جبران والريحاني جهد رائع.. ولكنه ضائع فكتور الكك

جبران والريحاني جهد رائع.. ولكنه ضائع

إن ما انطبع في أذهان الأمريكيين من صورة للعرب غير مشرقة, يعود إلى عدم حضور العرب أدبيًا وثقافيًا, في حياة الأمريكيين, بل إني أذهب إلى أن هذا الحضور تجلى في أوائل القرن العشرين في صورة مشرقة ثم انقطع تقريبًا, ليرسم - في الذهنية الأمريكية وفي التصور العام لخصائص الشعوب - صورة غير حسنة للعرب.

لقد تحصّل للبنان - ومن خلاله للعرب - مكانة مميزة في الأدب الأمريكي, ومن خلاله في آداب العالم, بما قدمه من تراث خالد جبران خليل جبران وأمين الريحاني وميخائيل نعيمة وسواهم. فمن خلال كتاب (النبي) لجبران, وسائر كتبه بالإنجيزية - الأمريكية, ومن خلال (كتاب خالد) لأمين الريحاني وسائر كتبه بالإنجليزية أيضًا, وعبر (كتاب ميرداد) لنعيمة, كان يمكن للعرب أن يدلُّوا على الحياة الثقافية الأمريكية, والثقافة على المستوى العالمي, إدلال البازيَّ في علياء سمائه.

فقد تُرجم كتاب (النبي) إلى لغات أمم كثيرة, وغدا في أمريكا - في مجال الكتب الروحية والأخلاقية الكلاسيكية - من أكثرها مبيعًا Bestseller, بعد الكتاب المقدس.

كما كتبت حول جبران في أمريكا والعالم آلاف الرسائل والأطاريح والدراسات, في الجامعات وخارجها, ومع ذلك, ما عدد الأمريكيين الذين يعرفون أن هذا الرجل من لبنان? بالرغم من الكتاب الجميل الذي ألفته بربارة يونج بهذا العنوان (Barbara Young: This Man from Lebanon?), وبالرغم من الاحتفال الذي أحيا ذكراه في عهد الرئيس جورج بوش الذي دشّن باسمه حديقة? ثم, ما عدد الأمريكيين الذين يدركون أن جبران خليل جبران ينتمي إلى الثقافة العربية, في تراث الكتاب المقدس المترجم بالعربية, وتراث القرآن الكريم ومتصوّفة العرب والمسلمين?

لقد اعتصر جبران هذا التراث جميعًا وأخرجه (إنجيلا) جديدًا, ما كان ليحلم بأن يقرأ في المعابد والمحافل الروحية الأمريكية في مناسبات الزواج وسواها على الجماهير.

وعلى الرغم من ذلك, أعود, أمام هذا الواقع لأطرح تساؤلاً من نوع جديد: ما صورة العرب التي ارتسمت في أذهان الأمريكيين, من تلامذة وطلاب ومعلمين وسواهم? هم شعب غني, متخلف, بدائي, غير متحضر, يحب الحرب وسفك الدماء, يلبس الغريب من الثياب, ويسيء معاملة المرأة. وإذا كانت هذه النماذج لا تمثل رأي الجمهور كله من مثقفين وغير مثقفين, فالواضح من دراسات أخرى كثيرة أن صورة العرب في أذهان الأمريكيين غير حسنة, لاسيما كما ترتسم فيها من خلال أزمة الشرق الأوسط.

ولما كنت - كما سبق أن قلت - أود أن أحصر حديثي في الشأن الثقافي العربي الإنساني, الذي أغنى به العرب تراث أمريكا الأممي - على صعوبة فصل الثقافة الأدبية عن الإعلام وبرامج التدريس وسواهما من قطاعات - فإني أعود لأقول إن الحضور الثقافي العربي الذي تجلى في أمريكا من دون تخطيط أو قصد إليه لم يقابله العرب بمساع جديدة تُفعّله.

جبران العالمي

ففي مسألة ميراث جبران الثقافي ترك لبنان وحده يسعى إلى عمل ما يدل ماديًا على أن جبران العالمي فعل في الحياة الأمريكية, فكان لابد من تجسيد ذلك في نصب له أو ما يشبه ذلك في نيويورك أو بوسطن, المدينتين اللتين عاش فيهما وأنتج روائع. ولم يسفر الأمر إلا عن لوحة حجرية تذكارية مقتضبة الكتابة لا يشاهدها إلا من يعرف بأمرها ويقصد إلى ذلك قصدا, في أسفل حديقة ببوسطن. كما أن ما خص به جبران في عهد الرئيس بوش من احتفال وذكر للنابغة اللبناني الفذ, لم تقابله مبادرات عربية تفيد من الفرصة المتاحة لتدعيم مكانة العرب الثقافية في العالم. ولو أولى العرب بعض ما يولونه للسياسة والاقتصاد من جهد ووجهوه شطر الثقافة لكانت صورتهم في أذهان الأمريكيين وغيرهم من الشعوب أنصع وأعظم. مثلهم في هذا المجال كمثل الوزنات الخمس في الإنجيل, فالذين أصابوا وزنات ثمروها وجاءوا بمثلها. أما المتواكل الذي لم يكلفه ربّه سوى هبة وزنة واحدة, فلم يقم بأي جهد وخسر الوزنة الوحيدة التي وُهب. أما العرب فقد أعطوا وزنات كثيرة على المستوى الثقافي ولم يسعوا إلى تثميرها.

لقد سبق لأحد رؤساء الجمهورية في لبنان, في الثمانينيات من القرن العشرين, أن مول منبرا خاصا بدراسة تراث جبران وتدريسه في جامعة ميري لاند الأمريكية, فلما انتهت مدة رئاسته انقطعت السيولة عن المنبر فكان ما كان! انحسر حضور لبنان والعرب عن جامعة بارزة ومركز أبحاث أمريكي معروف.

اقتراحات مستقبلية

من المنطلقات هذه, أبادر إلى تقديم اقتراح يقوم على الآتي:

- إنشاء مؤسسات ذات صفة معنوية لا تبغي الربح (NGO) في الولايات المتحدة الأمريكية, تُعنى بجميع الشئون التي تتعلق بالكتّاب الأمريكيين من أصل عربي, أو الذين عاشوا في أمريكا وأنتجوا فيها تراثًا أدبيًا مرموقاً, وإن هم لم يسعوا إلى اكتساب الجنسية الأمريكية, مثل جبران خليل جبران, وأمين الريحاني, وميخائيل نعيمة وسواهم.

ويكون من مهمات كل مؤسسة, على سبيل المثال لا الحصر, السعي إلى إنشاء منبر في إحدى الجامعات الأمريكية, يُعنى بتدريس تراث الأديب أو المفكر الذي أنشئ المنبر باسمه.

يجري التنسيق بين المؤسسة والمنبر لنشر تراث العلم الشهير في شرائح المجتمع الأمريكي المختلفة, بالوسائل المناسبة.

كذلك تهتم المؤسسة بطبع ما لم يطبع من آثاره, وتجديد طباعة النافد منها, والتشجيع على تأليف دراسات حوله وسوى ذلك.

تشترك في تحمّل نفقات المؤسسة جهتان: عربية وأمريكية, لأن ما تقوم عليه هذه المؤسسة هو تراث مشترك عربي - أمريكي, فهو مسئولية مشتركة.

- إنشاء مؤسسات أخرى باسم أعلام التراث العربي, قديمه وحديثه, ممن تتوافر في آثارهم مقومات الآداب الإنسانية والخصائص المحلية المميزة, مثل: أبي العلاء المعري وابن عربي وابن رشد, وسواهم.

يتولى نفقات هذه المؤسسات صندوق عربي مشترك يموّل هذه المؤسسات, سعيًا إلى التعريف بتراث العربية على امتداد الولايات المتحدة الأمريكية, ومن خلالها في سائر البلدان.

معهد أمين الريحاني

وفي حاشية هذين الاقتراحين, يسرني أن أذكر مبادرة من هذا القبيل. فقد أعلن في العاصمة الأمريكية - واشنطن - في نوفمبر من العام 1999 عن إنشاء (معهد أمين الريحاني) في ولاية ميريلاند, وجرى التنسيق لهذا المشروع بين متحف أمين الريحاني ومنظمة أمين الريحاني من جهة, والمجلس الوطني للعلاقات الأمريكية العربية من جهة أخرى (Relations National Council on US Arab) الذي يرأسه جون ديوك أنتوني, وكان الهدف من إنشاء هذا المعهد, بحسب إعلان القيّمين عليه, هو تحسين التفاهم بين الشرق والغرب:

The Ameen Rihani Institute

Dedicated towards improving East-West understanding

وفي تفصيل إجمالي لهذا الهدف, ذكر أن المعهد سينذر نفسه, بالمعنى الشامل, لإنشاء الروابط وتمتينها بين العالم العربي والولايات المتحدة الأمريكية في ميدان الثقافة والأدب.

وإذ أدعو إلى تفاهم جديد بين العرب وأمريكا, على أساس من المعرفة والاحترام المتبادلين, إلى الاقتداء بمعهد أمين الريحاني والنظر في المقترحات التي قدّمتها, يفرحني أن أقدم بإيجاز, الجهد التأسيسي الذي بذله جبران خليل جبران وأمين الريحاني في هذا المجال. عندئذ, نعرف أن من سبقونا مهّدوا لنا الخطة العامة لهذا الطريق الذي نود سلوكه, وصولاً إلى علاقات عربية - أمريكية جيدة, متوازنة, يفيد منها الطرفان, وتسهم في إحلال العدل والسلام في العالم.

كان كل من هذين الكاتبين ذا رؤية, والتزام, ونضال, في مسيرة التفاهم الطويلة بين الشرق والغرب, لاسيما بين الغرب وأمريكا, والجدير بالذكر أن كلا منهما تدبّر الأمر على طريقته وبحسب مزاجه, إضافة إلى أن كلا منهما كان يقدر موهبة الآخر.

الريحاني: نحو وحدة العالم

أوقف أمين الريحاني فكره ونضاله بقلمه وعلاقاته العربية والعالمية - على أعلى المستويات - على موضوع التوحيد. وحد الله بعقله وقلبه, بعيدًا عن الخصوصيات الدينية الضيقة والطقوس المكرّسة, فدعا إلى وحدة الأديان, أي إلى المفهوم العام لوحدتها, معتبرًا أنها من أصل واحد, وأنّ تعاقبها حكمة وتكامل واستمرار في الهداية. كذلك سعى إلى توحيد العرب واتفاق كلمتهم بالكتابة والسفارة بين ملوكهم ورؤسائهم, وأدرك أن العالم العربي واحد من العوالم الموزعة في أنحاء الكون, وأنه ليس من عالم يمكنه الاستغناء عن سواه. كما دحض المقولة الشائعة بأن الشرق شرق, والغرب غرب ولن يلتقيا, فقال بوحدة العوالم ووقف حياته على التقريب بينهما, لاسيما بين العرب وأمريكا, لاعتباره أن الغرب يتمثّل بها في تنوع الولايات المتحدة الأمريكية, الذي يكاد يشمل الكرة الأرضية لا الغرب وحده.

آمن أمين الريحاني (1876-1940) بمسار إنساني يجمع فيه الشرق والغرب, ويزاوج فيه بين تفوّق الشرق الروحاني, وتفوّق الغرب المادي المتمثل في التكنولوجيا, لكنه لم ينسحق أمام هذا التفوق, ولم ير الخلاص في حلول طوباوية يستمدها من ذاك, بل دعا إلى تحرير الغرب (الذي يخص به الولايات المتحدة الأمريكية) الذي تستعبده الصناعة, والشرق الذي يستعبده الدين, وذلك بالعلم والإيمان معًا.

وإليكم, في هذا السياق, ترجمتي لمقطع من (كتاب خالد The Book of Khalid, الذي نشره الريحاني في نيويورك عام 1911.

قال الريحاني:

(الشرق والغرب, الذكر والأنثى من الروح الكونية - الجدولان اللذان يبترد فيهما جسد الإنسان وروحه, وفيهما يستقويان ويتطهران - إني أغنيهما كليهما, وأفتخر بكليهما, وأكرّس حياتي لهما, وفي سبيلهما سأعمل وأتألم وأموت.

(إن المرء الذي بلغ أعلى درجة من التقدم ليس أوربيا, ولا شرقيا, بل هو الذي يجمع في شخصه, في آن, أجمل سجايا العبقري الأوربي والنبي الآسيوي).

هكذا, تنور الريحاني خلاص البشرية وسلام العالم في تكامل الشرق والغرب, ولاسيما أمريكا والعرب بالتخصيص, نموذجًا للتكامل الشامل, وفي هذا الإطار دعا الغرب وأمريكا إلى التصرّف بالقسط والعدل تجاه العرب, والأخذ بقيمهم الروحية, في حين دعا العرب إلى استثمار مواردهم المادية, الطبيعية والصناعية الموعودة, والتقارب والاتحاد ليكون لهم دور في العالم, وذلك أيضا بتطوير مجتمعاتهم باقتباس الأفضل من حضارة الغرب كتقاليد الحرية الفردية والحرية الفكرية والمساواة وما إليها.

وما يجدر ذكره أن الريحاني قرن القول بالعمل, والدعوة بالنضال في مجالات الكتابة والرحلات, للاتصال بالحكام والشعوب في معظم البلدان العربية, والمحاضرة, وعقد الندوات. كما حث أهل القرار في أمريكا والبلدان العربية على التعاون سعيًا إلى التكامل. وإليكم بعض التفاصيل في بعض هذه الحقول, تجنّبًا للإطالة:

عرّف الريحاني أمريكا إلى العرب في مؤلفاته باللغة العربية, كما عرفهم بأوربا, ومن جملة ذلك بالثورة الفرنسية في وجهيها. وذلك واضح في مؤلفاته الكثيرة, ولاسيما في (الريحانيات) و(وجوه شرقية وغربية) ليفهم العرب أن حضارة الغرب, وأمريكا بالذات, لا تدور في دائرة المادة وحسب.

ومن خلال رؤيته النافذة إلى المستقبل, والتزامه قضية الجمع بين الشرق والغرب, وبخاصة العرب وأمريكا, التي جعلها رسالة حياته, كتب بالإنجليزية, ونشر في أمريكا مجوعة من الكتب, ليتعرّف الأمريكيون إلى التراث العربي, في تنوعه وغناه وعمقه وكونه تراثًا أمميًا, على ما أعتقد, كما هو التراث الأمريكي الجامع. وهكذا, استطاع أن يمحو من أذهان قرّائه بالإنجليزية, أو حاول, القوالب الذهنية التي تحصّلت لهم من خلال دراسات عدد من المستشرقين المغرضين الذين تجنّوا على العرب والإسلام والمسلمين, بوجه عام, وهو المسيحي, الماروني, اللبناني. ومن الطبيعي أن يكون كلامه, والحال هذه, أنفذ وأكثر تصديقًا من كلام مسلم يدافع عن تراثه, وإن يكن تراثًا مشتركًا للمسيحيين العرب والمسلمين.

إن هذا المنحى شأن نعتبره - نحن المسيحيين العرب - من جوهر رسالتنا ومن واجبنا - ولا منّة في ذلك, وقد قمنا بهذا الدور قديمًا, وفي عصر النهضة منذ إرهاصاته الأولى, مرورًا بالربع الأول من القرن العشرين, حيث اضطلع به عدد وفير منا, وعلى رأسهم أمين الريحاني وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وسواهم, سواء في لبنان أو في سائر ديار العرب وفي الولايات المتحدة الأمريكية. أما الكتب التي ألفها الريحاني بالإنجليزية سعيًا إلى هذا الهدف, فهي:

- The Quatrains of Abu L-Ala.New York: Doubleday Page and Co.

رباعيات أبي العلاء

- Myrthle and Myrrh. Boston: Gorham Press, 1905

ألآس والمرّ

- The Book of Khalid. New York: Dodd Mead and Co, 1911

كتاب خالد

- The Luzumiat of Abu L-Ala.New York: James J. White and Co., 1918.

لزوميات أبي العلاء

- A Chant of Mystics and other Poems. New York: James J. White and Co., 1921

ترنيمة الصوفية وقصائد أخرى

- The Path of Vision. New York: James. J.White and Co., 1921

نهج الرؤيا

- Ibn Saoud of Arabia, His People and His Land. Boston: Houghton Mifflin Co., 1928

ابن سعود من بلاد العرب, شعبه وأرضه

- Around the Coasts of Arabia, London: Constable and Co., Ltd., 1930

حول سواحل بلاد العرب

- Arabian Peak and Desert. London: Constable and Co., Ltd., 1931

القمم والصحارى العربية

أضف إلى ذلك حوالي أربعة عشر كتابًا, بالإنجليزية أيضًا, لاتزال مخطوطة تنتظر من يحققها وينشرها, ومن شأنها أن تتوج سعي الريحاني إلى التعريف بالعرب بلغة العمّ سام وبدورهم في حضارة الإنسان وثقافتهم العظيمة.

ترجمة التراث

إن الناظر برويّة إلى موضوعات الكتب المنشورة والمخطوطة - التي دبجّتها براعة الريحاني - يرى أن هذا المفكر العملي كان يعي بوضوح ما يريد, وأنه إضافة إلى سعيه الذي أوضحنا بعض جوانبه, رمى إلى نقل روائع من التراث العربي إلى العالم الأمريكي, ومن ثم إلى العالم بأسره, فترجم من العربية بالإنجليزية ما أسماه رباعيات أبي العلاء المعري, ثم لزوميات أبي العلاء. كما صاغ سعيه إلى المصالحة بين الشرق والغرب مصالحة حضارية في رواية Novel فلسفية رمزية أسماها كتاب خالد وفّق فيها بين العقل والإيمان والمادة والروح. كما أنه طرح مبدأ التكامل بين الأديان وصولاً إلى مبدأ وحدتها, فاستحق العنوان الذي أعطيته إياه وهو: (الريحاني داعية وحدة الأديان ووحدة العوالم:), وهو عنوان كتاب لي صدر في العام 1980. قال في فاتحة الكتاب الثالث من كتاب خالد حاملة عنوان (إلى الله):

عبثًا طلبتك في أديان الناس...
فلقد توضح لي حرف ساكن من اسمك في الفيدا
وحرف في الزند أفستا
وحرف في الإنجيل
وحرف في القرآن..
كل أمة من أمم الأرض أدركت حرفًا
من هذا الطّلسمْ العظيم...

هكذا, بيّن الريحاني بأسلوب رمزي أن جمع الشرق والغرب ممكن, والتوفيق بين روحانية العرب وبراجماتية أمريكا ممكن التحقيق, كما التوفيق بين الأديان ببيان تكاملها من شأنه أن يزيل التناقض بين شرق عربي مسلم, على العموم, وغرب مسيحي, بصورة عامة. وخلال ذلك, أبان للغرب, وبخاصة لأمريكا, أن الشرق العربي عقلاني مثله يعلي شأن العقل ويتخذه إمامًا كما في شعر أبي العلاء المعري الذي صاغ الريحاني قسمًا منه في الإنجليزية, في مجموعتي الربّاعيات واللزوميات.

بناء على هذا وسائر أنشطة الريحاني, كتبت صحيفة (الأمة) الأمريكية في عددها الصادر بتاريخ 21 مارس 1912 (مشيرة بوجه خاص إلى (كتاب خالد)):

(ابتدع الريحانيُّ نوعًا أدبيًا يكاد أن يتماسّ فيه الشرق والغرب, العربية والإنجليزية...).

أليس هذا هو ما نسعى إليه ونتمناه?

ذكرت سابقًا أن الريحاني رأى في تكامل الشرق والغرب خلاصًا للبرية وإرساء لأسس السلام في العالم, لاسيما بين أمريكا والعرب. واقع الأمر أن هذا الرؤيوي الملهم تنوّر في أوائل القرن العشرين خروج الجبّار الأمريكي من وراء المحيط إلى ساحة العالم القديم, عودة إلى الأصول بعد الهجرة, كما قدر الأنبياء والمصلحين والمجاهدين في سبيل قضاياهم. فقد استشف بنظره الثاقب تنامي الجبار الأمريكي وبداية صحوة لدى الجبار العربي النائم, بعد سبات أورده فيه الاستبداد المتمادي, ثم الاستعمار المستغل. فأدرك بحدسه النابع من التصوّر والتجربة أن انفتاح الولايات المتحدة الأمريكية على العرب وطلب العرب المدد من أمريكا سيساعد هؤلاء على التخلص من قيد الاستعمار, ويتيح لهم التعرّف إلى تجربة أمريكا العلمية والصناعية والتكنولوجية. من جهة أخرى, كان يرى أن أمريكا في حاجة إلى موارد العالم العربي وإلى توازن في حضارتها بعد أن جنحت إلى المادية المفرطة وعصفت بها نزعات التعصّب والقوميّة والعدوانيّة في عهد الرئيس روزفلت. لذلك عمدَ, بعد أن كان طاف في بلاد العرب ودعا ملوكها ورؤساءها إلى توحيد الكلمة والتهيؤ لدخول القرن العشرين بالتعاون مع الغرب غير المستعمر, إلى القيام بما يتلاءم وذلك في بلاد العم سام. عاد إلى نشاطه السياسي والفكريّ المرافق له متنقلاً بين نيويورك وواشنطن. اتصل بالمسئولين في وزارة الخارجية الأمريكية وسائر الوزارات, راسل الوزراء ورؤساء الوزارات والحكام والملوك العرب, تقريبًا لوجهات النظر بينهم وبين الأمريكيين. كتب في الصحف في أمريكا بالإنجليزية, والعربية في صحف المهجريّيين من العرب, لاسيما اللبنانيين سواء بسواء تأدية لدوره على الوجه الأفضل الذي تصوّره.

ألقى المحاضرات في النوادي والمدارس والمعاهد في البلدان العربية وأمريكا. عقد لقاءات فكرية وسياسية محرّكًا الأمريكيين والعرب الأمريكيين. وكان همّه من هذا التحرّك الناشط باستمرار أن يقنع الطرفين بالاحترام المتبادل والتعاون المتبادل لما فيه خيرهما.

ولمّا كان ذلك العهد عهد الفورة النفطية, فقد أراد أن يفيد من خيراتها العرب والأمريكيون, وهو ينتمي إليهما معًا. فسعى في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين إلى تأمين مصلحة الطرفين على الشكل الآتي:

رأى الريحاني في الملك عبدالعزيز آل سعود شخصية عربية مبرزة. هيبته وسلطته تتناميان بعد توحيده معظم شبه الجزيرة العربية في مملكة موحدّة. وتنوّر الريحاني أن هذا الملك يستطيع أن يكون المحاور المناسب لأمريكا ورأس الجسر الذي طالما حلم الريحاني بأن يمدّه بين العرب وأمريكا. لذلك ضاعف الريحاني نشاطه في الشرق, لاسيما في أمريكا لكسب اعترافها بهذه الدولة الناشئة, بعد أن رأى في الملك عبدالعزيز تجسيدًا للعنفوان العربي, والسلطة الراسخة, والاستنارة بالماضي والحاضر المتطور, ونهجًا لإعادة توحيد كلمة العرب.

من جهة أخرى, أدرك أن أمريكا التي تريد الخروج من عزلتها وراء المحيط, وتصبو إلى الموارد ولاسيما النفط, هي في حاجة إلى محاور ومتعاون في حجم المليك المتعاظم نفوذًا وقدرة.

ناضل الريحاني في سبيل هذا الهدف الذي يجسّد هدفه النظريّ العام, فأثمرت مساعيه, بعد طول أناة ونضال لم يعرف الهدوء. فمن خلال اتصالات متلاحقة بالمسئولين الأمريكيين, لاسيما بناظر الخارجية الأمريكية هنري ستيمسون خلال عام 1931 (Henry Stimson), لم يعتّم أن وافق الرئيس هوفر (Hoover) على ضرورة اعتراف أمريكا بالمملكة العربية السعودية.

لم تقف مساعي أمين الريحاني عند هذا الحد, بل كانت هذه الصلة الجديدة فاتحة لصلات متعاقبة بين الشرق العربي والغرب الأمريكي. إذ رأى صقر الجزيرة العربية أن نظرية أمين الريحاني المتمثلة في رؤياه المستقبلية بالنسبة إلى الحفاظ على استقلال العرب وتحررهم من الاستعمار البريطاني والفرنسي صائبة تخدم مصالح الأمة, فاقتنع بأن يعهد إلى أمريكا في التنقيب عن النفط في أراضي المملكة.

وقد شهد الواقع بذلك, وكثير من العارفين بباطن الشئون السياسية والاقتصادية, وبينهم شاهد من أهله, كما يقال, بين شهود كثيرين. كتب ليونرد مصلي:

(لولا مساعي أمين الريحاني لكانت ثروة حقول النفط في شبه الجزيرة العربية في أيدي البريطانيين بدل الأيدي الأمريكية). ومن نافل الكلام القول إن أبواب الشرق الأوسط فُتحت لأمريكا, بعدئذ, واحدًا تلو الآخر حتى أيامنا. إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقابل تعاون العرب معها بما هو خليق بها تجاههم, فبالرغم من صدق الرهان الذي عقده عليها الريحاني أصاب الديمقراطية الأمريكية وهن بل انفصام في المفهوم.

فالديمقراطية ليست حرية ومساواة بين الأفراد والجماعات والدول, بل هي عدالة أيضًا. الديمقراطية مفهوم ونظام كامل لا يتجزأ.

لذلك, أصيب العرب بخيبة أمل كبيرة تجاه موقف أمريكا من قضاياهم, لاسيّما القضية الفلسطينية. فقد انحازت الدولة العظمى, ولاتزال إلى جانب إسرائيل, وأحدثت بذلك شرخًا كبيرًا في إيمان العرب بأنها الدولة الديمقراطية والأمة التي ناهضت الاستعمار.

من هذا المنطلق, دافع أمين الريحاني عن حق الفلسطينيين في أرضهم وممارسة سيادتهم, في إطار المبادئ الأساسية لحقوق الأفراد والشعوب, داعيًا الأمريكيين إلى تفهّم القضية الفلسطينية, فكتب سلسلة مقالات, وألقى محاضرات عام 1930, جمعت فيما بعد في كتاب بعنوان (قدر فلسطين).

إذا أردنا أن نخرج بعنوان كبير لتنمية العلاقات الأمريكية - العربية, فلنعد إلى الصفاء الأول بها, إلى المصلحة المتوازنة كما تصوّرها الريحاني, وسعى إلى تحقيقها. إن هيكل الديمقراطية في أمريكا سيتداعى إن هي لم تعمد إلى تدعيم ركن العدالة فيه تجاه الشعوب والأمم. فالديمقراطية كل لا يتجزأ إذا سقط أحد أركانها تداعت سائر الأركان.

 

فكتور الكك