتب عربي مسلم من شأن هذه الحروب وهذه المعركة وهي قد حققت ما حققت أو أن هنالك أمرا آخر دفع كاتب المقال لقول ما قال ؟.

وأما عن إبعاد القدسية عن مدينة القدس فهل يمكن أن يتم هذا بكل بساطة ؟ وهل يصح أن ننظر إليها على أنها مدينة عادية كغيرها، وهل سيتناسى الناس أنها أولى القبلتين وثالث الحرمين ومسرى الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) وموطن السيد المسيح وأنه من أجلها قامت الحروب الصليبية؟

وهنا أسأل الكاتب مرة أخرى : ما الذي دفع أولئك الفرنجة في تلك البلاد البعيدة جدا إلى أن يلحقوا بناسك يدعوهم لتحرير المدينة المقدسة وقبر السيد المسيح فيتبعوه حاملين ما وصلت إليه أيديهم من سلاح يقطعون خلفه القفار والوهاد والجبال، ثم ما الذي دفع عماد الدين ونور الدين وصلاح الدين ومن قبلهم ومن بعدهم ليخوضوا حروبا دامت مائتي عام، والذي دفع بأولئك الرجال المسلمين كي ينحدروا من جبالهم ويخرجوا من قراهم تاركين أرضهم وعيالهم يتبعون أمراءهم ليخوضوا حربا مقدسة أيضا لتحرير أولى القبلتين ومسرى الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم).

2 - ثم يتهم الكاتب صلاح الدين ظلما وجورا بأنه لم يتعاون مع الخليفة في بغداد "أحمد الناصر" يصور ذلك بعبارات اختارها ليكون لها وقع مؤثر في نفوس القراء ويمهد بها لما قال بعد ذلك "إن الخليفة في بغداد أحمد الناصر كان قد أسس جيشا قويا بعدما تخلص من نفوذ السلاجقة، ولما بلغته أنباء الحرب في فلسطين بين الصليبيين والمسلمين صمم على أن يوجه جيشه القوي إلى جبهات القتال هناك لإعانة المجاهدين على التخلص من الصليبيين واسترداد البلاد المقدسة".

ومع أنه يورد نصا للمؤرخ عماد الأصفهاني يبرئ ساحة صلاح الدين من هذه التهمة، إلا أنه يحاول أن يشكك في صحة موقف صلاح الدين، ليصل إلى ما يريد إدعاءه من رفض صلاح الدين التعاون مع الخليفة، مع أن صلاح الدين كان قد خطب للخليفة العباسي حين مات آخر الحكام الفاطميين.

ولنوضح الآن ما أراد الكاتب تغييبه أو تشويهه فيما سبق:

1 - قال الكاتب إن الخليفة أحمد الناصر تخلص من نفوذ السلاجقة وأسس جيشا قويا، ولنعد إلى التاريخ ليروي لنا أن الخلفاء العباسيين في بغداد كانوا قد أصبحوا ألعوبة في أيدي القواد الترك منذ زمن بعيد قبل الناصر هذا، ومع يقيننا بأن بعض الخلفاء العباسيين حاول جاهدا -ومنهم الناصر- أن يعيد عجلة التاريخ إلى الوراء فإن الأمور كانت قد وصلت حد اللاعودة، وصحيح أيضا أن السلاجقة كانوا قد تمزقوا، إلا أن الأتابكة كانوا قد تقاسموا البلاد والولايات ومنهم عماد الدين وغيره، فمن أين جاء هذا الجيش العرمرم يا صاحبي وماذا كان ينتظر ليخوض الحرب المقدسة؟

2 - وأما عن بلوغ أخبار الحرب مسامع الخليفة الناصر فهذا أغرب وأعجب، فمن المعروف أن الحروب الصليبية كانت تدور في بر الشام وبحره قبل ما يقارب المائة عام من معركة حطين وأن أخبار تلك الحروب ومجازرها قد سار بها الركبان فكيف لم يسمع بها الخليفة في بغداد إلا بعد انتصارات صلاح الدين المظفرة وخاصة في حطين؟.

3 - أما عن تصميم الخليفة الناصر إرسال جيشه القوي إلى فلسطين وممانعة صلاح الدين له، فيذكر لنا التاريخ أن الخليفة الناصر كان مشغولا ومهموما وخائفا من خوارزمشاه الذي كان طامعا في بغداد، ولنقرأ النص التالي:

"وكان من أثر تفاقم العداوة بينهما أن اعتقد بعض المؤرخين أن الخليفة الناصر العباسي قد استدعى التتار ليشغل بهم خوارزمشاه حتى يأمن شره، ويحول بذلك دون ما يحدق ببلاده من خطر هجوم جيش خوارزم شاه".

فلا نخدعن بما يروى عن كثرة عساكر الخليفة، وكل ما في الأمر أن الخليفة ذاك سمع بانتصارات صلاح الدين الكبيرة فأراد أن يشارك فيها ولو اسميا، وإذا ما افترضنا أن تلك القوة كانت موجودة لديه، فما الذي كان يمنعه من إرسالها لجبهات القتال ولا سيما أن صلاح الدين كان يخطب باسمه من على منابره.

فيا صاحبي الأمر لا يعدو كونه تبجحا مثلما تبجح المستعصم آخر خلفاء بني العباس حين أرسل يهدد هولاكو، ظانا أنه سيخيفه بقوله : "سأسير لك جيشا من المسلمين ينتظرون إشارتي ليكون أولهم عندك وآخرهم عندي".

4 - ويتهم الكاتب صلاح الدين أيضا بأنه تنازل عن حيفا بعد أن حررها للفرنج فيما تنازل عنه في المهادنة التي وقعت بينه وبينهم مبتسرا أقوال بعض المؤرخين وموحيا بأن ما قاله هو الحقيقة وهو يقصد بالمهادنة صلح الرملة الذي عقده صلاح الدين في حطين مع ملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد، وبعد انتصارات صلاح الدين في حطين بأربع سنوات فما شأن هذا الصلح ؟، ولم قام به صلاح الدين ؟

وهنا أحيل الكاتب والقارئ إلى ما يقوله الدكتور المؤرخ حسن إبراهيم حسن الذي يعتمد على المصادر نفسها التي أورد الكاتب بعضها: "ولما وصل إلى أهل أوربا نبأ سقوط بيت المقدس في أيدي المسلمين، أخذ رجال الدين يدعون الشعوب المسيحية وملوك أوربا لإعداد حرب صليبية أخرى، ولم تلبث أن تدفقت النجدات على صور، واشترك في هذه الحرب ثلاثة من أعظم ملوك أوربا شأنا وهم: فريدريك بار باروسا إمبراطور ألمانيا، وكان على رأس مائة ألف جندي، وفيليب الثاني ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا."

فمن كان ينجد صلاح الدين حينذاك؟، ومن أين تأتيه الإمدادات ومن يسانده أمام هذا الحشد الهائل من الأعداء؟

ولنكمل النص: "وانفرد ريتشارد بمحاربة المسلمين وأظهر من الشجاعة والفروسية ما أثار إعجاب أعدائه فلقبوه قلب الأسد، وقد انتصر ريتشارد أولا على جيش صلاح الدين في "أرسوف" ثم تابع زحفه على "عسقلان" غير أنه لما شاهد بنفسه خرائب قلعتها أدرك أنه أمام خصم عنيد فشرع في بدء المفاوضات التي انتهت بإبرام صلح الرملة سنة 558هـ وأهم شروطه هي:

1 - وقف الحرب بين الفريقين ثلاث سنين.
2 - ترك بيت المقدس بأيدي المسلمين.
3 - أن يقوم الصليبيون بحماية ساحل الشام من صور إلى يافا.
4 - أن يرد المسلمون المخلفات الدينية إلى المسيحيين".

ونسأل من جديد : ما العيب في فرصة أرادها قائد محارب استراتيجي لتنظيم صفوفه وإراحة جنده أمام كثرة الأعداء وحشودهم المتوالية؟.

ولنكمل النص: "ولم تمض سنة واحدة على إبرام هذا الصلح حتى كان صلاح الدين قد حقق أهم أغراضه في الحياة، وهو إخراج الصليبيين من بيت المقدس وإعادة وحدة المسلمين، وقد أنهكت هذه الحروب الطويلة قواه (25 سنة) وأضعفت صحته وأصيب بالحمى وتوفي في دمشق في شهر مارس 1192 م 589 هـ.

هذه هي الحقيقة التي أراد الكاتب تشويهها وشتان بينها وبين ما أورده في مقاله.

5 - ويستمر الكاتب في تخيلاته ومغالطاته التاريخية، فيقول متسائلا: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن صلاح الدين لم يستسلم للصليبيين (كذا) ويتحالف معهم ودخل جيش الخلافة فلسطين وطرد الصليبيين منها ؟ ويجيب: "الذي كان سيحصل هو توحيد البلاد الإسلامية التي في يد الخليفة والتي في يد صلاح الدين".

فإذا كان هذا ما يبكي عليه فقد حققه صلاح الدين ولم يكن في يد الخليفة يومئذ غير بغداد. ولكن لنسأل الكاتب الفاضل بدورنا: ماذا كان سيحصل لو لم يظهر صلاح الدين على مسرح الأحداث وقتئذ؟ وماذا كان سيصير إليه حال البلاد التي ذكرت لو لم ينتصر صلاح الدين في حطين ولم يحرر بيت المقدس؟

6 - وينهي الكاتب حديثه بأن يقول: وأكمل صلاح الدين فعلاته (كذا) بأن اعتبر ما يحكمه من بلاد ملكا شخصيا له كما يمتلك القرى والمزارع، لذلك قسمه بين ورثته.

والحق أن الرجل انتقل إلى ديار الحق دون أن ينبس ببنت شفة عمن سيخلفه ولم يقسم بنفسه الملك بين أبنائه وإخوته وإنما هم الذين تقاسموا الملك بعده، فما ذنبه؟ وأما عن ملكية صلاح الدين للقرى والمزارع والبلاد كلها فأحيل الكاتب إلى الكتب التي ذكرها ليجد على صفحاتها أن صلاح الدين حين مات لم يجدوا في "منطقته" إلا دينارا واحدا وأربعة دراهم، وأن تاجرا دمشقيا تبرع بكفنه، ويذكر ابن شداد وبالحرف "فما مكنا أن ندخل في تجهيزه ما قيمته حبة واحدة إلا بالقرض، حتى في ثمن التبن الذي يلت به الطين."

هذا رد على أهم ما جاء في مقال السيد الأمين. ولا يسعنا أخيرا إلا أن نقول: رحمة الله عليك ورضوانه يا صلاح الدين ونم قرير العين ولا تغضب ولك في الرسل والأنبياء أسوة، فهم أيضا لم يسلموا من سهام النقد والتجريح ويكفيك أن الأعداء يشهدون لك ويشيدون بفضائلك.

 



أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات