الحب بعد الستين

الحب بعد الستين

الذين أوتوا موهبة الحب والقدرة على السمو به إلى عوالم تتنزه عن عالم اللذة والمادة، أكثرهم من أصحاب النفوس الرهيفة الحساسة، وهم الصفوة الذين استطاعوا أن يجسدوا في حياتهم أو في نتاجهم الأدبي الحب كقيمة مطلقة وحلم أبدي يطمح إليه كل كائن. لكنه يبقى مثلاً أعلى لانجده في الروايات الخالدة والقصص الممتعة وأحلام الشعراء المجنحة، ولكن يندر وقوعه بين ظهرانينا.

الحب بهذا المعنى السامي لا أوان له، فهو إرث مشترك بين الشاب والكهل، والمرأة والرجل، مادام ضرباً من التزهد والانقطاع والإخلاص لشخص معين، ولعل الكبار في السن هم أقدر على هذا اللون من الحب، لأن تجاربهم في الحياة جعلتهم يفرقون بين الجنس والحب، ولحاجتهم إلى ملء الفراغ النفسي الذي يشعرون به، والوحدة القاتلة بعد أن أنجزوا مشروعهم في الحياة. يضاف إلى ذلك عمق مشاعرهم بعد أن صفت من نوازع الاندفاع والجنوح، فلا غرابة أن يحب الكهل فتاة صبية، لكنه يحب روحها ويأنس بجمالها الجسدي كصورة لزمن مفقود ولى من عمره، ويؤكد إنسانيته الذاوية، وتمسكه بأذيال الحياة وتحديه الموت الذي يترقبه.

وقد تجد الفتاة الشابة في الكهل بعض ما تفتقر إليه من حنان واستقرار. ونلاحظ ذلك في الآداب العالمية الخالدة، وعلى سبيل المثال نرى الأديب الروسي "تورجنيف" وهو في سن الكهولة، وقد تعلقت به فتاة في الثانية والعشرين، فتترامى عليه، وتسد أمامه منافذ الهرب بجمالها الرائع، إلا أنه آثر أن يبادلها الحب، كما تفهمه روحه، فكتب لها يقول:

"ليس من حقي يا فتاتي أن أغرر بك وأنت في مطلع شبابك، وأن ألقي في روعك لحظة واحدة أني أتمكن من أن أبادلك يوماً حباً بحب، أنا لا أنكر أن جمالك يفتنني، ولكني لو أحببتك فسأرتكب أخس جريمة يمكن أن يرتكبها رجل، لأنني سأحبك لنفسي لا لك، للشهوة التي يثيرها في جسدي المتلهف سحر جمالك، فأعبث بطهارتك، وأستغل براءتك، وأحاول أن أجدد شبابي وحياتي على حساب مستقبلك الغالي الذي أريد أن أصونه، إني أنظر إليك وأعجب بك وأتعذب، لكن واجبي أن أفهم نفسي، ولا أستسلم لإغراء شباب لابد أن يستعجل شيخوختي، فافهمي أن من يناقض سنن الطبيعة يهلك، وأن اقتران الكهولة بالشباب لم يسعد في هذه الحياة أي إنسان، وأننا لم نسمع في عالم الطير والنبات أو الحيوان أن ضعفاً اقترن بالقوة ثم أثمر قوة وبركة وحياة، فقانون الطبيعة هو أن تنجذب القوة إلى القوة، والأمل إلى الأمل، والشاب إلى الشابة كي لاتفسد جاذبية الكون، فالسعادة في الحب لاتنبع من مشاركة في العواطف، بل تنبع من تكافؤ في قوى الصحة والشباب. فاقبلي يا فتاتي هذا الحب الخالص النزيه، وانشدي الحياة مع من هو أهل لك، واسعدي.."

لقد عرف الكاتب "تورجنيف" كيف يضع حداً لنزوة قد تطيح باستقراره لكن ذلك لايعني أن قلبه لم يكن منفتحاً لهذا الحب، ونلمس ذلك فيما أشار إليه برسالته من إعجاب بالفتاة وعذابه بهواها، فالحب المجرد عن اللذة يرافق الإنسان المرهف في كل أطوار عمره، لكنه يتطلب إنساناً يعرف كيف يفرق بينه وبين اللذة.

لمن القلب؟

ليس من شك في أن القدرة على الحب تتناقص بمضي الزمن، وتقدم السنين، وتراكم التجارب، والرؤية العميقة، والإنسان القادر على الحب هو الإنسان الرومانسي، لكن الأيام تبدد كثيراً من رومانسية المرء، والحب أعمى وللشيخ بصيرة، ولكن ماذا عن الرجل والمرأة، أيختلفان في ديمومة الحب؟ وهل للمرأة نزوة في الكبر كالرجل؟

يقال: إن المرأة أكثر تقلباً وأقل ثباتاً من الرجل، لأنها تعيش يومها الحاضر، على الرغم من تمسكها بحبها المنصرم، في حين يتشبث الرجل بالماضي وذكرياته، ويعتقد أن ماضي الحب لايموت. على أن المرأة أكثر مجاهدة من الرجل في إخفاء حبها بسبب كبرها، وشعورها بأنها محبوبة، إنها تطمع أن يحبها الرجل لشيء أغلى من متعة الجسد لكنها لاتستطيع أن تحقق غايتها المثلى إلا عن طريق الجسد، وتلك هي مأساتها.

ونستطيع أن نمثل لذلك بحب الكاتب عباس محمود العقاد وجبران خليل جبران، فقد أحبا امرأة بعينها هي "مي زيادة"، أحبها العقاد وهو في الثلاثين من عمره، كما أحبها كثير من أدباء مصر، وكان سفورها وجمالها قد بهرا هؤلاء الذين يترددون على ندوتها، على أنها كانت توزع نظراتها الناعسة وحديثها العذب على أقرانها دون أن تهب قلبها لأحد منهم.

كان حب العقاد "مياً" خالصاً للروح والوجدان، وقد كتب في حبها قصة "سارة" التي يقول فيها: "استرقتها الأنوثة فليس إلا أنوثة، وليست غواية الجسم عندها كجوع الحيوان يشبعه العلف، ولكنها كرعدة الحمى وصرعة الفرس الجموح.."

ثم جاوز العقاد الخمسين من عمره فكان له نزوة غرام مع فـنانة مـعروفة على الرغم من فارق السن الكبير بينهما، فكان أقل طلباً لوفاء المحبوبة في شبابه.. يقول:

أعفيك من حلية الوفاء

إنك أحلى من الوفاء

أما جبران خليل جبران فقد أحب مياً دون أن يلتقيها، واستمرت المراسلات بينهما سنوات طويلة، وكانت "مي زيادة" في رسائلها تلجم تلميحاته الصريحة للوصال، وتحرص على أن يظل حبهما فوق دنس المادة والجسد، ومن الغريب أن "ميا" لم تمنح قلبها لأحد، فظلت تعيش في آفاق الحب الرومانسي المفعم بالصوفية إلى أن انفجرت في آخر المطاف فأصيبت بصدمة نفسية وانهيار جسدي في نهاية عمرها أحالا نهايتها إلى مأساة حقيقية، وهذا هو الحب السامي الذي لايقدر عليه إلا القلة النادرة من الناس، هو الحب الذي رسم ملامحه الكاتب "اندريه جيد" في روايته "الباب الضيق" ويريد بذلك أن نجهد للدخول في معبدالحب من أضيق ما تسمح به النفس من العلاقات الجسدية مغالبين شهواتنا، ولم يكن ذلك الحب المتسامي الذي وصفه "جيد" جديداً. فالأدب العربي حافل بقصص الحب العذري الذي لم يجف ينبوعه إلا بموت المحب، على أنه يظل حباً من طرف الرجل. صحيح أن المرأة كانت طرفاً فيه، لكنها كانت بالجسد شريكة رجل آخر، ولم يسجل تاريخ الأدب حباً لامرأة نذرت حياتها لمن تحب، على أن ذلك ليس بالمستحيل، ونحن نعرف في حياتنا العامة عشرات من القصص عن نساء أحببن وخاب حبهن فنذرن أنفسهن لذكرى الحبيب الغادر أو الراحل، ولا أعتقد أن النساء أقل وفاء من الرجال، غير أن خيار المرأة لم يكن بإرادتها في الحياة العربية، فهي لاتملك الحق في اختيار شريك حياتها، وإنما أمرها في يد أهلها، فهم يتقون زواجها بمن يشبب بها، وهم ينفرون من الشاب الذي اشتهر بحبها حفاظاً على الشرف، وقد يكون من دواعي افتقار الأدب العربي إلى آثار تخلد المرأة للقيود التي كانت مفروضة عليها، أنها تخجل من رسم مشاعرها ـ تحت تأثير المجتمع ـ نحو من تحب حتى لو كان زوجها، وقد نجد في الأدب العربي قصائد في رثاء الزوجات لشعراء مثل جرير والبارودي، وعبدالمعين الملوحي وكذلك عزيز أباظة وعبد الرحمن شوقي ،الذين نظم كل منهم ديواناً كاملا في رثاء زوجته. كما نعثر على روائع نثرية في رثاء الزوجات كتلك التي كان يكتبها الأديب محمد سعيد العريان في مجلة "الثقافة"، فقد ماتت زوجته وخلفت له ثلاثة أطفال، فكان يكتب في رثائها أروع المقالات الأدبية، فتسيل لها دموع القراء حتى اتهمه الأديب "أحمد أمين" بأنه يعذب قراء المجلة.

هذه الآثار الأدبية تثبت وفاء رجال.. في حين أن أكثر مراثي النساء تتناول رثاء الأخ والابن، وندر أن نجد شعراً نسائياً في رثاء الزوج، من ذلك قول امرأة "حنظلة بن عبدالله الأسدي" وقد مات زوجها، فجزعت عليه، فنهتها جاراتها وقلن لها: "إن هذا يحبط أجرك" فقالت:

تعجب الدهر لمحزونة

تبكي على ذي شيبة شاحب

إن تسأليني اليوم ما شفني

أخبرك قولاً ليس بالكاذب

إن سواد العين أودى به

حزن على حنظلة الكاتب

شظايا الحب

ويتعلق الأديب المصري "كامل الشناوي" وقد تجاوز الستين بفنانة تدعى "روز" بعد أن تنقل قلبه من فراشة إلى أخرى، فتنسيه "دون جوانيته" على كبر سنه، ودام حبهما سنتين لكنه سرعان ما تبدد بسبب تحولها عنه إلى سواه، لكنه ظل متعلقاً بها، ولولا بقايا رجولته لبكاها.. كما يقول:

يا ورد "روز" لم يزل في جونا أثر

من نفحها.. آه لو عادت لياليك

يوم افترقنا عسى ألقاك بعد غد

فلم أجد في غد إلا تجافيك

لولا إبائي ولولا أنني رجل

لحدثتني الليالي كيف أبكيك

ويقول أيضا:

حطمتني مثلما حطمتها

فهي مني وأنا منها شظايا

ويذهب الدكتور "أمير بقطر" إلى أن في حياة الإنسان، وفي مراحل العمر المختلفة، احتفالات لربيع ثانٍ وثالث ورابع، فقلب الإنسان منفتح على الحب دائماً ويستشهد بالرواية العالمية "الغرام الدوري" إذ يمر الرجل في حياته بفترات بين الواحدة والأخرى سبع سنوات أو نحوها، تتجدد حيويته في آخر كل منها، فينتعش وجدانه ويترقرق في أعطافه ماء الشباب فيتلمس الحب أينما وجد، وتهتز نفسه لنشوة غرام جديدة، وقد تبلغ نزوته حد الاندفاع المستهتر بالحواجز، فيتم بخفة العقل أو الخرف أو الجنون، وتعزى هذه الظواهر إلى تغيرات فسيولوجية، ونشاط في الغدد الصم، كما يستشهد بوقوع رجل يتقلد أكبر المناصب في الدولة في غرام فتاة أجنبية تصغره بأكثر من خمسين عاماً، وكاد أن يضع تحت تصرفها نصيباً وافراً من ثروته إلى أن تضافر أقرباؤه من رجال القانون في الحكم عليه بالحجر وخرف الشيخوخة. ولاننسى حب شاعر ألمانيا "غوته" وهو في ذروة شيخوخته، وكان حباً موفقاً، وحب شاعر العشاق وجيه البارودي الذي تجاوز التسعين وقلبه ينبض أبداً بأحلام الحب.

ونلمح آثار هذه النزوات في أمثالنا الشعبية.. فيقولون:

ـ بعد الكبرة جبة حمرة.

ـ كلما شابت طابت.

ـ ابن الستين له جهلة.

ويبدو أن بعض الناس يملك استعداداً ذاتيا لهذه النزوات، في حين يشيخ بعضهم قبل أوانه.

هذا عن الرجل، أما عن المرأة فيبدو أن سن اليأس عندها تصحبها تغيرات خطرة في الغدد الصماء وانقطاع الدورة وما يتبع ذلك من قلق يدفع ببعض النساء إلى مسالك تقرب من مسالك المراهقات. ويضيف الدكتور "أمير بقطر": "لو تتبعنا حياة مائة رجل ومائة امرأة ممن عمروا طويلاً وأتيح لنا الوقوف على عالمهم الداخلي لعلمنا أن نسبة منهم كان ربيعها الثاني أوالثالث أكثر مرحاً وبهجة وأشد اخضرارا، ولعل بعضهم شهد ربيعاً رابعاً وخامسا..".

***

إن الإنسان مفطور على كره الموت، يود أن يثور عليه، ويتحداه بالفعل حتى يكره أن يصنف في مرتبة الشيوخ، لأن ذلك يعني أنه خرج من دائرة الحياة بما فيها من آمال وطموحات ومتع.

 

عبداللطيف الأرناؤوط

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات