د. محمد مفتاح وجهاد فاضل

د. محمد مفتاح وجهاد فاضل

الناقد كالطبيب المشرَّح يأخذ النص ويحلله ويبين العلائق بين أصواته وتراكيبه

  • اللغة في المغرب العربي مكتسبة وليست طبيعية كما في بلاد المشرق
  • سياق التطور الحضاري في بلاد المغرب له خصوصية عما حدث في المشرق
  • هناك فئتان رئيسيتان من المثقفين في المغرب العربي: فئة المعربين وفئة المفرنسين

يثير هذا الحوار مع الناقد المغربي د. محمد مفتاح قضايا ثقافية عدة، مشرقية ومغربية معًا، منها تفحص مقولة: «الشعر للمشرق والنقد للمغرب».

وهي مقولة لها ما يسندها بنظر بعض الباحثين في التاريخ وفي الحاضر. ففي التاريخ العربي الإسلامي، وفي التاريخ الحديث، لفتت أقطار المغرب النظر بجملة نقاد متميزين، في حين عجز شعراؤها عن اللحاق بشعراء المشرق الفحول، ففي القديم لم تُنجب أقطار المغرب شعراء بقامة المتنبي أو المعري أو أبي تمام أو البحتري. وفي الحديث لم يكن لشعراء المغرب نفوذ كالنفوذ الذي حصده بدوي الجبل أو عمر أبو ريشة أو بشارة الخوري أو بدر شاكر السياب وبقية رموز الشعر الحديث. فهل هناك قانون غير منظور تنص مادته الأولى على أن الشعر نبتة مشرقية، وعلى أن المغرب بطبيعته بلاد نقد وفكر وتنظير على صعد مختلفة؟

القضية الثانية التي يثيرها هذا الحوار مع الناقد د.محمد مفتاح، هي خصب انفتاح النقاد المغاربة على «صندوق» النقد الأدبي الدولي في باريس وتأثرهم الشديد به، والانفتاح والتأثر هذان لا يمكن أن يُقاسا بالانفتاح والتأثر اللذين قام بهما النقاد المغاربة تجاه حركة النقد في المشرق العربي. فقد كان لرولان باوت ولدريدا وبقية النقاد الفرنسيين نفوذ كبير عند النقاد المغاربة لم يكن لا لإحسان عباس ولا لعز الدين إسماعيل ولا لعبدالقادر القط ولا لسواهم من النقاد العرب الآخرين. فما هو تفسير محمد مفتاح لهذه الظاهرة؟

كثيرًا ما يُوصف محمد مفتاح، الذي فاز حديثًا بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية، فرع النقد الأدبي، بأنه صاحب مشروع ثقافي، وبأن هذا المشروع له أبعاده وتصوراته وفلسفته، وبأنه لم يختر الطريق السهل. لقد فتش عن الطريق الأكثر وعورة للوصول إلى أمكنة أكثر إشراقًا وبعدًا وارتفاعًا، واستغلّ الإشكالية التي يمرّ بها النقد العربي، وعلاقته بالمناهج النقدية الأجنبية، ليبدأ بتكوين مشروع نقدي يحاول بلورته للوصول إلى منهج خاص ومتفاعل وذي شخصية واضحة ومستقلة.

وقد عُرف عن الناقد محمد مفتاح احترامه للنص،ومعرفته الدقيقة في التعامل معه. فهو يفتش عن مكنوناته وأصوله وأبعاده وارتباطاته، ويحاول ألاّ يقع في مزالق التعامل مع المفاهيم الجاهزة، بل يتبع أكثر الأساليب والطرق وعورة للوصول إلى الحقائق والأبعاد التي تبرر هذه الدراسة وتقف إلى جانب نظرياته النقدية. ومشروعه النقدي، بوجه عام، يصبّ في صلب الواقع الثقافي العربي، ويبرز إشكالياته في اللاحدود، وهو يتخطى العصرنة للعودة إلى عمق التاريخ مع الدعوة لتوظيف المنطق والرياضيات. وقد أوجد هذا المشروع تساؤلات كثيرة طرحها عدد من الباحثين المغاربة تحددت بينما كان مفتاح يسعى إلى تأسيس نظرية لمقاربة النص بعيدًا عن الجنس أو الزمن، بمعنى علم مخصص للنص. ويرى بعض الباحثين أن هذا السعي يقود مفتاح إلى مغامرة غير محسوبة على حد قولهم. ويردّ مفتاح على بعض هذه التساؤلات بالقول: «لماذا اتجهت إلى الشعر الحديث؟ إن الإشكالية التي تشغلني هي كيف نقرأ النصوص، وكيف نفهمها من أجل تأويلها؟ أما مرحلة النقد، فلا أعتقد أنني أصل إليها. أنا أبحث عن الميكانيزمات التي تمكن من قراءة النص بطريقة أقرب إلى الصواب من أجل تأويله وتحديد دلالاته. ولا ينبغي للناقد أن يقتصر على النصوص القديمة، ولا الحديثة، ولا على جنس أدبي دون آخر».

يعمل د. محمد مفتاح أستاذًا جامعيًا منذ عام 1981 حتى اليوم، كما عمل أستاذًا زائرًا في جامعات عربية وأجنبية عدة منها جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية. ومن مؤلفاته: في سيمياء الشعر القديم (1982)، وتحليل الخطاب الشعري / استراتيجية التناص (1985)، ودينامية النص/ تنظير وإنجاز (1987) والتلقي والتأويل/ مقاربة نسقية (1994)، والنص من القراءة إلى التنظير (2000)، والشعر وتناغم الكون (2002) ورؤيا التماثل (2005).

وقد أجرى هذا الحوار الزميل جهاد فاضل الصحفي اللبناني المعروف، وقد بدأ الحوار بالسؤال التالي:

  • قال د. خليفة التليسي: لو كان الشعر للمشرق والنقد للمغرب، وأضاف أن هذا القانون يشمل الماضي كما يشمل الحاضر ولو مع بعض التحفظ. فهل مثل هذا النظر صحيح برأيكم؟

- كل حكم يجب أن يُنَسَّب، بمعنى أن يكون نسبيًا. ليس بإطلاق، ولكنه في الوقت نفسه لا يخلو من شيء من الحقيقة.

المشرق، كما نعلم، هو مهد اللغة العربية، طفل يولد من بطن أمه وهو مزود بمعطيات لغوية خاصة بأمه وأبيه. إذن، هناك مسألة طبيعية غريزية هي أن الابن يتأثر بمحيطه، ومنه المحيط الأم ومن لغته الأم على الخصوص.

إذن، بالنسبة إلى المشرق العربي مهد اللغة العربية وسكانه عرب، طبعًا هناك امتزاجات مع جهات أخرى ولكن سكانه عرب على اختلاف دياناتهم. ولكنهم عرب: مسيحي يتكلم العربية ويتقنها وله قصب السبق في إحياء اللغة العربية وجعلها مسايرة للحياة المعاصرة.

نمرّ الآن إلى المغرب العربي، سكانه هم من أصول بربرية أو ما يطلق عليه الآن الأمازيغ. أي أن اللغة التي يتحدثون بها ليست اللغة العربية المتداولة في المشرق.

معطى آخر هو أن العرب الذين انتقلوا من المشرق إلى المغرب كانوا بُداة، من البادية، أرسلهم المعز لدين الله وهم من القبائل العربية الهلالية، وأنا أنتمي إليهم. كانوا بداة يتكلمون العربية بالسليقة ولكنهم توطنوا مناطق مختلفة في المغرب العربي ولم يسرِ إشعاعهم في جميع المغرب. بداة تواطنوا أماكن معينة، وبخاصة السهول.

معطى آخر هو أن هؤلاء العرب لم يسكنوا الأمصار والمدن، وإنما كان يسكنها مزيج من العرب ومن غير العرب.

وأعتقد أن شيئًا من الشعر الذي يقوله المغاربة، وبخاصة في بدايات العهود الإسلامية الأولى، مردُّه إلى الشوام الذين فتحوا الأندلس ومنهم تعلّم بعض المغاربة، ولو كانوا أمازيغ وبرابرة، العربية.

هذه معطيات كلها تجعل اللغة عندنا، ليست طبيعية بل مكتسبة. بعكس وضع الشرق العربي.

ثم إن المشرق العربي، بالإضافة إلى هذا عُدّ قديمًا بؤرة العالم، أو مركز العالم. والجغرافيا القديمة وضعته الإقليم الرابع، أي أحسن الأقاليم وأعدلها. وهو كان متصلاً بحضارات عريقة: الحضارة الفارسية ثم الحضارة الآسيوية، كان ملتقى للحضارات، ولذلك، كانت منه الديانات.

هذه العوامل كلها تجعل المشرقي يتكلم العربية شعرًا أو غير شعر. وبالتالي فإنه سيكون هناك شعر في المغرب ولكنه لن يصل إلى مستوى الشعر المشرقي وخاصة لدى الشعراء المرموقين مثل أبي تمام والمتنبي وغير ذلك. نعم هناك ما يقارب هؤلاء، ولكنهم من الأندلس. والأندلس بصفة عامة كان كثير من سكانها من المشرق العربي، نعم كان هناك شعراء أيضًا من أمازيغ من البربر كما كانوا يسمّون قديمًا: ابن درّاج القسطلي. فهذا بربري ولكنه كان له شعر جيد.

معنى هذا، أن هذا الحكم فيه صحة، لماذا؟ لأنه ليس لنا المتنبي وليس لنا البحتري، وليس لنا أبو تمام، ولكن لدينا شعراء يقتربون من هذا المستوى قد يكون بعضهم أرقى شعرًا من بعض المشارقة، ولكن الحكم العام بصفة عامة يبقى صائبًا. ومعنى هذا أن المغاربة لا نقول تفوقوا، ولكن كانت ذهنيتهم تميل إلى ما هو مضبوط ومقنن لأنه تشترك به العقول الإنسانية.

جينات شعرية

  • ولكن هذا الحكم إذا كان ينطبق على الماضي، فإنه، بنظر كثيرين، ينطبق أيضًا على الحاضر، ليس في أقطار المغرب، كما يقول هؤلاء، قامات شعرية شامخة، أو شعراء كبار مثل شوقي والأخطل الصغير وعمر أبوريشة وبدوي الجبل والسياب ومحمود درويش على سبيل المثال، في حين أن لدى المغاربة المعاصرين نقادًا وباحثين ممتازين.

- شوقي، السياب، عبدالصبور، إلى غير ذلك من الشعراء الجيدين الكثيرين، هم امتداد لميراث، وإن شئت قلت إن الجينات الشعرية انتقلت إليهم. في حين أنهم في المغرب صوّبوا الوضع كيفما كان، وربما من الأمثلة التي تدل على أن المشرق حينما يؤثر تأثيرًا كبيرًا يكون هناك استجابة له في المغرب نفسه، وسأعطي بعض أمثلة.

هناك شمال مغربي ووسط وجنوب، فالشمال: طنجة وتطوان وغيرهما كان متصلاً اتصالاً وثيقًا بالمشرق. لذلك، نجد عند بعض الناس خطًا مشرقيًا سائدًا في المنطقة لأنهم كانوا متصلين في القديم بالأندلس أكثر من الوسط والجنوب. وكانوا متصلين أيضًا في العهود الحديثة والمعاصرة بالمشرق أكثر. فلذلك، كانت خطوطهم جيدة، سليقتهم في العربية أحسن.

ثم إن من درسوا من المغاربة في المشرق، لديهم قدرة على الخطابة والكتابة أكثر من الذين لم يدرسوا في المشرق.

أما بالنسبة إلى النقد أيضًا فالأمر نسبي، لا نقول بتفوق المغاربة بالإطلاق، ولا بتخلف المشارقة بالإطلاق، بل أنت تجد عناصر ممتازة في المشرق وفي المغرب، وهناك عناصر دونها امتيازًا في المشرق والمغرب.

ولكن النقد هو بحكم كونه علمًا، يعتمد على القوانين وعلى القواعد وغير ذلك. والقوانين والقواعد هي كونية، لا ينبغي لنا أن نقول إن العقلية المغربية تتسم بكذا، والعقلية المشرقية تتسم بكذا. المشرق والمغرب بصفة عامة ينتميان إلى حضارة البحر الأبيض المتوسط. وحضارة البحر الأبيض المتوسط تدخل فيها دول أوربية ودول عربية. ثم بعد ذلك هذه الحضارة تسربت إلى القارة الآسيوية، وبخاصة إلى الدول العربية وإلى فارس وغير ذلك.

التوظيف الثقافي

  • تبقى مسألة الامتياز، ما مردّها بنظركم؟

- ليس هناك أساس عرقي، وليس هناك أساس جغرافي، بل هي مسألة ذكاء، مسألة مجهود، ومسألة تخصص، ومسألة علاقة دولة، بدول أجنبية، فمثلاً تأخذ علاقة المغرب والجزائر وتونس، بأوربا لأن الفرنسيين كانوا هناك على شكل حماية أو على شكل استعمار. وبالتالي تسربت الثقافة الفرنسية إلى هذه الدول لأنها وجدت وضعًا قابلاً لأن يكون كذلك. ارتبطت هذه الدول، أو نخبتها على الأقل، بفرنسا. كان لفرنسا تأثير كبير فيها. في حين أن المشرق، نعم كان هناك بعضه تحت الحماية الفرنسية، وبعضه تحت الاستعمار البريطاني، ولكن بنسبة عامة، كانت هناك أعمدة يقوم عليها بناء الأمة، هي اللغة العربية. لذلك، نجد الآن أن من يتقن اللغات الأجنبية في المشرق والمغرب بينهما خلاف. المشرقي الذي يتقن اللغة الإنجليزية أو غيرها من اللغات يوظفها لخدمة الثقافة العربية. هذا الوضع لا نجده في المغرب، يتقن اللغة لامتداد اللغة ويبقى في اللغة ذاتها، فلذلك، لا يقوم لا بالترجمة ولا بأي شيء مثلما يفعل المشارقة. ناحية أخرى، وهي أن الفكر المشرقي كان سبّاقًا إلى مسألة القومية العربية والشعور بالذات وبالهوية. وهناك ناحية أخرى هي أن المشرق العربي اتصل بأوربا منذ ما يقرب من قرنين أو يزيد، من حملة نابليون إلى غير ذلك. فهو جاء في مكان معين يشعر بهويته، قدم أطروحات لتأطير هذه الهوية. اتصل بالغرب لتنمية ما لديه. بعكس المغرب العربي الذي كان - وهذه حقيقة تاريخية - يتأخر على الأقل مائة سنة بالنسبة إلى المشرق مشرق. الكتاب الذي يظهر في المشرق يحتاج إلى مدة ليروّج في المغرب.

هذا وضع تاريخي وكذلك - مثلاً - نحن لا نستطيع أن نقارن دولة ما في المغرب العربي بما حصل في مصر منذ حملة نابليون مع مجتمعات لها التكوين نفسه، وهو اللغة العربية إلى آخره، واللهجات المحلية، وهي منبثقة عن العربية، في حين أنك تجد في المغرب الدارجة، ولكن تجد لغات أخرى لا علاقة لها بهذا.

إذن هناك عوامل عدة تجعل التمكّن من اللغة العربية وسلاسة التعبير بها، بيّنة في المشرق العربي. وهناك مسألة أخرى هي الإلقاء والإنشاد. المشارقة يُتقنون إلقاء الشعر وإنشاده. ويُتقنون القراءات القرآنية بأصوات جميلة.

المغاربة يجيدون القراءات القرآنية ويحفظونها، ولكنهم لا يرتّلون القرآن مثل ترتيل المشارقة. كذلك حينما نقرأ الشعر، ربما يقرأه بعضهم أحيانًا على طريقة القراءات القرآنية.

إذن هي تقاليد تاريخية متوارثة خاصة بالتاريخ الثقافي المشرقي، ولكني أقدّم بعض المؤشرات التي ظهرت لأنها يمكن أن تصلح للمقارنة. مثلاً يمكن أن تختفي مجموعة من المثقفين في زاوية مقهى من المقاهي في المشرق العربي يقرأون الشعر. ولربما تجد صاحب المقهى مغتبطًا مسرورًا يستمع إليهم. في المغرب، أو في مكان آخر، قد يعتبر صاحب المقهى أن هؤلاء حمقى.

هي ظروف تاريخية. أولاً نشأة اللغة العربية، العناية باللغة العربية، الشعور بالهوية، الأطروحات القومية، وحدة المجتمعات من حيث الثقافة، كل هذه العوامل تجعل اللغة العربية في المشرق لغة حيّة أصيلة.

أما بالنسبة إلى النقد، وما تحدّثنا فيه، فأعتقد أن من الواجب أن يعاد فيه النظر، لماذا؟ لأنه قد يحمل في ذاته نزعات عرقية، إن هذا يمتاز عن ذاك وما إلى ذلك، وإنما مردّ ذلك في نظرنا, هو المحيط وبعض العلاقات بدول أخرى. ربما قد يرجع إلى الحالة الاقتصادية، ثم قد يرجع إلى النظام السياسي، إلى غير ذلك.

تأثيرات ثقافية

  • كان للمشارقة في الماضي نفوذ أوسع من اليوم في الثقافة الغربية بعامة. ومما يدل على ذلك قول المراكشي في كتابه «المعجب في أخبار المغرب» إنه ما رنّ صوت في المشرق إلا وكان له صدى في المغرب.

اليوم اختلف الأمر. بات الصوت الثقافي المؤثر عندكم هو الصوت الأوربي، وبخاصة الفرنسي، لا الصوت المشرقي الذي قد يرنّ من القاهرة (إذا اعتُبرت مشرقًا) أو من بيروت أو من بغداد. لقد أصبح المؤثر في الساحة الثقافية المغربية، وبخاصة النقدية، رولان بارت

ودريدا وسواهما، وليس هذا الناقد المشرقي أو سواه.

- هذا سؤال عريض يحتاج إلى تدقيق. أولاً التدقيق من حيث مكونات المشهد الثقافي المغربي. في المشهد الثقافي في المغرب، هناك من يُطلق عليهم المعرَّبون، أي الذين ثقافتهم أساسًا عربية. وهناك المفرنَسون الذين درسوا في المدارس الفرنسية أو كانت اللغة التي تعلّموها أساسًا هي اللغة الفرنسية. وهناك مَن يتكلّم الإسبانية في الشمال.

إذن هناك درجات في فئات مثقفة في المغرب العربي، وبالتالي فإن التأثير والاستجابة إلى المشرق أو المغرب، مختلفة بحسب هذه الفئات.

نأخذ الفئة الأولى وهي فئة المعرّبين. هذه الفئة درست في المشرق، وخصوصًا الجيل الذي تابع دراسته قبل الاستقلال في سنوات الثلاثينيات، وسنوات الأربعينيات، وسنوات الخمسينيات من القرن الماضي. ومن هؤلاء الذين درسوا في المشرق شخصيات معروفة بعضها توفاه الله إليه، وبعضها مازال حيًا. نتمنّى له طول العمر، وأسماؤهم معروفة ولها إسهامات فعّالة في الحقل الثقافي.

هؤلاء بصفة عامة، تتلمذوا على جيل الروّاد العظيم: طه حسين، أحمد أمين، إلى غير ذلك من هذا الجيل الذي كان عظيمًا. تشبّعوا بتقاليد هذه الثقافة المصرية، ثم منه مَن درس في الشام، وبخاصة في سورية. هؤلاء نقلوا الثقافة العربية، أو التقاليد المنهجية إلى المغرب.

ثم كان هناك اتصال وثيق، وبخاصة في مراحل الاستقلال الأولى بين المشرق والمغرب. فكان هناك أساتذة كثيرون من المصريين والفلسطينيين والسوريين ذهبوا إلى المغرب. وأنا بالذات مدين لكثير من أساتذة الشرق، وخصوصًا السوريين الذين درّسوا في الجامعة. ولتخليد ذكراهم، سأذكر أسماءهم: هاشم حكمت، أمجد الطرابلسي، شكري فيصل،سامي الدهان، صالح الأشتر. وكان مثل هؤلاء في كليات الحقوق. ويجب الاعتراف بأن هؤلاء أدوا دورا فعّالا في تعريف الناشئة المغربية بالثقافة العربية في أصولها. على أيديهم تعرّفنا كتب النقد العربي الأصيلة، والكتب اللغوية الأصيلة، وكتب التاريخ الأصيلة.

القسم الثاني، قسم المفرنَسين، هؤلاء درسوا في مدارس فرنسية، فكانوا يدرسون ساعات قليلة من العربية. هؤلاء ارتبطوا ارتباطًا وثيقًا بفرنسا. ولكن كان لهم بعد الاستقلال دور فعّال لمزيد من توثيق الصلات بفرنسا. ومن جملة توثيق هذه الصلات قضاء «رولان بارت» سنة كاملة في جامعة الرباط، كان يدرّس، وكان له مريدون وأصدقاء. ثم كان ما يُسمّى بالمتعاونين الفرنسيين جاءوا من فرنسا ليدرّسوا في المدارس المغربية، وكانت لهم بصفة عامة اتجاهات يسارية، فأثّروا في الناشئة المغربية، نشأت تيارات يسارية أو متياسرة ذات توجهات غربية.

هذا المناخ كله، وهو مناخ سنوات الستين، فرنسا كانت تعرف، ومعها أوربا بصفة عامة، طفرة اقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية. ثم كانت هناك طفرات نقدية، ثم كانت هناك ثورة الطلاب عام 1968. وكانت هناك الحركات الاحتجاجية ضد الامبريالية وضد أمريكا، وضد الاستعمار، ما جعل الشباب واليساريين من أصحاب الثقافة المنفتحة على الغرب، يتأثرون بكل هذا. وكان مما تأثروا به هذه المناهج النقدية.

تبقى مسألة كيفية التعامل مع هذه المناهج، هذا يرجع إلى تكوين الشخص، إلى مدى صبره، إلى الاستراتيجية التي يسير عليها، إلى طموحه.

إذن هناك عوامل عدة، تحدد للذي يتجه نحو المناهج الغربية، كيفية التعامل مع هذه المناهج.

ولكن الذي يجب إضافته هو دخول العنصر الإنجليزي لدى النخبة المغربية.

الانفتاح على الثقافات

  • في الوقت الراهن؟

- في الوقت الراهن، وابتداءً من كل سنوات الثمانين. صارت النخبة المثقفة الباحثة الجدّية تعتمد على المرجع الإنجليزي أو الإنجلو/سكسوني بما فيه الأمريكي وغير ذلك، أكثر من المرجع الفرنسي. بل إننا نجد عندنا تيارات نقدية أو إنسانية، ربما في مستوى فرنسا، أو تتفوق على فرنسا.

إذن كان دخول المرجع الإنجليزي، أو الانفتاح على الثقافة الإنجليزية العملية والمنهجية له تأثير كبير. والآن ربما أن المرجع الأساسي لأغلب الذين لهم إسهامات فعـّالة في ميدان السيميائيات، في ميدان اللسانيات، في ميدان التاريخ أيضًا، في ميدان الأنثروبولوجيا، في ميدان علم الاجتماع، هو المرجع الإنجليزي.

إذن عندنا مصادر عدة: المصدر العربي وهو، بالنسبة للمغرب، الأساسي. ثم المصدر الفرنسي، ثم المصدر الإنجليزي، وربما الآن هو المهيمن. وربما مَن نبه من المغاربة، ومَن غير المغاربة خارج المغرب العربي، هو مَن يستعمل هذا المرجع لأن هذا المرجع هو المرجع المهيمن على العالم الآن ككل. اللغة الإنجليزية الآن لغة عالمية.

أما كيفية التعامل ومدى الإبداع في هذه المناهج، فهو يرجع إلى عوامل عدة تختلف من شخص إلى شخص. فهناك مَن يقتبس اقتباسًا، وهناك مَن يقرأ، ويعيد القراءة، ويبحث عن الثوابت، ويبعد الظرفيات، ويبعد الأشياء التي هي عارضة.

وهناك مَن ينطلق من منطلقات وطنية. ومثلاً لم تؤخذ السيميائيات الفرنسية كما يجب، ولا السيميائيات الأمريكية كما يجب، ولا اللسانيات، ولا الأنثروبولوجيا ولا المناهج التاريخية، بل قُرئت، استوعبت، وحاول من تعاطى بهذه المناهج أن يوظّفها لفهم واقعه. لذلك تجد هناك مشاكسات لمنهجية غريماس الفرنسية، مشاكسات للمنهجية الأمريكية، مشاكسات للأناسة الأمريكية. معنى ذلك أن هناك تفاعلاً، ولكن هناك في الوقت نفسه، إعادة النظر في تلك المناهج، ومحاولة تكييفها للواقع الثقافي الاجتماعي الذي يعيشه المغرب.

  • وما تقييمكم لحصيلة هذه المشاكسات؟ هل استفاد النقد العربي منها؟

- المسألة هي بحسب المفهوم والأبعاد التي تُعطى للمفهوم. ماذا نقصد بالنقد؟ إذا قصدنا به ما كان يقصده القدماء مثل قدامة بن جعفر والجرجاني وغيرهما، فما قلته يمكن أن يكون صحيحًا، أي تمييز الصحيح من غير الصحيح، أو سليم المعادن من مزيّفها. فهذا هو مفهوم النقد. ولكن يمكن أن نأخذ النقد ككل، أن نأخذ الظاهرة وندرسها، ونعيد النظر فيها، ونبعد ما نراه قمينا بالإبعاد، ونبرز ما نراه قمينا بالإبراز. وهنا نتجاوز النقد بمعناه المتعارف إلى النقد بمعناه عند الألمان، عند مدرسة فرنكفورت، أي ما يسمّى بالنقد الثقافي أو النقد الحضاري.

ثم ما الغاية التي يتوخاها، لا أسميه الناقد، بل أسميه محلل الخطاب والقصيدة الشعرية. هل نقصد تعليم الذوق للقارئ، يجب أن نسلك سلوكًا آخر مثل ما كان يفعله طه حسين في «الأيام» وفي غير ذلك، أي أن ينشئ إنشاء حتى يأتي بالشعرية ليحببها إلى القارئ. هل أريد أن أعلّم كيف يتركب القصيد لغويًا، اسلك طريق الإسلاميات، وهل أريد أن أبيّن الأبعاد النفسانية التي وراء النص، فأستعين بعلم النفس. وهل أريد أن أبيّن الثوابت التي وراء هذه التعابير الشعرية ابحث في الأناسة. إن استراتيجية الباحث هي التي تحدد هذا.

في العالم العربي عندما يقولون النقد، تنصرف الأذهان إلى النقد كما كان قديمًا.

بالنسبة لي أنا كمحلل، أعتبر نفسي بمنزلة الطبيب المشرّح يأخذ النص ويحلله ويدققه ويدقق فيه ويبين العلائق بين أصواته، بين مفرداته، بين تراكيبه، ما أبعاده، إلى غير ذلك. وحينئذ إذا أردت أن أتذوّق الشعر، فعلي أن أسمعه منشدًا من أصحابه.

الاستراتيجية التي قصدها المحلل، ثم الموجه إليهم الخطاب. مثلا إذا وجهتُ خطابي إلى التلميذ، أريد أن أعلمه الذوق، يجب أن أشق طريقًا ملائمًا، أو بعض المعايير الأخلاقية من خلال الشعر. ولكن إذا أردت أن أدرّب الطالب كيف يفكر، وكيف يضع الفروض، وكيف يبرهن عليها، أسلك طريقًا آخر.

ولكن هناك ثوابت على دارس الشعر أن يراعيها.

-------------------------------

ليت الذي خلق العيون السودا خلق القلوب الخافقات حديدا
لولا نواعِسها ولولا سحْرها ما ود مالك قلبه لو صِيدَا
عود فؤادك من نبال لحاظها أو مت كما شاء الغرام شهيدا
إن أنت أبصرت الجمال ولم تهم كنت امرءاً خشن الطباع، بليدا
وإذا طلبت مع الصبابةِ لذةً فلقد طلبت الضائع الموجودا


إيليا أبو ماضي





 





 





 





 





 





 





 





الناقد الكبير د. محمد مفتاح وسط المثقفين العرب الذين حصلوا على جائزة العويس