الحقيبة الزرقاء

الحقيبة الزرقاء

نظر بعضهم إلى بعض, يقرأون عيونهم وشفاههم وخوفهم, حقيبة زرقاء يرجى من صاحبها الحضور قبل تحرك الأتوبيس, في مقاعدهم يتسللون إلى الشارع من نوافذها, أين وضعها الملعون, كارثة أن يكون مصاباً بعمى الألوان والأزرق عند السائق يساوي الأسود عندي, ربما, أوراقك بالكامل, شهادات الأولاد والبطاقات والزواج والتوفير وأقساط الثلاجة وشهادة العبور. النداء الثالث ينذر في صوت أجش, رفعوا أصابعهم إلى أفواههم وسدوها, ها هي, أخيراً, تثرثر في المحمول والبنطلون الجنيز أشجع من باقي الركاب, هبطت إلى تحت, المخطيء المعطر تحوطها همهمات الشفاة الملونة الممطوطة على زمن الصبر, لا داعي للقلق, الآن, وفر صحتك لتأمن سوء ظن الذين منك وأنت منهم, حاربت وعدت, أوراقك في الحقيبة السوداء, بحذائها نقرت سلم السيارة لتصرخ رداً على سوء ظن السائق, لا تخصها?! حاسب وحياة والدك, فربما تحول اللون الأسود إلى الأزرق مدة عشرته للبحر!

تحت ماء البحر, تكاد تعمى الرؤية والضحكة وفرشاة الألوان, تخرج الأسماك, الصغيرة الزريعة من فتحتى الأنف,, أراه على قدميه لأول مرة يقف سيف وهو يرسم. حقيبة تطل من فتحتها أوراق مكدسة, مهملة, قديمة, سقطت من راكب, قرب إحدى عجلات سيارة السياحة الفندقية, تقاذفتها أقدام الصبية حتى زحفت إليك, بين قدميك.

استوطنت حاجتك إلى الناس, قامت الأوراق من رقدتها, تحوطك بذراعيها ـ المبتورين, نسيت كلام أبي ومددت أصابعي إلى الأوراق, كلام ورسوم ملونة في حجم الكف, كأني أسحب غطاء رأس طفل نائم مائة عام, بالعافية تبينته, يكاد يعرفني, صوته من صوت أخيه, من صوتي, يبلع ريقه مثلي ثم يكح, طفل عجوز يجر شقيقه إلى أين?, طلعت إلى سطح العمارة وهما في ذراعي, استيقظا هناك, يخمنان اسمي, يضمان ملابسي بقوة حتى لا تزحف نحوهما عجلات السياحة, صوتهما خفيض لا يكاد يصلني.

دعوني ألقي أمامكم بعض أوراق من يوميات (أدهم) التي ستبكيكم أحياناً وتضحككم أحياناً أخرى, مخططة بذلك صورة المعاناة التي تحيط الفنان في حياته الخاصة والعامة بلمسات سريعة, غاضبة للجحود وسوء المصير, تتخللها لمسات راقصة عندما يحدوه الأمل البعيد, ثم تمر لمسات إنسانية هادئة عند ذكر حيوان أو موت صديق, ثم تهتز يده عند ذكر سوء الإدارة وأحوال المجتمع لعهد غير بعيد, بدأ يدون حوليات رحلة العمر مسجلا,ً في يوميات, صراعاً بطولياً لسفينة الفن, التي تفقد أشرعتها أحياناً.. وأحياناً تقف لترى نعيها, وأحيانا أخرى تسير فوق ريح طيبة لمدى السنوات العشر الأخيرة من عمره, وانلي, الثلاثاء, شعرت ببعض التضخم في الغدة النكفية.

ذهبت للعمل ووجع القلب, حقاً أصبحت شغلة غير ذات موضوع, ذهبنا لباليه (مونت كارلو) وقابلنا جريسكي الذي أوصى بنا, دخلنا في اللوج 33 فكانت ليلة بديعة وأخذنا نرسم الباليه, 28 يناير ذهبت مبكراً وسيف للاستوديو, عملت أربع صور للباليه دون كيشوت/ البجعة السوداء/كونستانتا/ حضر إبراهيم بك مصطفى وتجاذبنا أطراف الحديث عن الرسم والتصوير, وفي المساء حضرت (فاني) ورسمنا أيضاً.

لم أجد راحة في عملي الرسمي, لكن أجد في الاستوديو الرسم أعظم راحة وتعزية, 3 يناير عمل متواصل في رسم صور الباليه, لذة كبرى في عملها, لقد بلغت حد الكمال, هذا في نظري ولست أدري كم تساوي في نظر الآخرين. 25 فبراير اليوم يوم ميلادي أي بلغت 41 سنة, أفكر, كم يوما من السعادة مر خلالها, فلم أجد يوماً, إنني أعيش بالأمل, حضرت (فاني) وأحضرت بعض الهدايا, كم هي طيبة هذه الفتاة.

2 مارس, اليوم, أوبرا حلاق أشبيلية ماتينيه, ذهبنا, ثم تركت سيف وفاني وذهبت للجامعة الشعبية لإعطاء الدروس, حضر للاستوديو محمود المحامي, وأعلمني بأن الحكم في صالحي ففرحت. 3 مارس, اليوم رواية عايدة تلعب فيها كاميليا, لفت نظري لحن سرقه عبدالوهاب بنصه وفصه, مازلت فرحاً لربح القضية. 4 مارس اليوم أخبرت أخواتي البنات, فرحن جداً, ولفت نظرهم, ألا يستعجلن إذ ربما يستأنف الخصوم, اليوم أوبرا دي لوكفير لعبت فيها ماتلدا نافوري فأبدعت. 21 مارس خاطبني زهار لحضور محمد محمود خليل للمرسم الساعة السادسة والنصف. حضر الرجل, وشاهد صور سيف فأعجب بها كل الإعجاب ووعد بأنه سيعمل لإرسالنا إلى باريس في بعثة آمال, آمال... 23 مارس, ذهبت للجامعة الشعبية وأعطيت الدرس, كل شيء ناقص.. احتفلنا في الاستوديو أنا وسيف وفاني وشربنا لنجاح سيف بالمعرض (صالون الإسكندرية) ومنحه الميدالية الذهبية. 24 مارس كان اليوم في جمعية مصر أوربا محاضرة لسليمان نجيب عن المسرح, رحب بنا سليمان نجيب وكان منشرح الصدر وداعب البنت (فاني). 27 مارس ركبنا القطار من سيدي جابر الساعة الثامنة صباحاً وصلنا القاهرة الساعة الحادية عشرة.

كانت الرحلة ظريفة, ذهبنا لمعرض الفن الإيطالي, فوجدناه عادياً بالنسبة لنا وأعمالنا تقف معهم, وجدنا محمود بك سعيد فسلم علينا وتجاذبنا أطراف الحديث ذهبنا إلى متحف الفن الحديث وتعرفنا بمديره الأستاذ يوسف كامل, وكان الرجل ظريفاً, ذهبنا إلى جروبي لمقابلة حلمي بك الذي أخذنا إلى منزله بالمعادي ـ للغداء, وبعد الظهر ذهبنا إلى المعرض الإيطالي فوجدنا (فاني) كانت دهشة. 31 مارس عيد ميلاد سيف عدنا إلى الإسكندرية بلدنا, أجمل بلد في العالم كله نور وشمس, جاءت (فاني) وأحيت ميلاد سيف وأحضرت له بعض الهدايا. 8 أبريل ذهبت ومعي فاني لمقابلة مسيو جريسكي ومدام بريفو لدخول عرض الكوميدي فرانسيس, كانت المقابلة لا بأس بها وقالوا لنا ادخلوا كل يوم كما تشاءون, ثم ذهبت إلى (جمعية مصر أوربا) لحضور مباراة في الشعر, كانت سمجة وكان الشعراء متكلفين. 10 أبريل ذهبنا إلى تياترو محمد علي حيث رواية (أوديب) لعب فيها الممثل جاني ماريه, بعد الانتهاء أخذت معي بعض المأكولات المحفوظة في العلب, في الليل قمت بعمل لوحة لبنات مريوط. خطوطها الأولى لا بأس بها, ربما ستكون لوحة جميلة, راعيت التؤدة وعدم العجلة. 11 أبريل انتهيت من عمل لوحتين وهما سد برمبال وملاحة رشيد, إني أغبط نفسي. 29 أبريل ذهبت صباحاً للمرسم وقمت باستكمال بعض الصور, كنا كلنا معا, أنا وسيف وفاني في الرسم, كلنا يرسم, ها قد عاد للاستوديو طابع الشلل الفنية, هل سيكون لهذا الاستوديو شأن? المستقبل كفيل بأن يعده جزءا من تاريخ مصر الفني, من يدري, قلبي يحدثني بذلك.30 أبريل, كان افتتاح معرض محمود بك سعيد, معرض فخم للفنان العظيم, كانت حفلة افتتاح رائعة جداً وكان هناك شرب وفن وشعر ونساء جميلات وحلوى.

(أول مايو) ذهبت لتسلم مرتبات الموظفين من المحافظة. مبلغ زهيد لا يكفي لسد الرمق, عملي في المخازن ممل ومتواصل, العمل كثير والأيدي العاملة قليلة, أمل.. ربنا يغنيني عن هذا, مسئولية وقلة جزاء.2 مايو عملت لوحة جديدة, حصان يرقص على الموسيقى, فهي تعجب العيون القديمة, أما لمسات الفرشاة المتمردة فتعجب الجديد, وقام سيف برسم لوحة تحاكي الفن الفرعوني, محاولة جريئة, سيف يسير قدما في الفن, سيكون فناناً رائعاً. 4 مايو, عملت صورة جديدة من وحي المحكمة الشرعية, صورة لا بأس بها يغلب عليها الأسود والأصفر, لابد من جلسة أخرى لتلوينها أكثر وإنهائها. 5 مايو حضر محمود بك سعيد لأخذ بعض صورنا إلى باريس, دهش من وفرة إنتاجنا هذا العام. 6 مايو رسمت لوحة كبيرة لأسماك في البحر فيها السلحفاة وسمك المحرات, وهي أكبر حجم رسمته لموضوع غريب لم أطرقه من قبل.

وعلى ما أظن هذه أول مرة في مصر يقوم فيها رسام برسم حياة الأسماك في البحار, ربما سيكون معرضنا القادم. 12 مايو بدأت ارسم صور كتاب توفيق الحكيم (يوميات نائب في الأرياف) قال سيف اللهم زد وبارك, إن صحتي تنذر بأنها ستكون سيئة, قيء وسعال لم آكل شيئا ولم أنم في الليل, أنا أقاوم المرض, إني مازلت شاباً قوياً.

تتكور أجسادهن وشعورهن مغطاة بعباءات اللون الأسود, يمكن رؤيتهن بانتهاز حصتهن الضئيلة من الحرية والحلم, يغرقن في البحر عند الفجر بابتسامة المدينة, يظن الشخص أنه يرسم نفسه, اللحية قوة, الآن أنا ارتدي نظارة (راي بان) وحزام (نايك) لا أحتاج إلى اللحية بعد الآن, القوة أصبحت في قلبي, المضيفة حركت جناحي الطائرة من فوق الرمال وليس معك نقود ولا أطفال في ثقافة حوض البحر الأبيض.

لم أنفصل, جهل البنات جعلهن مدمنات حقد, يكشفن عورات أم وأب, بقيادة قليل الحيلة, تركتهن المدينة غاضبة واختارته في رحلة الأيام الأخيرة, مازال وفياً لسرها الذي باحت به عن بناتها والعاق المدلل, طاف بها العمر من أوله, أعمق لياليها في المواساة, غطته في مرآة الزمن بذراعين مرتعشتين وقد غرق في تقبيل يديها, أن تهدأ, أن تسامح العقوق, أقسم لها بالسر الدفين إلى يوم اللقاء, ولم تغادره يوما, ظلت معه تؤازره في المحنة من هناك, وطمأنته في صحو النهار (لن يسافر, لن يسافر) و(حسبك الله يا خويا).

ـ غلطتهم..
ـ كل منهن تدفع عربة كراهية أمامها.
ـ لماذا يكرهون أنفسهم إلى هذا الحد?
- أرضعته أخريات.. يمكن..
ـ صحيح, يؤثر?
ـ ارضيت الله يا بني, فلا تسأل عما يفعلون
ـ يكذب, ويلفق, ويزور, ويقلد رسمي
ـ قد سجن نفسه بنفسه.
ـ لا سامحه الله
ـ حاسب!
ـ هه, هل أخطأت?
ـ تدعو له, لا عليه.
ـ يا ساتر, ما هذا? لم أفهم.

لملمت الأوراق المنسكبة من شقوق الحقيبة الجلدية القديمة, تضغط على الورق لينزلق إلى الداخل, بركبتها تسند الحقيبة إلى ركن الحائط وبأصابعها النحيلة تبرم الورق في شكل قرطاس حتى يسهل الدخول من الفتحة, هه, الحمد لله, والآن, ماذا أفعل بكل هذه الأوراق والرسومات? أخشى أن تقع في يد أمي, أو أبي, أو اخوتي, الصور الملونة جميلة, لو كان عندي دولاب خاص بي, لو كان عندي صندوق خاص بي, لو كان عندي درج في مكتب خاص بي.

أمري لله, كل حي يأخذ نصيبه, يا ضاعت, يا بقيت, ليس بيدي, أنا أضعف من الضعف, سأضع الحقيبة في السندرة فوق سقف دورة المياه, المكان الوحيد المأمون.

النوافذ مغلقة, والشارع خال, والدكاكين لا يخرج منها أو يدخلها احد, الأتربة تغطي اسقف وزجاج السيارات المركونة على الاتجاهين, بقايا ملابس تتدلى على حبال بين ذراعي حديد, كيس أسود بلاستيك مكدس بأوراق وسط الطريق, كلما هبت الرياح انتفخ الكيس وطارت منه بضع أوراق إلى هناك, كلما هبت انتفخ وطارت الأوراق, كلما انتفخ طارت, كلما طارت الأوراق تقلصت رويداً رويداً, حتى وجد الكيس نفسه طائرا جانبي الطريق, من دون أوراق خضراء, ساعات طويلة ثقيلة, زمن الحشو والامتلاء, الشمس والأتربة, السكينة في أطراف الشارع وقلبه, تستغرقه, تستوعبه, تستحقه وقفا ووصية.

آخر ورقة سقطت على الأرض تحت ماء البحر, وجدك, تجمع العشب للصغار على قيد الحياة, في درج القلب رنين الحلق الجاف, فرشاة زرقاء على قمامة شارع محمود سعيد جناكليس, رويداً, يسافر, أخفى وجهه بكفيه في اصطحاب كلب, يعبر به الشارع, العيون والبيوت, نبأ غرق البحار الأزرق.

 

محمود عوض عبدالعال