شعاع من التاريخ

شعاع من التاريخ

اقتلوا كل حي.. واحرقوا كل شيء في الجزائر!

كان الجنرال الفرنسي عائداً لتوه من ميدان القتال بعد أن تلقى من رجال المقاومة ضربات ساحقة، ظهرت آثارها على ملامحه وتصرفاته. وعندما توقفت العربة المصفحة أمام مقر القيادة العليا الفرنسية في مدينة الجزائر، انفتح بابها، وهبط الجنرال منكس الرأس، وقد اختفت النجوم والنياشين التي تزين صدره وكتفيه تحت وطأة الوحل وذرات الرمال. وهرول الجنرال "بيجو" مسرعا إلى الداخل حيث أغلق عليه باب حجرته، وانكفأ برأسه على المكتب برهة. ثم هب واقفا فجأة وانفتحت مقلتاه عن بريق غريب، وتقطبت أساريره وزم شفتيه مرارا، ثم ندت عنه آهة مشوبة بالألم وكأنه أحس بلدغة ثعبان سام. وعاد من جديد ليلقي بجسمه فوق المقعد، وهو يبحلق بعينيه في أرجاء الغرفة وكأنما يبحث عن عدوه الجبار عبدالقادر الجزائري الذي يحطم ضلوعه ويزلزل عليه نفسه وكيانه.

وفجأة نهض الجنرال من جديد، وأطلق صيحة خالها مساعدوه وأركان حربه خوار ثور ذبيح، فاقتحموا عليه خلوته. ولشد ما عجبوا إذ وجدوا قائدهم يحدث نفسه بصوت مسموع ويأتي بحركات هسيترية. وحاولوا عبثا أن يهدئوا من روعه. ولكنه أخذ يصيح في الجميع:

"اقتلوا كل حي.. اذبحوا كل امرأة وطفل.. احرقوا كل شيء.. واجعلوها حرب إبادة شاملة في الجزائر"..!

وكان ذلك هو المبدأ الذي سار عليه الجنرال بيجو قائد قوات الاحتلال منذ تعيينه حاكما على الجزائر عام 1840 وبعد عشر سنوات من غزو فرنسا للعاصمة الجزائرية في يونيو 1830. وكان الغزو الفرنسي قد جرى تحت دعوى الدفاع عن شرف وكرامة فرنسا. فقد أهانها "الداي حسين" حاكم الجزائر عندما ضرب دوفال القنصل الفرنسي على وجهه بمروحة من ريش كانت في يده. وكان الداي قد عيل صبره لرفض فرنسا سداد دين عليها لبلاده ولتفوه القنصل بعبارات وقحة اعتبرها الداي تهديدا له.

البطل عبدالقادر الجزائري

منذ تعيين بيجو عامل أصحاب البلاد بكل ما عرف عنه من وحشية وضراوة وشغف باراقة الدماء واستباحة للأرواح. وقد تناسى الحاكم الفرنسي أن استيلاء فرنسا على مدينة الجزائر لم يكن معناه سقوط البلاد كلها في أيدي الغزاة، فقد تولى قيادة المقاومة البطل عبدالقادر بن محيي الدين دون أن تفتر مقاومته ومقاومة رفاقه المجاهدين ضد الغزاة طوال سبعة عشر عاما.

كان الأمير عبدالقادر يدرك ان الجنرال بيجو يهدف إلى إبادة الشعب الجزائري، وما أكثر الأحداث التي بلغته، ومن بينها قيام القائد الفرنسي بإصدار الأوامر إلى جنوده بمداهمة قبيلة العوفية ليلا وهي نائمة في خيامها، وأمعنوا في ذبح هؤلاء المساكين الذين لم يتمكن فرد واحد منهم الدفاع عن نفسه.

وتم قتل جميع أفراد القبيلة دون تمييز بين الجنس أو السن. وعند الرجوع من هذه الحملة المخجلة كان الفرسان من الفرنسيين يحملون رءوس القتلى على أسنة رماحهم. أما حادث حريق "الكهف" الذي أوت إليه قبيلة أخرى بأسرها فقد كان مثالا آخر للخسة والدناءة. فما كاد الجنود يكتشفون الكهف حتى وضعوا أمامه وعلى مداخله أكواما من الحطب والقش. ثم أوقدوا فيها النيران. فلما جاء الصباح ودخلـوا الكهف وجدوا جثث من 780 من الضحايا بين رجال ونساء وأطفال مفككة الأوصال ممزقة الاشلاء. وكانت حجة الاستعمار في هذه الحرب المبيدة واضحة وهي أن "الجزائريين شعب يرفض الاستسلام، فلكي نقهره يجب علينا أن نحطم اقتصاده وأن نقضي على قراه".

وكان لابد لعبدالقادر أن يجمع كلمة القبائل حوله لكي تقوى على مقاومة العدو الأجنبي وإخراجه من البلاد. وخاض الأمير عدة وقائع فاز فيها على الفرنسيين ولاسيما واقعة وهران التي انتصر فيها انتصارا مبينا. وحين بلغه أن الفرنسيين احتلوا تلمسان قام على رأس رجاله بهجوم سريع على المدينة وتمكن من الاستيلاء عليها وطرد الفرنسيين منها بعد معركة حامية. وتوالت المعارك بعد ذلك طيلة ست سنوات أنشأ الأمير خلالها مدينة متنقلة سماها "الزملة" تتألف من عدة خيام تتبع الجيش في حله وترحاله. وكانت الزملة نقمة كبيرة على الفرنسيين حتى استطاعوا الوصول إليها بواسطة بعض الخونة فأحرقوها ونهبوا ما كان بها من معدات ومؤن.

حرب التحرير والاستقلال

في عهد عبدالقادر كانت هناك حرب بين الجيش الفرنسي بقواته الوافدة وبين الجزائر بجيشها النظامي والمجاهدين. وبعد عبدالقادر تحولت الحرب إلى ثورة بل إلى ثورات محلية دوخت الفرنسيين طوال الفترة ما بين اليومين التاريخيين: يوم 5 يوليو 1830 الذي تم فيه الغزو، ويوم الأول من يوليو 1962 حيث أسفرت آخر الانتفاضات عن بزوغ فجر الاستقلال. فعلى الطريق الملتهب بين الرصاصة الأولى التي أطلقها الأحرار إيذانا ببدء الثورة في أول نوفمبر 1954 وبين الرصاصة الأخيرة التي أطلقوها أيضا ابتهاجا بوقف القتال توطئة لإجراء الاستفتاء في أول يوليو 1962 قصة نضال مرير دام نحو سبعة أعوام ونصف العام منذ إعلان ثورة التحرير في أول نوفمبر 1954، وانتصر الايمان على وفرة معدات القتال والدمار. وكان جيش التحرير الوطني طوال تلك الفترة يواصل نشاطه ويوسع نطاق أعماله الحربية ويصمد صمود الجبابرة أمام نصف مليون من الجنود الفرنسيين الذين حشـدوا في الجزائر لاخماد الثورة.مرت حرب التحرير بثلاث مراحل، أولها فترة الإيقاظ والاستنفار، وثانيها فترة الإرهاب الفرنسي، وثالثها فترة الكفاح الأخير السابق للاستقلال.

وخلال هذه الفترات الثلاث برزت زعامات وطنية شارك بعضها في حرب التحرير والبعض الآخر في النضال السياسي. ولعب موقف العديد من الدول العربية دورا بارزا في مواصلة الجزائريين لكفاحهم ضد الفرنسيين، ولم يلبث أن اضطر ديجول لترك الخيار للجزائريين بين الاندماج مع فرنسا أو الاستقلال، وفضل الجزائريون الاستقلال، فكان أن تم التوصل إلى معاهدة إفيان في مارس 1962 التي مهدت لإعلان استقلال الجزائر في أول يوليو 1962.

وهكذا كان.. فبالأمس اندفع شعب الجزائر إلى أقصى حدود الاندفاع في جهاده المسلح لتحرير وطنه واستعادة استقلاله وممارسة سيادته بعد أن انتهى في البلاد نشاط الإرهابيين والمخربين من أعضاء المنظمة السرية الفرنسية وغلاة المستوطنين المقيمين الذين ساروا على مبدأ بيجو القائل "اقتلوا كل حي واحرقوا كل شيء".

واليوم يفتح الجزائريون عيونهم مع فجر كل يوم جديد على ما يرتكبه إرهابيون جدد.. ليسوا فرنسيين هذه المرة.. ولكنهم جزائريون تشبعوا بهذا المبدأ.. وراحوا ينفذونه مرة أخرى.. من ذبح للشيوخ والأطفال وبقر لبطون النساء.. مع نار تأكل وتحرق كل شيء في الحياة.

 

سليمان مظهر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




البطل عبدالقادر الجزائري