مساحة ود
مساحة ود
شيء يخص الروح للعيد في البلد طعم مختلف هو طعم الانتماء للأهل والأصدقاء، للبحر.. للشجر.. لوقع المطر على شرفات البيوت والحارات الأليفة.لقد كبرنا ومازال العيد يعيش في أعماقنا حنيناً غامضاً إلى فرح هارب، إلى أماني لم نستطع تحقيقها ونقول ربما تحققها الأيام! أقف على النافذة أتأمل الحارة العتيقة يلفها البرد والمطر، أسترجع وجوه الجيران القدامى الراحلين. أرى الأحفاد يطلون من النوافذ، يدرجون في الطريق فأقول: هي الحياة. ويطرق الباب، تواجهني صبية سمراء جميلة تسألني عن عنواني فأقول لها:"نعم هذا هو العنوان". نادت أمها التي كانت تتابع طريقها إلى الدور العلوي، استدارت الأم، حدقت إليها، من أعماقي هتفت: "مستحيل، هل هذا معقول"؟ رنت ضحكتها الصاخبة: "جئت من غير موعد، أخذت رقم هاتفك لكنني أضعته، قلت لابد أن أزورك، قد أجدك وقد لا أجدك، ولكن الحمد لله حظي كان حسناً". شلال فرح انهمر في قلبي صافياً عذباً، دهشة حلوة غمرتني.. تهاتفنا، عرفتني على ابنتيها الشابتين. أسألها ومازلت غارقة في دهشتي: "كم عاماً مر مذ افترقنا"؟ تقول لي بضحكتها المعهودة: "لن أقول أمام بناتي". منذ سنوات بعيدة رحلوا عن الحارة ثم عن المدينة وأنا تركت البلد. أوغلنا بعداً ولكنها مازالت في نظري فتاة السادسة عشرة. تتدفق حديثاً، تتوالى تعليقاتها المرحة، تلتمع عيناها، ترن ضحكتها الصافية، نسترجع ذكريات الحارة والجيران، من غاب عن هذه الدنيا ومن لايزال يكابدها، نتحدث عن الصديقات ولقاءات المصادفة التي لم ننعم بواحدة منها. يا لله كيف مر الوقت شوقاً وأنساً وحديثاً. تتأهب للرحيل استبقيتها: ـ دهر مضى وما التقينا، مازال لدينا الكثير. تقول: لا أستطيع سأسافر لقد جئت إلى المدينة لأقضي أول يوم في العيد مع أبي. يعبر أمامي وجها أبي وأمي، أطلب الرحمة لروحيهما. تستردني بسؤالها: "متى تسافرين؟" أقول: "بعد أيام". تبادلنا أرقام الهواتف ووعودا بأن يكون لقاؤنا في الصيف. غادرتني وتركت في قلبي، فرحاً، عذوبة، إحساساً بالامتلاء، هذه الدنيا ليست خواء مازال فيها شيء يخص الروح، مازالت هناك أصالة تحفظ الحياة من عبثها، مازالت في أعماقنا ينابيع ود ومحبة ومن يدري متى تنبثق هذه الينابيع فتكسب اللحظة الجهمة ألقاً وبشراً. سافرت والوعد دفء يملأ القلب والابتسامة ترتسم على الشفتين. هل نلتقي ثانية؟ أمنية أطرحها على ضمير الزمن وأتمنى أن يحققها فقد أخلف الكثير من الأمنيات.
|
|