فجوة العقل الاقتصادي العربي محمود عبد الفضيل

فجوة العقل الاقتصادي العربي

(العقل الاقتصادي) هو بطبيعته (عقل جدلي), فهو في حالة جدل وتفاعل دائم مع حركة التاريخ وحركة المجتمع.

يتأثر هذا العقل بتطورات النظم الاقتصادية والسياسية والأيديولوجيات المختلفة. ولذا نجد أن (العقل الاقتصادي) قد شهد تقلبات فكرية عنيفة, عبر مسيرته الطويلة منذ تأسيس علم الاقتصاد الحديث على أيدي أعلام المدرسة الكلاسيكية (آدم سميث, ريكاردو, ماركس, ستيورات مل). ثم جاءت الانعطافة الكبرى على أيدي المدرسة (النيو - كلاسيكية) (1780) , بأطيافها المختلفة, التي أكّدت على حرية الأسواق والفردية في السلوك الاقتصادي. وكانت بدورها انعكاسًا للنزعات الفلسفية (النفعية), التي تقوم على تعظيم (المنفعة) و(الربح), باعتبارهما يمثلان جوهر السلوك الاقتصادي (الرشيد), في ظل تجليات العقل الاقتصادي (النيو - كلاسيكي).

وجاءت (الكينزية) (1936) كرد فعل على أزمة الكساد الكبير الذي ألم بالاقتصادات الرأسمالية المتقدمة (1929-1930), وإعادة الاعتبار إلى النظرة الكلية للأشياء والسلوك الكلي للاقتصاد الوطني, في ضوء فشل النظريات النيوكلاسيكية, التي كانت تنادي بأن العودة إلى التوازن تتم تلقائيًا دونما تدخل من الدولة (أو راسم السياسة الاقتصادية).

وللخروج من حال الكساد الكبير, نادت (الكينزية) والمدارس (ما بعد الكينزية) بدور نشيط للدولة لإعادة التوازنات الكلية للاقتصاد الوطني. وتعمّقت تأثيرات ونفوذ تلك المدرسة على (العقل الاقتصادي), غداة الحرب العالمية الثانية, وحتى نهاية الستينيات, في محاولة جادة لإحياء الاهتمام بقضايا مركزية مثل (التراكم) و(توزيع الدخل), تلك القضايا التي اهتم بها العقل الاقتصادي في زمن المدرسة الكلاسيكية.

ثم جاءت الموجة الليبرالية الجديدة العاتية (الريجانية - التاتشرية), نسبة إلى رونالد ريجان في الولايات المتحدة ومارجريت تاتشر في بريطانيا منذ منتصف السبعينيات, ونتج عن ذلك صعود المدارس النقودية (ميلتون فريدمان) والليبرالية الجديدة (التي تستلهم (فردريك هايك)), واستمرت تلك الموجة حتى نهاية التسعينيات, حيث بدأت الموجة تنكسر, وأخذ (العقل الاقتصادي) يبحث عن توليفة فكرية جديدة.

ولاشك في أن علم الاقتصاد يمر بأزمة عميقة في اللحظة الراهنة باعتباره علمًا اجتماعيًا. ولقد سبق أن نبّه عالم الاقتصاد الكبير الراحل أوسكار لانج Oscar Lange في مؤلفه المهم (الاقتصاد السياسي) إلى أن علم الاقتصاد إذا طغت عليه الأساليب الكمية, التي لا تخدم رسم السياسة الاقتصادية والفهم الاجتماعي للواقع الاقتصادي, فسوف يتحوّل إلى فرع من فروع علم بحوث العمليات, ويتم تصفيته كعلم اجتماعي.

هروب من القضايا الأساسية

والملاحظ أن هناك, منذ نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات, نزعة متزايدة لعدم التصدي للقضايا الأساسية في مجال: التوزيع والتراكم والتوظف, على النحو الذي ألحت عليه العديد من المدارس الاقتصادية الحديثة: (المدرسة الكينزية), و(ما بعد الكينزية), و(المدرسة الريكاردية الجديدة), وكذا (الماركسيون الجدد). إذ تراجع نفوذ تلك المدارس في الدوائرالأكاديمية, لتحل محلها المناهج المتأثرة بالمدرسة النقودية, والمعالجات النيوكلاسيكية الحديثة, انعكس ذلك بشكل واضح في نوعية الكتابات الاقتصادية, التي يتم منحها (جائزة نوبل في الاقتصاد) خلال السنوات الأخيرة, باستثناء منح جائزة نوبل للاقتصادي الهندي الكبير آماريتا رسن Amartya Sen, عن دراساته حول الفقر والمجاعات, وإشكاليات التنمية بوجه عام.

وقد رافق تلك التطورات تصفية علم (اقتصاديات التنمية), كفرع مستقل ومهم من فروع علم الاقتصاد, ذلك الفرع الذي شهد عصره الذهبي خلال حقبتي الخمسينيات والستينيات. فلقد تم تصفية فرع (اقتصاديات التنمية) في الجامعات الغربية, باعتباره فرعًا مستقلاً من فروع المعرفة الاقتصادية, وتم تجزئته إلى موضوعات جزئية تندرج تحت مسميات عدة: اقتصاديات الزراعة, واقتصاديات سوق العمل, بحيث يفقد الوحدة الكلية والجدلية بين كل عناصره ومكوناته.

كذلك رافق تلك الموجة الجديدة مغالاة في استخدام أساليب الانحدار الإحصائي بين المتغيرات الاقتصادية, دون الاهتمام بشكل جديّ بعلاقات السببية الحقيقية, التي تربط بين تلك المتغيرات, ولاسيما علاقات السببية الدائرية, التي تعبر عن جوهر العلاقات الاقتصادية ذات التأثير المتبادل بين المتغيرات.

كما اختفت تقريبًا الدراسات الخاصة بالأدوات الكمية للتوجيه والتخطيط الاقتصادي, التي كان يطلق عليها فيما قبل فرع الـ: (Planometrics), وذلك نتيجة انحصار دور الدولة في توجيه العملية الاقتصادية, والاعتماد المتزايد على آليات السوق.

وفي المقابل, ازدهرت فروع جيدة في علم الاقتصاد, تتواءم مع صعود الجناح المالي في قيادة مسيرة الرأسمالية العالمية منذ بداية الثمانينيات, وأصبحت الفروع الأكثر ازدهارًا وبروزًا هذه الأيام هي: الاقتصاد المالي, ومشتقاته.

مساهمات مضيئة

وهكذا, وفي ظل تلك الانعطافة الجديدة, نجد أن مساهمات مضيئة في علم الاقتصاد قد تحوّلت إلى مجرد هوامش في الكتب المدرسية لعلم الاقتصاد الحديث. ومثال ذلك المساهمات المهمة للأستاذين: ميشيل كاليشتكي وجوزيف شتانيدر Micheal Kalecki وJoseph Steinder حول ديناميكيات النظام الرأسمالي وأزمات ركوده, ومساهمات بيرو سرافا Piero Sraffa حول نقد الأساس التحليلي للفكر النيوكلاسيكي والتحليل الحدي عمومًا, كما جاء في مؤلفه المهم (إنتاج السلع بواسطة السلع) الصادر عام 1960, ذلك المؤلف الكبير الذي أثار ضجة كبرى في حينه حول نقد نظريات الثمن والتوزيع ورأس المال كما جاءت في الفكر النيوكلاسيكي.

كذلك نلاحظ أن الإشارات تجيء ضعيفة وعابرة للمساهمات النقدية للمدرسة (ما بعد الكينزية) حول قضايا التوزيع والنمو, على النحو الذي حفلت به مساهمات الاقتصاديين الكبار: جون روبنسون ونيكولاس لويجي وكالدور باسينتي John Robinson وNicolas Kaldor وLuigui Passinetti. ذلك بالرغم من أن تلك المساهمات قد شكّلت نقلة معرفية مهمة في التحليل الاقتصادي المعاصر.

النزعات المتصارعة

إن الناظر المتفحص لحركة الفكر الاقتصادي العربي, يمكن له التمييز - على الصعيد الفلسفي - بين ثلاث نزعات تتصارع في ثناياه: النزعات المادية التاريخية, النزعات المثالية الطوباوية, النزعات الوضعية المنطقية.

وبشكل أكثر صراحة, يجب الاعتراف بأن العديد من الكتابات والأفكار الاقتصادية يصعب عزلها عن التيارات الفكرية المتصارعة في كل حقبة تاريخية. ولذا, لابد من تفسير وفهم الكتابات الاقتصادية العربية, منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, ضمن السياق التاريخي العام الذي وردت فيه تلك الكتابات.

فقد انشغل الفكر الاقتصادي العربي, مثله في ذلك مثل الفكر الاقتصادي في بلدان العالم الثالث, بمشكلات التحرر الاقتصادي, والرغبة في الخروج من التخلف, وإحداث عملية تنمية شاملة, وتحقيق تحويل جذري في علاقات الإنتاج في المجتمع. بيد أن السمة المميزة لإشكالية الفكر الاقتصادي العربي هي محاولة وضع تصورات حلول لتلك المشكلات في إطار السعي المخطط والدءوب نحو هدف التوحيد القومي والإنماء التكاملي, باعتباره الإطار والوعاء التاريخي الذي يسمح بحل تلك المشكلات حلاً ناجزًا وعلى أسس مستدامة.

ومن الأهمية بمكان, تحديد الدور الذي لعبته المدارس الفكرية الوافدة من الخارج كروافد مهمة في تكوين الفكر الاقتصادي العربي بأشكاله الراهنة. إذ إنه من الصعب إنكار أن هناك تأثيرًا واضحًا لمدارس وتيارات الفكر الاقتصادي المعاصر على كتابات الاقتصاديين العرب, ولاسيما (1) المدرسة الكينزية, (2) المدرسة النيوكلاسيكية, (3) المدرسة البنائية (الأمريكية - اللاتينية), (4) المدرسة الماركسية.

وقد كان للنظرية العامة لكينز تأثير واضح على الفكر الاقتصادي العربي, إذ وجد عدد كبير من الاقتصاديين العرب في التحليل الكينزي إطارًا أكثر حيوية وأكثر ملاءمة لتحليل مشاكل الواقع الاقتصادي العربي (ولاسيما مشاكل التخلف وعدم التشغيل والتعبئة الكامل للطاقات البشرية والإنتاجية), بالمقارنة مع التحليل النيوكلاسيكي الذي يهتم بالوصول إلى نوع من التوازن العام في ظل حال افتراضية من (المنافسة الكاملة), في ظل فروض ساكنة وغير واقعية. ولهذا نجد صدى واضحًا للتفكير والرؤية الكينزية في عدد من المؤلفات المهمة للاقتصاديين العرب.

وتأكيدًا على أهمية أدوات التحليل الكينزي المستندة إلى التغيرات, التي تطرأ على حجم الطلب الفعلي (أو الفعال), يقول د.رفعت المحجوب (مصر) في مقدمة مؤلفه عن (الطلب الفعلي في البلدان النامية (الصادر في الستينيات من القرن الماضي): (لا نعتقد أن نظرية اقتصادية ما قد عكست تطور الفكر الاقتصادي, وتطور السياسة الاقتصادية ومشكلة الحرية والتدخل مثلما عكست كل ذلك نظرية الطلب الفعلي لكينز).

أزمة الفكر الاقتصادي

بيد أن الأهم من ذلك هو التأثير الخفي والقوي للفكر الكينزي, والذي نلمسه في ثنايا العديد من المؤلفات الاقتصادية العربية, التي يصعب حصرها هنا. وبالرغم من أن الجانب الأعظم من الكتابات, قد تبنّى بعض أدوات التحليل الكينزي في إطار تحليلات النمو والتنمية, دون رؤية نقدية للنهج الكينزي في تحليل أوضاع البلدان الرأسمالية المتقدمة, مع بعض الاستثناءات مثل: مقال الأستاذ إبراهيم كبة (العراق), والمعنون: (الكينزية كمنهاج اقتصادي للرأسمالية المنظمة), والمنشور بمجلة الثقافة الجديدة, (عدد أغسطس - سبتمبر 1960).

ومن ناحية أخرى, نلاحظ أن استخدامات الاقتصاديين العرب لمقولات وأدوات التحليل (النيوكلاسيكية) ظلت واسعة النطاق, ولكن دون وعي كاف بعناصر الضعف المنهجي في البناء التحليلي (النيوكلاسيكي) للقيمة والتوزيع.

ولعل من بين النزر اليسير من الكتابات الاقتصادية العربية, التي تصدّت لقضايا المنهج في علم الاقتصاد مقال د.عبدالرزاق حسن (مصر) عن (المثالية والمادية في التحليل الاقتصادي), والمنشور بمجلة مصر المعاصرة (القاهرة, أكتوبر 1953). كذلك د.محمد سليمان حسن (العراق) في مؤلفه الأخير قبل وفاته, المعنون (الاقتصاد السياسي: الرأسمالية والاشتراكية) الذي تصدى لعدد من القضايا النظرية والمنهجية المتعلقة بديناميات النمو والتنمية في ظل الرأسمالية والاشتراكية, بالاستناد لأعمال الاقتصاديين البولنديين البارزين أوسكار لانجه ومايكل كاليتسكي.

وقد لخص د.محمد سليمان حسن أزمة الفكر الاقتصادي العربي المعاصر على النحو التالي: (يعاني الفكر الاقتصادي في البلاد العربية, تناقضًا شديدًا بين ما يُنقل على الأغلب من الفكر الاقتصادي الأجنبي نقلاً غير هادف, ولا تركيبي على الصعيد النظري, وبين الواقع الاقتصادي, من جهة, وبين ما يكتب من وصف للمشكلات الاقتصادية الحية على صعيد الاقتصاد الوصفي, وما تفتقر إليه هذه المشكلات من تحليل نظري عيني يميط اللثام عن قوانين حركتها العامة وتطورها الخاص من الجهة الأخرى).

فكر السلطات الرسمية

وهناك العديد من الشواهد والدلائل, التي تشير إلى أن الفكر الاقتصادي العربي قد أصبح, منذ نهاية السبعينيات, أقرب إلى فكر (السلطات الرسمية), إذا ما قورن بحقبتي الخمسينيات والستينيات. وليس هناك من شك في أن ظروف انتكاس النضال التحرري والوحدوي العربي غداة حرب يونيو 1967, من ناحية, وإغراء الأموال النفطية, والأعمال الاستشارية الخاصة من ناحية أخرى, قد ساعدا على هجرة العديد من الاقتصاديين العرب من المواقع الفكرية التحررية والنضالية إلى مواقع (مؤسسية) شبه رسمية تكرّس وتنظر للسياسات وللتصورات الرسمية حول مستقبل العمل العربي المشترك, وأشكال وصيغ التعاون والاندماج الاقتصادي العربي, دون طرح لإشكالية (الاقتصاد السياسي), التي تعوق عمليات الإنماء التكاملي الإنمائي على الصعيد العربي.

المتغير المعلوماتي

وعلى صعيد أكثر عمومية, لم يستوعب (العقل الاقتصادي العربي) بعد دور (المتغير المعلوماتي), وتداعياته على الحياة الاقتصادية والاجتماعية وأنماط السلوك الاقتصادي. ويضاف إلى ذلك أن (العقل الاقتصادي العربي), لم يواكب التطورات الحديثة حول (التعقد) (Complexity) في مناحي حياتنا الاقتصادية والإنسانية بشكل عام, فظل قانعًا بالتفسيرات المبسطة, والميكانيكية أحيانًا, لوقائع الحياة الاقتصادية.

وكذلك ظل (العقل الاقتصادي العربي) أسير تخصصية الضيق, وينأى عن تداخل المجالات المعرفية المهمة, واللصيقة بحقله المعرفي (الاجتماع, السياسة, الأنثربولوجيا, التاريخ), التي دونها يفقد (العقل الاقتصادي) القدرة على الفهم الجدلي للظواهر الاقتصادية. ولذا فإنه دون إقامة الجسور مع الفروع المعرفية المجاورة, لن يحقق القدر المطلوب من (التخصيب المتبادل), الذي يساعد على رفع مستوى التحليل والتنبؤ.

كما نلاحظ أن (العقل الاقتصادي) عمومًا, في تجلياته النيوكلاسيكية المحدثة, يظل بالأساس (عقلاً أيديوليجيًا), يتحدث عن المنافسة الكاملة في عصر الاحتكارات, والتوازن في عصر (اللاتوازنات), وحرية الاختيار للمستهلك في وقت تتشوّه فيه (تفضيلات المستهلكين), بفضل سطوة الإعلان في ظل العولمة. هو كذلك عقل يمجّد كفاءة الأسواق الحرة, في وقت يعايش الجميع ما يطلق عليه في الأدبيات (فشل الأسواق). ولهذا يميل (العقل الاقتصادي) عمومًا إلى التجريد المبالغ فيه, تهرّبًا من مواجهة مشاكل الواقع الاقتصادي المعقد. وبعبارة أخرى, (هو عقل يحاول أن يخضع الواقع لمفاهيمه, لا أن يخضع هذه المفاهيم لحقائق هذا الواقع), على حد تعبير د.نبيل علي في مقاله (فجوة العقل العربي المتخصص).

إذا شِئتَ أن يَرْضى سجاياكَ ربُّها فلا تُمسِ من فعل المقادير مُغضَبا
فإنّ قُرونَ الخيلِ أولتْكَ ناطِحاً وإنّ الحُسامَ العَضبَ لقّاكَ أعضَبا
خضَبْتَ بياضاً بالصّبيب, صبابةً ببيضاءَ عدّتكَ البنانَ المخضَّبا
وما كان حبلُ العيش إلا مُعلَّقاً بعُرْوة أيامِ الصّبا, فتقضّبا


(أبو العلاء المعري)

 

محمود عبد الفضيل