أرقام

أرقام

نهر البشر والمال والسلع!

اختلف القوم حول كلمة "عولمة". قال البعض: إنه العالم الجديد المتداخل، الذي يذوب فيه الجزء في كل عالمي. وقال آخرون: إنه سقوط الحواجز والحدود، فكل شيء أصبح عالميا.. والعالم أصبح قرية صغيرة.وقال فريق ثالث: بل هو الاستعمار، إن جاز التعبير، فهو سيطرة الأقوى على الأضعف تحت اسم التحرر والسوق المفتوحة.

واتفق الجميع على أننا أمام عصر جديد في كل الأحوال، عصر تتأكد فيه "القوى فوق القطرية والوطنية" فهناك خمسمائة شركة متعددة الجنسيات تسيطر على معظم اقتصاد العالم، وهناك منظمات، مثل منظمة التجارة أو صندوق النقد، تفوق سلطة كل منها سلطة الدولة القطرية، بل إن بعض هذه المنظمات يملك سلطة تشريعية يسن بموجبها القوانين واجبة التطبيق، وسلطة تنفيذية يراقب بها حسن التنفيذ لما يتم الاتفاق عليه، وسلطة القضاء التي تفصل بين الناس.في كل الأحوال فإننا أمام عالم تتبدل فيه المواقع. يتغير فيه دور الدولة وموقعها.. وتتغير أشكال العلاقات الدولية وآلياتها ومراكز الثقل فيها.

وتتوقف المنظمات الدولية، والتي تلعب دوراً رئيسيا في العولمة أمام كل ذلك، وبدرجة أكبر أمام التدفقات غير المسبوقة عبر الحدود الدولية، أعني تدفقات السلع والأموال والبشر.. وكلها يتم بأحجام يقولون إنها خير تعبير عن العولمة، وأنه إزاءها لا يمكن الحديث عن حدود مغلقة، أو نظم منعزلة، أو أقطار تريد التقوقع.والمؤشرات التالية جاءت في أرقام نشرتها منظمة العلوم والثقافة "اليونسكو" في أوائل 1998هي أرقام تعتمد على دراسات منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي ومكتب العمل الدولي.

تسعة أعشار الرزق!

نقول في الاسلام: "تسعة أعشار الرزق في التجارة"، ويبدو أن العالم قد بدأ يؤمن بذلك فلم تعد البداية أجهزة تنتج ونبحث لها عن أسواق، ولكن البداية أسواق تطلب وتجري وراءها كل الأجهزة الإنتاجية.

واللعبة قديمة، وربما كان التعارف بين الناس في سالف العصور قائما على تبادل السلع، لكن الجديد ـ وكما تقول اليونسكو ـ هو التدفق بذلك الحجم الهائل، وتلك السرعة الكبيرة والتي جعلت نمو التجارة الدولية يسبق كثيرا النمو في الإنتاج ذاته.

حتى منتصف السبعينيات كان النمو في المجالين متقاربا، ولكن وفي الآونة الأخيرة ومع سياسات تحرير التجارة وإلغاء نظام الحصص وإزالة القيود الجمركية، في هذه الآونة حدثت الطفرة الواسعة.

خلال عشر سنوات 1984- 1994 وفي بلاد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية كان نمو الانتاج بنسبة "1.9%" سنويا، وكان نمو التجارة نحو ثلاثة أضعاف ذلك "5.3%".. ولكن وفي الفترة الأخيرة "90 ـ 94" وحدها كان نمو التجارة عشرة، أضعاف نمو الإنتاج الذي لم يزد بأكثر من "0.5%" سنويا بينما زادت التجارة "5%".

في هذه الآونة أيضا، اختلف تركيب التجارة فلم تعد مجرد سلع أولية أو زراعية أو صناعية وإنما أصبحت المعرفة وتكنولوجيا المعرفة والخدمات بشكل عام من أهم ما يشكل حجما متزايدا في التبادل.

أنهار المال

وربما كان النمو في تدفق الأموال ـ وبشكل غير مسبوق ـ أكثر وضوحا، فقد انتقل العالم من عصر المليار إلى عصر التريليون، وفي بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ـ على سبيل المثال ـ فقد تضاعف الاستثمار المباشر العابر للحدود دخولاً أو خروجا خمس مرات في "12" عاما.. فزاد التدفق الاجمالي للداخل من "19" مليار دولار "بين 71 ـ 1980" إلى "1.5" تريليون بين "87 ـ 1996"، ونفس الشيء قد حدث في رءوس الأموال التي خرجت من دول المنظمة والتي زادت من "304" ملايين دولار إلى تريليوني دولار في نفس الفترة.

إنه عصر التريليون.. عصر الحركة السريعة بأحجام ضخمة، ولكن ذلك يحدث في مجالات أخرى أبرزها نهر البشر.

في مجال التدفقات البشرية، فإن القصة أيضا قديمة وطالما هاجر الناس بحثا عن الماء، أو الغذاء، أو الرزق، أو الأمن، أو من أجل نشره العقيدة.

في الآونة الأخيرة ـ وبما يساعد على تداخل العالم ـ زادت هذه التدفقات حتى بلغ عدد الذين يعيشون خارج أوطانهم نحو مائة مليون. والجديد ليس زيادة الحجم فقط، وإنما هجرة النساء أىضا، وبأحجام غير مسبوقة.

في ملف اللاجئين الذي تقوم عليه منظمة خاصة تابعة للأمم المتحدة أنه عند الخطر تكون النساء ويكون الأطفال أول من يهاجر.

وطبقا لتقديرات مفوضية اللاجئين فإن حجم اللاجئين والنازحين والفارين من موطنهم يقترب من خمسين مليونا، ترعى المنظمات الدولية نصفهم فقط!

والفرار من الوطن شيء من الطبيعة البشرية، وهو موضوع أعمال أدبية كثيرة: رواية وقصة وشعرا، لكن الأهم، وفي التحليل السياسي والاقتصادي فإنها ظاهرة تستحق الدراسة.

البعض خارج للبحث عن عمل، وفرصة رزق، وبحبوحة عيش، وكان محل ترحاب بعض الوقت، ومحل اضطهاد، بل وقتل ومطاردة لبعض الوقت.

رحبت أمريكا بالمهاجرين، ثم قيدت الهجرة طبقا لاحتياجاتها.

واستخدمت أوربا المهاجرين من جميع أنحاء العالم، خاصة بلدان المغرب وتركيا، ثم عادت تلفظهم بعد أن تزايدت معدلات البطالة.. ونبتت فكرة عند بعض الدوائر وهي أن تنتقل المصانع والشركات إلى بلدان العالم الثالث.. بدلا من أن تنتقل عمالة العالم الثالث للمصانع!

وطبقا لتقديرات البنك الدولي فإن تحويلات العاملين في الخارج تبلغ "67" مليار دولار في السنة. وأنها قد بلغت في بلد مثل اليمن "150%" من الصادرات السلعية سنويا.. كما بلغت في مصر وباكستان 57% من الصادرات.

إنه نهر البشر، المصحوب بنهر من تدفقات الأموال، ولكن وفي اتجاه معاكس، يستنزف ولا يعطي، كانت هجرة الفارين بحثا عن الأمن.

من ثماني دول عربية خرج الملايين بحثا عن الأمن. حدث ذلك في اليمن ولبنان والصومال إبان الحروب الأهلية، وحدث في العراق والكويت أثناء وبعد غزو العراق للكويت، وحدث، ويحدث، وسوف يحدث في فلسطين أسيرة الصهيونية.

إنها الحروب، تمتد من الدول العربية للدول الإفريقية، وتزحف شمالاً إلى أوربا، وعلى نطاق واسع لأول مرة منذ فترة طويلة.

على كل حال، فهذا تيار ـ أو نهر آخر ـ اسمه نهر البشر ويستدلون به على أن العالم شيء واحد، وأن العولمة قدر لا فرار منه.

السؤال: هل هي كذلك بالفعل؟

أرى ضغوطا سياسية واقتصادية واجتماعية تدفع بالحدود القطرية لكي تتلاشى، وتدفع بمراكز عالمية لكي تسود وتنظم الحركة.

وأرى صغارا وكبارا وتنافسا غير متكافىء، وبما يدفعنا للسؤال: إذا كان هناك بالضرورة كاسبون وخاسرون، فمن الكاسب ومن الخاسر؟

وهل حقيقي أن عودنا يزداد صلابة عندما نفتح الحدود، كل الحدود، أم أن ذلك العود سوف ينكسر، وسوف تهزه الرياح القادمة من الخارج والتي تدعي أن حماية الاقتصاد المحلـي والثقافة الوطنية "موضة بالية"؟

نعم، العالم يتغير، ولكن إلى أين؟تلك هي القضية.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات