واحة العربي

واحة العربي

التوابل
لذة الاهتمام والتواصل وقطع طريق القوافل

في سنة 408 ميلادية، اجتاح ألارك الأول ـ ملك القوط ـ الإمبراطورية الرومانية، وحاصر العاصمة روما، وطلب أن تكون التوابل ـ وبالذات الفلفل ـ جزءا من الفدية حتى يفك الحصار، وقد رفض قبول بدائل من ذهب أو أسرى أو حيوانات، فلما لم تستطع روما الاستجابة لطلبه من التوابل، شدد الملك ألارك الأول حصاره ثم لم يلبث أن نهب عاصمة الرومان ـ وعاصمة الدنيا كلها في ذلك الوقت، وبعد ذلك بدهور قام واحد من المدرسين في المرحلة الابتدائية بتطليق ابنته من مهندس مغرم بالفلفل الأسود، كما أن جدتي وضعت الفلفل الأحمر مسحوقا في كمية من التبن حتى تتعرف على اللص الذي يستولي على علف بهائمها، كان اللص جارها وكانت بهائمه قد انطلقت ثائرة في عصبية تداهم الحوائط والأزيار فور ذلك، وحادثة شهيرة في جنوب مصر العليا أثناء تهجير أهل النوبة عام 1964 بسبب تصميم امرأة عجوز أن تصحب معها لفافة ـ تحت إبطها ـ كانت سبباً في إصابة كل من كان على ظهر السفينة بالعطس بمجرد فتحها لمعرفة محتوياتها: فلفل أحمر وأسود وشيح وكمون، وقد رفضت العجوز إلقاء اللفافة في النهر، فاضطر أصحاب الأمر والنهي أن يزيدوا كثافة اللفافة حتى لا تتسلل منها الرائحة النفاذة.ولا نعرف أمة معاصرة لا تعرف التوابل، أو البهارات، أو الكاري، ولا أي مجتمع يجهل شيئا عن شئونها، ففي قبائل البوشمن الإفريقية، كان الساحر يرش مسحوق الزنجبيل والينسون ـ أو الأيسون أو القيسون ـ على جذع الشجرة المقدسة، وعند اشتعال النار تداهم الرائحة جموع البوشمن الصارخين بالولاء خشية الشيطان، دموعهم تجري في غزارة، فالبهارات منتجات نباتية ذات رائحة حريفة قوية، وذكية أيضا، تستعمل الآن لإعطاء الطعام نكهة ومذاقاً، وكانت من قبل أكثر اتساعا في استخدامها حتى في بعض المشروبات، وتشمل الفلفل "بأنواعه المتعددة" والخردل واللبان الهندي والقرنفل والقرفة وجوزة الطيب والكراوية والأيسون والزعتر والنعناع ـ وأسماء أخرى لأنواع لا نعرفها مثل المردقوش والقصعين، وبالتالي نسقطها من هذا المقال ـ حتى نرتاح، وتؤخذ البهارات بمعالجة الأجزاء الأغنى نكهة في النبات: اللحاء أو الجذع أو البرعم أو الزهرة أو الثمرة أو البذرة أو الورقة. وتستعمل هذه البهارات ـ في الأغلب ـ على هيئة مسحوق، وبعضها في صورة خلاصات زيوتها الأساسية، وكثير منها يستعمل دو ن تخليص مثل رءوس الثوم، والكراوية، والخردل. وتقضي البهارات على الملل الذي يصيب كبار القوم من الاعتياد على مأكولات معينة، كما أن جماعات عديدة لا تذوق طعامها ـ الفقير أو الدسم ـ دون معالجته بالبهارات، ولذا فإن الظاهرة التي كانت تثير العجب عند ورودها في التاريخ صحيحة وقائمة على أسبابها الكامنة في اشتهاء الطعام: قوافل البهارات من الجمال الصابرة القوية تخترق القارات عبر الصين والهند إلى موانئ البحر المتوسط أو الخليج العربي، ووراء هذه القوافل كانت أسرار من حروب ومعاهدات واجتياح ونهب وقيام دول وانهيار أمم. لقد كان الفلفل الأحمر والزنجبيل والكمون عناصر أساسية في حضارات تهىئ المعدة الشبعانة لمتعة العقل المطمئن، وكانت كمية من البهارات تصل ـ آخر الأمر ـ إلى أسواق أوربا تجعلها تعيد التفكير بخياشيمها المفعمة بالرائحة النفاذة ـ أو الحريفة، وعندما قطعت طرق القوافل بواسطة المغول والقوقاز والأتراك، داهمت أوربا رغبة حادة في البحث عن طريق أكثر أمانا للحفاظ على مطلوباتهم من التوابل الثمينة، وهو ما أدى إلى اكتشاف طرق جديدة حول إفريقيا عبر المحيطات الواسعة، وكانت الأثمان المرتفعة وما يترتب عنها من أرباح البهارات سبباً في منافسة مريرة بين الدول الأوربية، داخل أوربا وخارجها، وحتى بعد اكتشاف مساحات شاسعة تنتج البهارات في إفريقيا، بديلاً عن الهند، ظلت الرغبة الدولية في البهارات أعلى من أي مساحات جديدة، إنها لا تشبع، فظلت الهند ـ حتى الآن ، ومعها جنوب آسيا ـ بؤرة رغبات الشعوب في التوابل، لكن المساحة الإفريقية ساعدت على انتشار التوابل، أو تعميمها، لتصبح في متناول يد كل الجماعات البشرية، حيث لا تخلو القرى ـ في مصر ـ من بائع للتوابل، دون أن نغفل العين عن هؤلاء الغرباء الذين يخترقون الكفور والنجوع يسيرون خلف الحمير لينادوا على الشطة والفلفل ومسحوق دود البطن، ذلك أن التوتر العصبي العصري استحدث أمراضه الخاصة مستعيناً بالتوابل، لتظهر قرحة المعدة على رأس القائمة، ثم اتضح أن أمراضاً أخرى تعشق هذه البهارات عشقاً دموياً: تهيج المصران الغليظ، وارتكاريا البولينا بما فيها الحساسية الجلدية، والهرش، وانهيار المساحة الصوتية لتشابه صوت الوطواط، ومع ذلك فإن الرجال والنساء الذين يبحثون عن لحظات ساخنة يميلون إلى التشبع بمأكولات مشبعة بالتوابل، "هل لهذا السبب يخفت صوت العرسان في الصباحية" كما أن محلات الكشري والطعمية والبيصارة والعدس تميل إلى إشعال ال نار في مأكولاتها بتجهيز "خلطة" منفصلة عن الطعام كي يتصرف فيها كل واحد بالطريقة والكمية التي يريدها، وهو ما أدى بي ذات مرة ـ بين جبال البحر الأحمر ـ أن استعذبت أكلة مكونة من السمك المهروس في الفلفل المملح، كان طعمه عذباً ولذيذاً، "فقضيت شهرا في المستشفى بسبب إصابتي بالحمى"، كذلك فقد نمت أسبوعين في مستشفى آخر بسبب التهامي للحوم متبلة بعدد غامض من التوابل، كانت فخذ جمل قديمة عند أهل قرية موط بالصحراء المصرية الغربية، وخلال فترة نومي مريضا كنت أركب حصانا وأقطع به طريق القوافل حيث وقعت أسيرا مرات عديدة في شمال الجزيرة العربية، أو عند صنعاء اليمن، أو في ميناء سواكن الإفريقي، حتى يأتي الطبيب ليوقف خيالاتي المشتعلة بحقنة تخدير جديدة.

 

محمد مستجاب

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات