جمال العربية

جمال العربية

مدائح الشعر.. هل تقلل من قيمته؟

تعرض شعر المديح في تراثنا العربي لظلم شديد وبلغ الأمر ببعض الدارسين حد رفضه جملة وتفصيلا واعتباره خارج السياق الشعري بالمعنى الفني الأصيل، على أساس أنه قيل ابتغاءً لتكسب أو منفعة، خاليا من قيم الصدق الفني، بعيداً عن حرارة الدفء الإنساني ممتلئا بالكذب والتزوير والمبالغة.

لكن شعر المديح يبقى من وجهة نظر مغايرة لهذه النظرة الظالمة ناصع الدلالة على موقف آخر لايعيب الشاعر ولايشينه، بقدر ما يرتفع به ويسمو بإبداعه ويضعه في موضعه الصحيح. إن الشاعر المبدع وهو يمارس فعل المديح الشعري، إنما يصنع ممدوحه على عينه، ويشكله في الصورة التي يريدها له، بحيث تطالعنا صورة الممدوح في شعر مادحه بديلا للأصل الواقعي، أكثر سموقا وارتفاعا وإشراقا.

لكأني هنا بالشاعر يقول لممدوحه أريدك أن تكون على هذه الصورة التي رسمتها لك، وعلى هذا المستوى من الحضور الإنساني والمعنوي الذي أرجوه لك، ولعلك ـ أيها الممدوح ـ أن تنجح في أن تكون مقاربا للصورة والمستوى، محققا للرؤية الشعرية الإبداعية في وجودك الإنساني الحقيقي.هذا النظرة المغايرة لشعر المديح، أراها أوضح ماتكون في إبداع أبي تمام أو البحتري والمتنبي، وغيرهم من شعراء المديح الكبار، تنطق تجليات نصوصهم بهذا الوعي العميق بما يصنعه الشاعر المادح من إعادة تشكيل لممدوحه، ووضع له في الصيغة التي ارتضاها الشاعر.من هنا يمكننا الاقتراب الشديد من روح أبي تمام وسموق إبداعه الشعري في هذا النص الشعري البديع الذي يقدم من خلاله صورة ممدوحه وكأنه ينحت ـ باللغة ـ تمثالا فريدا لاينقصه اللون ولا لمسة التهذيب والتشكيل ولا الروح المتدفقة في الوجود إيناسا وبهجة ومشاركة.

يقول أبوتمام:

هذب في جنسه ونال المدى

بنفسه، فهو وحده جنس

ضمخ من لونه، فجاء كأن قد

كسفت في أديمه الشمس

يشتاقه من جماله غده

ويكثر الوجد نحوه الأمس

أيامُنا في ظلاله أبداً

فصل ربيع ودهرنا عُرس

لا كأناس قد أصبحوا صدأ العيش

كأن الدنيا بهم حبس

القُرب منهم بعد من الروح

والوحشة من قربهم هي الأنس

سطور مضيئة من تراثنا العربي

جاء في كتاب "قانون البلاغة" لأبي طاهر محمد بن حيدر البغدادي هذه السطور التي تمثل فهم القدماء لفكرة البلاغة وطبيعتها، وجهدهم الدائب من أجل تجلية معانيها والحض على التمسك بها والوعي بما يلزم لها من عدة وزاد.

وموطن الجمال في هذا الكلام الذي مضى عليه أكثر من ألف عام أنه ينبض بالعلاقة الحميمة التي كانت بين المبدع العربي ولغته، لفظا وروحا، حسا ومعنى، دلالة ومجازا. هذا التواصل الحميم حتى درجة الفناء الصوفي والذوبان الكيميائي، وهذا الفهم العميق لأسرار الكلمة منفردة وفي داخل السياق، شاهدا عدل على اهتمام هؤلاء الرواد الكبار، من هنا فقد استحقت كلماتهم المضيئة بالوعي والبصيرة والصدق أن تبقى حية مؤثرة، مشيرة إلى النهج والسبيل وروح التوجه وأسلوب الاستبصار.

يقول أبوطاهر البغدادي: "يحتاج البليغ في موضع إلى الإطالة والإسهاب، كما يحتاج في آخر إلى الاختصار والإيجاز، إلا أن أكثر ما عليه الناس من البلاغة أنها الاختصار، وتقريب المعنى بالألفاظ القصار. حتى إنه سئل بعض الناس عن البلاغة فقال: هي لمحة دالة وهذا مذهب العرب وعادتهم في العبارة، فإنهم يشيرون إلى المعاني بأوجز إشارة، ويستحبون أن تكون الألفاظ أقل من المعاني في المقدار والكثرة.

فأما ما يصلح للكتاب، ويليق بذوي الألباب، أن تكون ألفاظهم غير ناقصة عن المعاني ولا زائدة عليها. كما وصف بعض الكتاب واصف فقال: كأن ألفاظه قوالب لمعانيه. يريد أنها مطابقة لها، غير زائدة عليها، ولاناقصة عنها. وهذا المذهب هو الذي يجب أن يستعمله الكتاب، إذا لم يكن موضع يحتاج فيه إلى الإسهاب.

فإنه يحكى عن جعفر بن يحيى البرمكي، وكان قريع دهره ووحيد عصره، بلاغة في المكاتبة وجودة لسان في المخاطبة، أنه قال: إذا كان الإيجاز كافيا كان التطويل عياً، وإذا كان التطويل واجباً كان التقصير عجزاً. وقال ابن الأعرابي: قال لي المفضل: قلت لأعرابي: ما البلاغة؟ فقال: الإيجاز من غير عجز والإطناب من غير خطل".

ثم يقول أبو طاهر البغدادي: "وينبغي أن تعلم أن البلاغة لما كانت إحدى الصناعات، كان لها ما لكل صناعة من المبادئ والموضوعات والأدوات، وأنه ليس واجباً على كل متعلم لصناعة أن ينظر في مبادئها وموضوعاتها ولا أن يعلم أدواتها". ثم يقول: "كذلك من أراد أن يتعلم البلاغة لم يلزمه مع تعلمه أن يتعلم أدواتها التي لاتتم إلا بها، ولا أن يبحث عن معانيها وموضوعاتها التي يحتاج إلى ضرورة فيها، كما لايلزم غيرها من الصناعات. فإنه لو لزمنا البحث عن موضوعات البلاغة وتعلم أدواتها لاحتجنا إلى النظر في اللغة والنحو، وتعلم القياس والجدل مع تعلمها، فطال ذلك وأدخلنا في الصناعة ما ليس منها".

من أسرار العربية

جاء في المعجم الكبير:

قال ابن فارس: الهمزة والنون والسين أصل واحد وهو: ظهور الشيء، وكل شيء خالف طريقة التوحش.

ويشير المعجم الكبير إلى معنيين رئيسيين، الظهور والسكون إلى الشيء والاطمئنان إليه.

يقال: أنس به يأنس ويأنس أنساً: سكن إليه، وزالت عنه الوحشة، قال المرقش الأكبر:

ومنزل ضنك لا أريد مبيته

كأني به من شدة الروع آنس

أنس به يأنس أنسا وأنسه وإنسا

قال عبيد بن أيوب:

علام ترى ليلى تعذب بالمنى

أخا قفرة قد كاد بالغول يأنس

ويقال: أنست إليه

قال بشار بن بشر المجاشعي:

إذا غاب عنها بغلها لم أكن لها

زءورا ولم تأنس إليَّ كلابُها

"زءوراً: مبالغة من زائر"

ويقال: آنس فلاناً إيناساً: أزال وحشته

وفي المثل: الإيناس قبل الإبساس

"الإبساس: التلطف"

يضرب في المداراة عند الطلب

وقال عمر بن أبي ربيعة:

ومحدث قد بات يؤنسني

رخص البنان مهفهف الخصرِ

ويقال: آنس الشيء: أبصره، وفي القرآن الكريم:

سورة طه آية 10 إني آنست ناراً "سورة طه الآية10" وفي حديث هاجر: فلما جاء إسماعيل عليه السلام كأنه آنس شيئا.

وقال زهير بن أبي سلمى يمدح هرم بن سنان

فقلت والدار أحياناً يشط بها

صرف الأمير على من كان ذا شجن

لصاحبيّ وقد زال النهار بنا

هل تؤنسان ببطن الجو من ظعنِ

"الجو: اسم موضع. الظعن: النساء في هوادجهن"

ويقال: آنسه: علمه. وفي القرآن الكريم:

سورة النساء آية 6 فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم "سورة النساء آية 6"

وآنس الصوت: سمعه. قال الحارث بن حلزة اليشكري يذكر ناقته:

آنست نبأة، وأفزعها القناص عصراً وقد دنا الإمساء واستأنس: استأذن، وفسر به قوله تعالى:

سورة النور آية 72 يأيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها "سورة النور آية72".

وفي أخبار ابن مسعود: "كان إذا دخل داره استأنس وتكلم.

والآنسة: يقال: فتاة آنسة: طيبة النفس والحديث.

قال حسان بن ثابت:

فدع الديار وذكر كل خريدةٍ

بيضاء آنسة الحديث كعابِ

والآنسة: الفتاة لم تتزوج "وهي كلمة محدثة"

والجمع: آنسات وأوانس. قال عمر بن أبي ربيعة:

آنساتٍ مثل التماثيل لعساً

مع خودٍ خريدةٍ معطارِ

"لُعساً: جمع لعساء وهي سمراء الشفة. الخود: الشابة الجميلة كثيرة العطر. الخريدة: الحيية".

وقال جرير:

لقد خبرتني النفس أني مزايلٌ

شبابي ووصل المنفسات الأوانسِ

"المنفسات: جمع المنفسة وهي العظيمة القدر".

جديد أقره المجمع

من القضايا اللغوية الطريفة التي شغلت علماء اللغة في مجمع اللغة العربية: باء الجر ودخولها على المتروك أو المأخوذ في الكلام، والرأي الشائع أنها لاتدخل إلا على المتروك.

وكان من رأي بعض العلماء أن من معاني باء الجر أن تكون بمعنى كلمة بدل بحيث يصح إحلال هذه الكلمة محل الباء كقوله تعالى: سورة البقرة آية 16 أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى.

وقولهم: ما يرضيني بعملي عمل آخر.

وقد دخلت الباء على المتروك كما في المثالين السابقين، ويصح دخولها على المأخوذ.

فقد جاء في "المصباح المنير" مادة بدل مانصه: أبدلته بكذا إبدالا: نحيت الأول وجعلت الثاني مكانه، وفي "مختار الصحاح" مانصه في مادة بدل: الأبدال قوم من الصالحين لاتخلو الدنيا منهم، إذا مات واحد منهم أبدل الله مكانه بآخر.

وجاء في "تاج العروس" مادة بدل مانصه: قال ثعلب: يقال أبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه. وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته. وسويته حلقة، وبدأت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتما.

وهناك مثال آخر لدخول الباء على المأخوذ وهو قول طفيل لما أسلم:

وبدل طالعي نحسي بسعد.

ويوضح هذا الفريق من العلماء رأيهم بقولهم: لافرق أن يكون ما تعلق به الجار والمجرور هو الفعل: بدل وفروعه وما تصرف منه، أم غيره بقرينة، كبعض الأمثلة التي سبقت وكقول عروة بن الورد:

فلو أني شهدت أبا سعادٍ

غداة غدا بمهجته يفوقُ

فديت بنفسه نفسي ومالي

ولا آلوك إلا ما أطيقُ

يريد: فديت بنفسي ومالي نفسه: أي قدمتهما فداءً له وبدلاً منه.والطريف بعد هذا كله أن مؤتمر المجمع لم يأخذ بهذا الرأي الذي يقول بأن الباء تدخل على المتروك والمأخوذ معا، ورأى أن ذلك يتعارض مع الضبط الذي ينبغي أن يكون للغة، والدقة التي يجب أن تتسم بها قواعدها وقوانينها العامة، ومن ثم فإن الباء لاتدخل إلا على المتروك أو المحذوف، فإن قلت مثلا: بدلت السهر بالنوم

فالنوم هو المتروك أو المحذوف في هذه العبارة وليس السهر

لوحة شعرية معاصرة

ألهمت الطبيعة الفلسطينية الجميلة شاعرة فلسطين فدوى طوقان فيضاً من اللوحات الشعرية البديعة، صورها خيال محلق وريشة قادرة على الرسم والتشكيل باللون والظل والحركة، في إيقاعات وفواصل موسيقية منغمة، وفي واحدة من هذه اللوحات عنوانها "هنيهة" تحنو الشاعرة بوجدان الأمومة على بعض أجواء قريتها الظليلة الخضراء مصورة جو السلام والتواصل الحميم مع الطبيعة الساحرة.

تقول فدوى طوقان:

من أي ينبوع خفيّ بعيد
يدْفق هذا السلام
يدفق في نفسي كلحن سعيد مفضض الأنغام
هذا السلام المستفيض الطليق
من أين يُفضي إليّ
من أين يهمي عليّ
يحيل روحي جوهراً من نور
معتصراً غبطة كل الدهور

***

هذا الصفاء العذب، هذا الفتون
يغفو بحضن الجبال
هذا المدى يحلم حلو السكون
زمردي الظلال
هذا الهدوء الشاعري العميق
يُغرق روح المكان
يشيع فيه الحنان
ناي على البعد، خلال السفوح
مسلسل حُلمته
تردني أصداؤه محض روح
تسمو به نغمة
تربطه باللاتناهي السحيق
بالعالم الأجمل
بالمطلق الأكمل
فينتشي من خمرة المبهم
مغتبطاً، مستغرقا، مفعم
هنيهة السلام لاتخطفي
ظلك من حولي
انتظري، لا، لاتطيري، قفي
ساكنة الظل
قفي، دعيني وشعوري غريق
في نعسة السكر
أدمجك في شعري
مضيت،
امضي، واغرقي في البعيد
فأنت، أنت الآن هذا النشيد!

***

ترى، هل يتحقق لشاعرة فلسطين الآن بعض هذا الذي تنسمت في ظلاله عبق السلام والأمان حين أبدعت هذه اللوحة الشعرية في أربعينيات هذا القرن؟ وهل نحلم بيوم قريب يعود فيه إلى الطبيعة الفلسطينية ـ بعد أن تتخلص من دنس الاحتلال الصهيوني ـ قدرتها على إلهام الشعراء ألحان الصفاء والجمال؟

إن فدوى طوقان لاتزال تبحث عن "هنيهتها" هناك، ولاتزال قادرة على إبداع الشعر والغناء!

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات