صفر في الفيزياء

صفر في الفيزياء

بقلم: الكاتب الألباني المعاصر دريتارو آغولي

ربما لا يعرف بعض الناس أن زوجتي تعمل مدرّسة لمادة الفيزياء في المدرسة الثانوية, وكما تعلمون, فالفيزياء ليست بلقمة سائغة, وإنما هي (عظم) لا يمكن ابتلاعه, وعلى أي حال, هذا ما تقوله زوجتي, ومن المؤكد أنه قول صحيح, فهناك في الفيزياء عدد كبير من القوانين القمينة تجعلك تتعثّر بأحدها, فتنكفئ على وجهك وتقع أرضاً, وهذا ما حدث لأحد تلاميذ زوجتي, فسجلت له علامة (صفر), وكان ذلك في نهاية العام الدراسي, ولكن ليس بوسعكم تصوّر كم كلّفني هذا الصفر من مصاعب ومتاعب أنا أيضاً, وقد انفجرت صائحاً بها في إحدى الأمسيات بعد أن رفعتُ سماعة الهاتف بدلاً عنها (دوزينة) كاملة من المرات على الأقل:

- يا امرأة, فلتشلّ اليد التي كتبت بها علامة الصفر في السجل المدرسي لذلك الحمار, وما إن أطلقت هذه العبارة حتى رنّ جهاز الهاتف مرة أخرى.

- هالو, عفواً لإزعاجكم في مثل هذا الوقت المتأخر, هل أنتم الرفيق (سلمان)?

- نعم, أنا هو, ماذا تودّون?

- في الواقع, نحن لا نعرف بعضنا, ولكنني أعمل سوية مع عمكم في المجلس البلدي, وقد رجاني قريب لي أن أحدثكم بشأن أمر مهم جداً, وملخص المسألة تتعلق بابنه وهي: أن زوجتكم المصون سجلت له علامة صفر في الفيزياء, وبالتالي يلوح في الأفق خطر رسوب ذلك التلميذ, ولهذا أرجوكم بإخلاص أن تكلموا السيدة زوجتكم حتى تقوم بامتحان التلميذ (عارف) مرة ثانية لإصلاح هذا الصفر. أرجوكم أن تحدثّوها, علماً بأنني تكلمت مع عمكم حول هذا الموضوع.

فقاطعت المتحدث:

- حسناً, حسناً سأبذل ما بوسعي. ليست هناك حاجة للشكر, أعدكم بالسعي.

وهكذا أنهيت الحديث بسرعة وأطبقت السماعة.

وجلست أتصفّح كتاباً جديداً كنت قد اشتريته خلال النهار, ولكن جرس الهاتف عاد يرن من جديد فرفعت السماعة وإذا بالمتكلم عمتي:

- سلمان, أهذا أنت يا عين عمتك?

- نعم أنا هو, كيف حالك يا عمتي?

- شكراً أنا بخير على أن هناك مسألة تقلقني.

- ما هي يا عمتي?

- لماذا أقدمتْ (زهرة) على مثل هذا التصرّف?

- ما هو التصرف الذي أقدمت عليه?

- إنها كتبت علامة صفر لابن الرفيق (طورهان), ولهذا راح يكيد المكائد لـ(فاطمة) - وفاطمة هذه هي إحدى القريبات الكثيرات للعمة - إن فاطمة ترجوك بحرارة التدخل لإصلاح هذا الأمر.

- ولكن إصلاح الصفر أمر لا يتعلق بي, وإنما يدخل ضمن اختصاص زهرة, فلماذا لا تتكلمين معها مباشرة?

- سلمان, ساعدني في هذه المسألة يا عين عمتك, ففاطمة ستعاني الأمرّين من الرفيق (طورهان) إذا لم يتم إصلاح صفر ابنه. أرجوك, فالرفيق (طورهان) رئيس فاطمة وهي قريبتك كما تعرف.

- ليس في استطاعتي التدخل يا عمتي, فزهرة لا تريد أن أدسّ أنفي في عملها التربوي, إنها لا تحب ذلك.

- ما هذا الهراء يا سلمان? هل على كتفيك رأس رجل وزوج أم رأس بصل? كيف ليس بإمكانك إصلاح علامة صفر ما?

- تكلمي أنت معها مباشرة ولا تتهجّمي علي هكذا يا عمتي العزيزة.

- هل تريد مني أن أتحدث إلى تلك النحلة البرية (الزلقطة)? وهل تعتقد أنها سوف تصغي إلي? اصغ إلي أنت. المسألة تتعلق بعلامة صفر وليس بأمر كبير الأهمية.

ورحت أحاول التملص وإغلاق سمّاعة الهاتف, وقد شعرت بالعرق الغزير يتصبب مني ويرطّب السماعة:

- حسنا يا عمتي سأبذل قصارى جهدي.

وألقيت بنفسي على الكرسي وأخرجت المنديل من جيبي وفركت به جبيني, غير أن حديث العمة وما سبقه ظل يثير أعصابي, فرميت بالسترة على كتفي وخرجت طلباً للنزهة, وتنفس الهواء المنعش بعيداً عن البيت ورنين الهاتف, ويبدو أن النزهة أفادتني, ولكنني شعرت في أحد الأوقات بيد تلمس كتفي, وسمعت أحدهم يقول:

- أهذا أنت يا سلمان? إنني لم أرك منذ مدة طويلة, بيد أنك أنت الذي تسجن نفسك في البيت كطائر (الوَقْوَق) ولا تظهر في أي مكان.

كان الذي استوقفني (فتاح), زوج ابنة قريبة لنا تشتغل في معمل النسيج.

ومضى محدثي يقول: هيا, إنني أدعوك إلى فنجان قهوة, فأجبته, لا بأس, وجلسنا في مقهى وطلبنا القهوة وأشعل كل منا لفافته ثم طفق فتاح يتحدث من جديد:

- ثمة أناس لا همّ لهم سوى إبداء التأفف والسخط.

فقلت موافقاً معه بتفلسف:

- التأفف صفة عامة لنا معشر البشر.

- اسمع, لقد رجاني (عوني) شقيق (طورهان) أن أتكلم معك, فهو ينشد مساعدتك في أحد الأمور, إذ إن (عارف) ابن (طورهان) حصل على علامة صفر في الفيزياء, فقل لزوجتك أن تمتحنه من جديد وتسجل له علامة (مقبول) على الأقل حتى لا يعيد السنة.

ازداد مذاق القهوة مرارة في فمي وتحوّل إلى ما يشبه السمّ والعلقم, فهذا الصفر اللعين حرّك سائر المدينة من حولي. من أين تسنى لجميع هؤلاء الناس معرفة أدق التفاصيل عن حياتي وعن أسرتي? كيف عرفوا أن لي أعماماً وعمّات وأولاد أعمام وأبناء خالات وأنسباء?! وأعترف بصراحة أن الانفعال اعتراني وهممت بالنهوض والذهاب رأساً إلى المدرسة الثانوية حيث تعمل زوجتي والعثور على سجل العلامات ووضع علامة (التمرير) بدل الصفر حتى يتوقف الناس عن إزعاجي داخل البيت وفي خارجه.

وعدت إلى عالم الواقع وسمعت (فتاح) يقول لي:

- كان بودي التكلم مع زهرة مباشرة, ولكنني أعتقد أن النتيجة ستكون أفضل لو تكلمت أنت معها, مهما يكن فالزوجة تسمع أولاً وأخيراً كلام زوجها.

وهنا لم يعد بمقدوري التحمّل فدفعت بفنجان القهوة بعيداً عني وصحت:

- لقد تشاجرت معها, بل ولم نعد نكلم بعضنا البعض, ولسوف أتقدم خلال هذه الأيام بطلب الطلاق أيضاً!

بدا الاستغراب على وجه محدثي وسأل:

- ما هذا الكلام? هل المسألة جديّة وخطيرة إلى هذا الحد?

- إن لنا, أنا وزهرة طبعين غير متوافقين, فأرجوك عدم إقحام مسألة هذا الصفر في الموضوع. إن زهرة قد غدت من الآن فصاعداً زوجتي السابقة, فتكلم أنت معها.

وخرجنا وقد بان الارتباك والذهول على وجه (فتاح), فودّعته ببرود وعدت أدراجي إلى المنزل. ومنذ ذلك الحين لم يكلمني أحد بشأن ذلك الصفر المقيت.

 

عبدالله الصوفي