إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

عام بلا طعام"!"

أنا مغرم بالأرقام القياسية. وموسوعة "جينز"، هي كتابي المفضل، ومن هنا كنت أعتقد باستمرار أن من ضرب الرقم القياسي في الإضراب عن الطعام هو السجين السياسي الإيرلندي بوبي ساندس وقد مات في السجن عام 1981 إثر إضراب عن الطعام دام 66 يوماً، لم يتناول خلالها لقمة واحدة.

ولكن زلزالاً ضرب هذه القناعة عندما قرأت عن الهندي شاجموني مهراج ـ هذا اسمه المختصر لأن الحقيقي يمتد على مسافة سطرين على الأقل. فهذا المهراج لم يتناول أي طعام مدة 563 يوماً. أي سنة كاملة، وإنما كان يكتفي يومياً، كما يقول أطباؤه. بكأس من الماء من دون أن تدخل حلقومه لقمة واحدة.

المهراج لم يكن يضرب عن الطعام احتجاجاً، بل هو من قرر، وعن سابق قصد وتصميم أن يصوم مدة عام كامل تنفيذا وتأكيداً لتعاليم المذهب "الجانوي" ـ وهو فرع من الهندوسية، ويقول هذا المذهب إن الإنسان في هذه الحياة يستطيع أن يستغني عن أشياء كثيرة يعتبرها ضرورية، بما فيها الطعام والملابس، وبالتالي فإن المهراج لايلبس أكثر مما يكفل ستر العورة، وهو لايملك حتى الحذاء، لأنه قطع من قريته إلى مدينة بومباي مسافة 500 كلم حافياً.

أكثر من ذلك. عندما قرر أخيراً أن ينهي صيامه ويدفع في جوفه اللقمة الأولى خلال عام، قال لطبيبه: "كنت أحب في الواقع أن أستمر في الصيام، ولكنني لم أفعل لأنني أحب فكرة الاعتدال، ولا أريد أن أتهم بالتطرف".

ومع أن هذه الحكاية نقلتها مجلة "النيوزويك" الأمريكية، ومعها صور أيضاً، إلا أنني لم أقتنع بأن إنساناً يستطيع أن يصوم مدة عام كامل، وأنا مع محبتي لرمضان شهر الخير والبركات، إلا أن متعتي فيه تكون كاملة عندما يصل في الشتاء، حيث النهار أقصر، وقد سألت طبيباً مختصاً بالتغذية إذا كان جسم الإنسان يتحمل أن يبقى كل هذه المدة من دون أي غذاء، فقال: بالتأكيد لا. ثم فكر برهة وقال: أعتقد أنني وجدت السبب، إذ إن الهنود غالبا مايتناولون منقوع الرز، بدل الماء، أي المياه التي يطبخون فيها الرز، ولعل ذلك الهندي كان يعيش على ذلك المنقوع.

وشعر الطبيب بأنه أسدى لي خدمة، وكأن كأساً من منقوع الرز يومياً تعني أن الإنسان تناول فيلاً "!".

لعل السر في أن هذا المهراج بدأ يتدرب منذ كان عمره 14 عاماً على الصيام، يعني أمضى فترة تدريب على الجوع تزيد على 30 عاماً، وبالتالي خطرت لي فكرة ربما يمكن للمنظمات الإنسانية في الأمم المتحدة أن تتبناها وهي لماذا لاتقيم معسكرات تدريب على الجوع في بلدان إفريقيا التي تضربها المجاعة، وكذلك معسكرات مماثلة في بلاد كيم ايل سونج، حيث مات 3 ملايين نسمة خلال أقل من أربع سنوات بسبب الجوع؟ ولو اعتمدت الأمم المتحدة هذا الحل لاكتفت بمنقوع كيس من الرز تطعم به قبيلة كاملة على مدى شهر ثم تعيد تصدير الرز إلينا!

ونحن والحمد لله قوم يقدرون النعمة، ولايكفون عن تلاوة سورة البقرة آية 172 كلوا من طيبات ما رزقناكم.

... ومع ذلك فإن أكثر ما أخشاه هو أن يلتقط بعض الزعماء في العالم الثالث الفكرة، فيبدأوا في فرض "الصيام الإلزامي" على شعوبهم تحت شعار حماية الأمن الغذائي للدولة... وللحاكم.

 

أنور الياسين