الديموقراطية والفخ اللاإنساني.. د. سليمان إبراهيم العسكري

الديموقراطية والفخ اللاإنساني.. د. سليمان إبراهيم العسكري

الإنسانية مهددة باللاإنسانية، هذا ما يمكن ملاحظته في مجريات الأحداث والوقائع التي تتناوب على عالمنا بشكل جارف، والتي يعكسها الاستعلاء والأنانية الشماليان اللذان أفرزا أهم أسباب أزمة غلاء أسعار الغذاء العالمية الأخيرة على سبيل المثال، هذا من جهة، ومن الجهة المقابلة يعكسه تعصب وتشنج وارتدادات ثقافية تسود عالم الجنوب، فهل تكون الديموقراطية - بوجهها الإنساني - هي المنقذ من هذا الفخ اللاإنساني الذي يهدد العالم بأسره؟

  • إذا كانت أقنعة التسلط الشمالي تستدعي ضرورة كشفها لبيان ما تخبئه من استعلاء، فإن أقنعة التعصب الجنوبي توجب العمل على إزاحتها لبيان ما تخبئه من تخريب، بين أهلها وفي محيطها
  • المطالبون بالعودة إلى التقاليد بصور مبالغ فيها، وخارج منطق ومتطلبات العصر، بل تصادمًا معه، إنما يواجهون التشوّه الحداثي بتشوّه آخر يقدم له الدعم!
  • تحوّلت مفاهيم التعددية والتنوع والاختلاف، إلى بذور تفرقة توازي بعنفها وعدم تسامحها الأيديولوجيا العنصرية
  • كرتنا الأرضية تنسحق، ماديًا ومعنويًا، بين أنانية مجتمعات متقدمة تبرر لنفسها حقوقًا استثنائية، وتعصب متفجّر ينتشر في مجتمعات متخلفة

بينما لايزال موضوع القيم - الذي طرحته مؤسسة اليونسكو على نخبة من مفكري العالم على مشارف القرن الواحد والعشرين - لايزال يتفاعل، مستمرًا في البحث عن إجابة عن التساؤل الكبير: القيم إلى أين؟ نجد أنفسنا في خضم مستنقع آخذ في الاتساع مع ارتفاع أسعار السلع الغذائية، الذي يهدد مئات الملايين من البشر بالمجاعة أو ما يشبه المجاعة، وينذر بموجات من القلق السياسي والاجتماعي وربما الحروب أيضًا. هذا المستنقع ما كان له أن يتسع، إلا لأن وراءه جنوحًا ثقافيًا في شكل قيم مختلة تطرأ على عالمنا، أو تعيد إنتاج نفسها بأشكال جديدة، ومفاد هذه القيم هو الأنانية التي لا تبررها إلا ادعاءات ثقافية تسوغ حق العيش بأشكال استثنائية لبعض الزاعمين بتمايزهم الحضاري أو تقدمهم في المدنية، بينما بقية البشرية لا تستحق هذه الاستثناءات. هذا الشعور بالاستعلاء عبرت عنه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تشغل المنصب التنفيذي الأعلى في أكبر منتج للوقود الحيوي في أوربا، عندما قالت إن ارتفاع أسعار الغذاء لا يرجع أساسًا إلى إنتاج الوقود الحيوي، بل إلى «قصور السياسات الزراعية في البلدان النامية وإلى تغير العادات الغذائية» في الأسواق الناشئة. وأضافت: «من يسافر إلى الهند هذه الأيام سيلاحظ أن النقاش الرئيسي يدور حول الوجبة الثانية.. الناس يأكلون مرتين في اليوم وإذا كان ثلث الشعب الهندي البالغ تعداده مليار نسمة يفعل ذلك فهؤلاء عددهم 300 مليون نسمة. ذلك جزء كبير من أوربا الغربية».

وعن القيود التي يفرضها الاتحاد الأوربي على منتجات الألبان قالت المستشارة الألمانية: «إذا استهلكوا فجأة طعامًا يعادل ضعف ما كانوا يستهلكونه وإذا بدأ 100 مليون صيني في شرب الحليب أيضًا فإن حصص الحليب لدينا ستقل».

إن هذا التصور لدى المستشارة الألمانية، يعكس استعلاء ثقافيًا واضحًا، يبرر حقوقًا استثنائية لبعض الشعوب - المتميزة، وينكر على بقية سكان الأرض أن يأكلوا وجبتين في اليوم أو يشربوا كوبًا من الحليب. وهو تصور عنصري بكل المقاييس، يعبر عن عجرفة تاريخية وجنوح في القيم كانا وراء كثير من المآسي الإنسانية التاريخية، كما في الظاهرة الاستعمارية وتجارة العبيد، وهو جنوح لايزال حيًا بتوحش في ما تمارسه إسرائيل من ممارسات عنصرية ودموية ضد الفلسطينيين، وهي ممارسات يغض العالم «المتميز» بصره عنها، بل يبررها أحيانًا وبأشكال فجة تفتقر إلى الإحساس بالعدالة الإنسانية، وتفتقر إلى الحس الأخلاقي، وتتسربل بادعاءات محاربة التطرف وحقوق الأمن ومحاربة الإرهاب، وهي مقولات براقة تبدو منطقية وتتكئ على بعض الممارسات اليائسة للمقهورين، لكنها تخفي وراءها تعصبًا يقصر حقوق الأمن والعيش في سلام على بعض البشر دون الآخرين، بل على حساب الآخرين. إنها لاإنسانية تهدد كل ما هو إنساني كلما اتسعت، وهي بأقنعتها الثقافية تستنفر تشنجًا وتعصبًا لاإنسانيين أيضًا، وبين شقي الرحى تنسحق القيم الإنسانية، وتتهدد الحياة الإنسانية، ليس فقط بين جانبي المواجهة - الشمالية الجنوبية - بل يتسلل هذا التهديد إلى داخل مجتمعات كل طرف من الطرفين.

جنوح وجنوح مضاد

إن الجنوح القيمي المختبئ في طروحات العولمة من قبل دول الشمال الغنية والمدججة بالقوة مختلفة الأشكال، التي لا تفهم العولمة إلا كسبيل للهيمنة، يقابله جنوح مضاد من مجتمعات في الجنوب تخبئ دفاعها المتشنج عن الذات في صورة مطالبات ثقافية تتسم بالعنف، وتتشبث بالعرق والعنصر والقيم المندثرة. والنتيجة أن طرفي هذه المواجهة يغذي كل منهما جنوح الآخر، فيتضاعف تهديد اللاإنساني لكل ما هو إنساني. يقول فولتير إن «اللاإنسانية هي أسوأ الرذائل»، واللاإنسانية صارت تتسلل إلى الخطابات الثقافية تحت أقنعة شتى، ولعل أخطرها هي أقنعة القيم والموروث. وإذا كانت أقنعة التسلط الشمالي تستدعي ضرورة كشفها لبيان ما تخبئه من استعلاء وادعاء للجدارة والحقوق الاستثنائية على كوكب الأرض، فإن أقنعة التشنج الجنوبي توجب العمل على إزاحتها لبيان ما تخبئه من تخريب مادي ومعنوي، بين أهلها وفي محيطها. ولقد تصدت لهذه المهمة بوعي وجرأة المفكرة التونسية هالة الباجي، التي شرعت تقول - في معرض حديثها عن «ثقافة اللاإنساني»»: «حين اخترت أن أعالج موضوع ثقافة اللاإنساني، دمجت بين كلمتين هما من حيث المبدأ متناقضتان، ففي الواقع رسخ الإنسان المعاصر في وعيه أن الثقافة هي أساس وجوهر إنسانيتنا. إننا لا نشعر بالمنحى الإنساني من دون هذه العلاقة المحسوسة مع ثقافتنا، أيا تكن هذه الثقافة. وإن حركة إزالة الاستعمار اكتشفت مبدأ «إنسانويًا» عريضًا يفترض تكافؤ كل الثقافات في ما بينها، مما يفسح أمامها جميعًا الطموح لأن تحصل على الاعتراف الشامل بها. هذا المبدأ أتى ردًا على فكرة هرمية الحضارات التي طالما التصقت بالنوايا الاستعمارية ومهّدت لها وبررتها». لقد أُعيد الاعتبار لكرامة كل الثقافات من أجل نقض الفكرة العنصرية القائلة بالإنسان المتحضر (وكان يقصد بها الإنسان الأوربي - المستعمِر). لكن في الحقيقة، بعد الانتصارات الوطنية لحركة إزالة الاستعمار، اتخذت هذه «الإنسانوية» الثقافية منحى مختلفًا. لقد اكتشف المتحررون من الاستعمار شكلاً جديدًا من الكبرياء الثقافي، يتمثل في استنباط فكرة مسبقة تعاكس الفكرة الاستعمارية. وتحولت مفاهيم التعددية والتنوع والاختلاف - كرد فعل انتقامي وجانح - إلى بذور تفرقة توازي بعنفها وعدم تسامحها الأيديولوجيا العنصرية، بعد أن حل الثقافي محل العنصري، وأضحت كل ثقافة، قوية أو ضعيفة، تمجيدًا للذات يعجز عن انتقاده أي منطق، لأن كل ثقافة لا تعترف إلا بمنطقها الخاص، فلامجال لأي حيادية في الحكم بينها، وما من قانون يمكنه الفصل بينها، لأن كل ثقافة تسن قوانينها على ضوء اقتناعها الخاص. اندثر التفتيش عن الحرية التي كانت في أساس أي تحرر إنساني في الثقافة أمام التفتيش عن الهوية بتشنج وتعصب، وصار التعلق المرضي بما يدعى جذورًا ثقافية هو التمايز الجديد لدى فئات منافية للثقافة. صار الخطاب حول الاختلاف - الذي كان من المفترض مبدئيًا أن ينمي الحرص على ما يسمّى الاعتراف بالآخر- صار متشددًا ومتمسكًا بالهوية المفتعلة. وعن هذا الافتعال تورد الكاتبة والمفكرة التونسية صورة مفعمة بالمرارة تؤشر إلى الخلل بين طرفي المواجهة، تقول: «ألا يعتبر محتومًا، في مواجهة هذه الحداثة الشرسة، وهذا العالم التائه الذي فقد خصوصيته، أن يقوم كل واحد بالتنقيب في ذاكرته لإحياء صورة منزل أو شجرة نسب أو ماض أو شخص تاريخي أو مدى عائلي يمنحه شعورًا بالمناعة في وجه محنة العالم؟ فحين تنفتح أمام الإنسان هاوية عالم من دون حدود، ويضل الطريق، ويتوه في مشهد بلا معالم، ألا يصبح مشروعًا له أن يحل التراث محل حقوق التقدم؟ أي صار الهروب إلى الماضي نوعًا من اتقاء تبعات العيش في الحاضر والتوجه نحو المستقبل، وهو خلل مؤجل النتائج، ونتائجه وخيمة على الذات المتشنجة وعلى العالم بأسره، وهو أمر يدعونا إلى تعميق البحث عن آلية إفراز هذا التشوه ومصادر نشوئه».

أين يكمن الخلل؟

لقد كان يؤمل، في مواجهة مظهر البؤس الأخلاقي الناجم عن التقدم، أن يعطي التمسك بالتقاليد لمحنة عيشنا المعذب زخمًا داخليًا، أو حنانًا إنسانيًا، لكن على عكس ذلك، فإن العودة إلى التقاليد تنحرف للتحول إلى فكرة فظة، إلى حالة ضاغطة، حاملة في ثناياها الشوائب، حتى أنها أصبحت هي نفسها وليدة الحداثة في مظاهرها الأكثر شراسة. لقد تشوه مفهوم بعث التقاليد، لأن حق العودة إلى التراث غالبًا ما يستعمل في البلدان المتحررة من الاستعمار لأغراض لا تمت إلى المساواة والحرية بصلة. ويصير قتل البشر مبررًا لمجرد أنهم مختلفون في الهوية أو الثقافة أو العرق، ويرتدي هذا التبرير أقنعة شتى من أقنعة تقمص الدفاع عن الهوية، أي الدفاع عن رؤية ذاتية في ثقافة ما، ومصدر هذا الخلل هو اختزال كرامة الإنسان في أصوله العرقية والدينية والوطنية، بينما الإنسان هو كذلك لأنه بشر بحكم الطبيعة التي أبدعها رب الناس أجمعين، وهو لهذا ينبغي أن يكون مصونًا مادام ليس معتديًا ولا باغيًا بغض النظر عن عرقه أو وطنه أو معتقده.

وجهان لعملة واحدة

إن الأنانية التي تقوم عليها دعاوى التميّز الثقافي والاستحقاقات الاستثنائية التي اكتنفت أحاديث بعض الغربيين تبريرًا لتدمير المحاصيل الغذائية للحصول على «الوقود الحيوي» لتشغيل ماكينة المظاهر الحداثية الغربية الهائلة، نهمة الاستهلاك، التي لا تعبأ بأحد غيرها من سكان هذا الكوكب، إنما هي مظهر من مظاهر الحداثة المشوّهة في مجتمعات الشمال. ومن الغريب أن تشوها موازيًا يمكن رصده في رد الفعل المقابل من مجتمعات الجنوب أو العالم الثالث أو الدول الفقيرة، فالمطالبون بالعودة إلى التقاليد بصور مبالغ فيها، وخارج منطق ومتطلبات العصر، بل تصادمًا مع منطق العصر ومتطلباته، إنما يجارون هذا التشوّه الحداثي بمثله، لأنهم يبدون نوعًا من الأنانية الثقافية - إذا صح أن نقرن الكلمتين معًا - ويستعملون وسائل حداثية في الترويج لرد فعلهم المشوّه، وهذا تعيد إنتاجه الحداثة الغربية المشوهة لتبرير وتسويغ تشوهها.

فملامح التعصب التي تبديها بعض المجتمعات في الجنوب، صارت وقودًا لوسائل الإعلام الحديثة من فضائيات ومواقع ومدونات على شبكة الإنترنت، وكلها تتكامل، فيتماهى الجاني مع الضحية، وينتجان معًا دائرة تخريب قيمي خبيثة تغذي ذاتها بذاتها، فتخدم الأنانية في الشمال التعصب في الجنوب. وينمو التعصب في الجنوب من خلال أنانية الشمال، والخاسر هو مجمل سكان كوكبنا، جنوبًا وشمالاً على السواء. وفي لمحة ثاقبة ومؤلمة تلاحظ الكاتبة التونسية هالة الباجي أن الظلامية التي يمكن تحديدها بأنها «الطغيان الذي تمارسه الحيلة على الجهل» يفرخ نوعًا جديدًا أو حداثيًا من الظلامية يتمثل في ظلامية خاصة بوسائط الاتصال، التي تنصّب نفسها حاكمًا على الفكر الإنساني، فوسائل الاتصال الحديثة، بالرغم من أنها الوسيلة الأولى في العالم لإيصال المعلومات، «تعتبر آخر وسيلة في تعميم الوضوح، حيث يتم تنمية الوهم عند الناس بأنهم يعبرون عن أنفسهم، ولكن لا يتم تنمية طاقتهم على الفهم المتبادل، فوسائط الاتصال تضاعف ما هو غير مفهوم، لأن فقدان الوجهة الصحيحة في وسائط الاتصال، يتم التعبير عنه بمزايدة ثقافية تقتصر على الجوانب الانفعالية، فتقدم أفضل خدمة للتعصب»، ومن هذا التعصب تتغذى التبريرات الفاسدة التي تسوقها الأنانية الغربية أو الشمالية لتنعم باستثناءات التفوّق على الآخرين.

حبل النجاة

إن الإنسانية تغرق، أو تكاد، في ما هو لاإنساني، وكرتنا الأرضية تنسحق، ماديًا ومعنويًا، بين أنانية مجتمعات متقدمة تبرر لنفسها حقوقًا استثنائية وكأنها تعيش منفردة على هذا الكوكب، وتعصب متفجّر ينتشر في مجتمعات متخلفة، ويقدم بظلاميته تبريرًا إضافيًا لأنانية البعض في الشمال. وإزاء هذه الدائرة المغلقة والخبيثة من تدهور القيم الإنسانية بين الشمال والجنوب، يتصاعد التساؤل عن سبيل للخروج ووسيلة للنجاة من هذا التدمير، المادي والمعنوي، فلا نجد أمامنا غير الوجه الإنساني للديموقراطية، ليس فقط بالملامح السياسية للديموقراطية، بل بمضمونها الثقافي العميق، وهو ما يحتاج إليه الشمال والجنوب على السواء، تدريبًا على التعايش بين فرقاء مختلفين، طبقًا لبديهيات ديموقراطية يلتزم بها الجميع، كاحترام الاختلاف، واحترام حقوق الإنسان كإنسان، والدفاع عن حق الغير في الحرية والكرامة والحياة لأنه جزء متمم للدفاع عن حرية وكرامة وحياة الذات، وهذه ليست مجرد تهويمات مثالية، فعالمنا الذي يعيش في ظلال الرعب الفردي والجماعي، ويعاني تلوّثًا غير مسبوق في بيئته، وأزمات وصلت إلى حدود المجاعة بين كثير من بني الإنسان، لهو في أشد الحاجة إلى الجوهر الإنساني في ثقافة الديموقراطية.

 

 سليمان إبراهيم العسكري