ذكرى صلاح الدين بوجاه

ذكرى

طفل يلهو بتخريب الذكرى, يجعل الزيت يطفح من مرض اللوم الأخرس, يعود إلى النبات الجاف ليضيف صورًا جديدة, يجده قد ازداد صفرة في لون التراب.

طفل يختار المروق من النواميس..! وتبقى النبتة شاهدًا على عصر ولَّى وآخر قادم, مثل قطار مخمليّ يهرول فوق هذيان الحمرة القانية!

تكبر كوثر بنت جويدة التريكي...نساء يصرخن, ورجال يطلقون صفيرًا, والشارع الطويل الذي يحمل اسمها ينبجس من الصوب البعيد, يعدو نحو الأيل, والودّان, ووعل الشعاب, وضاحية المرسى تُغنّي وتنصت إلى صوتها القادم من جبل سيدي بوسعيد. المغارات تردد الصدى, والهيام واسع والأمل كبير, أما الأبدان فتتفصد عرقًا, والأرواح تذوب جوعًا, ولا معنى. الكفر بالنعمة لئيم بارد مثل أطراف الموتى.

النبتة الأولى من شجر الدُّلب, أربع وحدات: وحدة وسطى أكبر من الثلاث الأخريات, متفرعة, أوراقها تشبه ورق التوت, شديدة التفريع, أما بقية العناصر, فالأولى تمثل ثمارًا صغيرة, والثانية ثمارًا ذكورية, أما الثالثة فثمارًا أنثوية, اللون الأخضر يغلب على المشهد, بعد وقت ستصبح في لون التراب, لكنها تحافظ على قوامها. الفتاة في الرابعة, ثوبها مزهر يكشف كتفيها, تتكئ بظهرها الصغير على الجدار, هو هنا جدار المخزن القديم, وفي مشهد آخر هو مبنى الحكومة في الضاحية الشمالية.

هذا ما نشاهده في المدافن والحدائق المتوارية خلف أبهة الشوارع ورنين الكلام الرسمي! اللون الأخضر داكن مثل مخمل نلمسه فتلمس وهمًا وضجيجًا وخفرًا وغلمة ذاهبة.

صورتك, وصورة كوثر السوداء الرائعة تظهران فجأة, ثم تختفيان, الصورة تنغرس في أخاديد الورق, تتحرك بين أوراق الكراس. مشهد قديم هذا ألوانه خضراء, كم للأخضر من لون! بعضها رتيب, وبعضها أثير لدى العارفين.

بقسٌ, نبات البقس ورقه صغير مستطيل ينبت في هذه الضواحي, مشبع بالماء, لامع. فوق ثماره طربوش صغير مثل ناقوس الكنيسة, خضرته داكنة! لا دوام لشيء, كل شيء إلى زوال! صورة الناقوس تلازمني, تشهد على الكتابة.

صورة الناقوس تلازمني, تكون شاهدًا على الكتابة! من ترى يكون شاهدًا بعدنا على كل شيء? صخور جبل بوقرنين وهضبة بيرسة, وسيدي بوسعيد, والبحر البعيد هنالك في الأفق.

السحاب تذروه الريح, وتعازي العابرين خلف أشجار السرو غير المتكافئ, لحظات من الورع الرقيق, يعسر أن نسميها العُلّيق, أو توتة العُلّيق: زهورها بيضاء جميلة تتوسطها حمرة, أما الثمار فليس أبدع منها لونًا وشكلا وملمسًا!

بديع كراس النباتات, كوثر مثل الحيوان الصغير الأملس, ساقاها مرتويتان برضاب الأماسي القادمة, يخيل لي أنني لو أهز طيفها المتوثب بين شوارع الضواحي الشمالية والبحر تسقط مثل بللور مكسور. يا لصفاء الروح غبّ الخروج, هؤلاء موتانا تحت زليج القاعات الخافتة, والأم تروي للعمة حكايا الأبناء والبنات قبل الغروب, والسحر موصول بالبداية, فمَن يحافظ على لون النبات القديم.

الفيروزي, أزرق الأعماق, الأزرق البحري, الأزرق المرجاني, الوردي المائل إلى حمرة, الوردي, الأبيض الوردي, الأصفر الذهبي, الأصفر الليموني, الأصفر التبني, أصفر المُح, البنفسجي, الأخضر الناصع, الصنوبري, الأخضر الفاتح, النعناع, الكستنائي, الأسود, الرمادي, الأبيض, اللازوردي, الذهبي, الفضي, أزرق الصين, الرمادي الناصع.

أي لون تختار كوثر بنت جويدة التريكي, أي الألوان يناسب رماديتها: الأسود, أم الأسود الممزوج بلون الرماد? الأزرق الفاتح, الأزرق العميق, الكستنائي الفاتح, الرمادي الفاتح, الأصفر المشع, لون المح, الزمردي, الأخضر مثل الرغوة, الأزرق الليلي, البنفسجي الفاتح, زهر اللافوند, قشرة البيض. أدخل في اللون, أمزج الألوان والأشكال, أحيا داخلها, يا للعمى والبياض, من البياض ينبثق الخسران.

الجنون غاية يصعب إدراكها, غايتي الشوارع البعيدة تصل بين الضاحيتين.

خلف البيت الواسع أمطار السنوات السبعين, الأمل ينشر رداءه فوق الندى والسهوب, والأيام تتوالى رتيبة صامتة.

تزل بالطفل قدمه, يأخذه الخوف, الرعب شاسع حوله, يوقن بالغرق, يسقط داخل حفرة, بركة صغيرة موحلة يغمرها التراب وأوراق النبات الجاف, والحشرات الدقيقة جدًا.

كان الغدير باردًا غير بعيد عن البحر, شكله شكل بحيرة صغيرة زرقاء, ما إن تدحرجت داخله حتى تلطخت ثيابي بأوحاله! أحسست أنني قد لبست قميصًا لزجًا من التربة المنسابة, وأخذت أسبح في لزوجة كاملة لا منتهى لها.

كنت في أعماق الحفرة, رجلاي متدليتان حتى القاع, والسماء لينة ممتعة, أمسك بالكتل الموحلة, أمزجها مزجًا, ألعب بها بين أناملي, أعجن منها ما يستعصي على العجن, الطين يتعلق بصدري وكتفي وراحة يدي, فأستشعر لذة لا توصف, وتسري في يدي رعشة لا حدود لها.

 

صلاح الدين بوجاه