اللغة حياة: «لا» بَعد فِعل منفيّ وبناء «أبو»

اللغة حياة: «لا» بَعد فِعل منفيّ وبناء «أبو»

ممّا يريح الباحث في اللغة أن يتّصل به القرّاء ويسألوه في بعض مقالاته، ثم يسألوه أن يكتب في موضوع أُشكل عليهم، فهذا ممّا يوحي له حيويّة المسائل التي يطرحها. ولقد اتّصل بي مدقّق لغويّ في بعض الصحف اللبنانيّة، وحاورني في استعمالين لحظهما في بعض مقالاتي: الأوّل هو استعمال «لا» بعد فِعل منفيّ لفظاً أو معنىً، كقولي: «من غير أن يُدخلوها لا في المصروف ولا في الممنوع من الصرف» (العربيّ، العدد 638، قيام الجملة المعترضة مقام الصفة والاسم)، والثاني جرّ أحد الأسماء الخمسة بالواو في نحو قولي: «بَعَثَ بها إلى محمود أبو ريّة»، (العربيّ، العدد 639، بين قيد النظم وحريّة اللغة والتجديد)، موضحاً أنّ بعض اللغويّين ينكرون الاستعمال الأوّل بحجّة أنّ نفي النفي إيجاب، ولذلك ينبغي حذف «لا» التالية للفعل في الجملة.

وقد اكتفيت بردٍّ جزئيّ وهو أنّ التكرار هنا ليس نفياً للنفي بل هو توكيد له، واللغة ليست منطقاً مجرّداً، ولو كان ما يقوله المعترضون من نفي النفي صحيحاً لم يستعمل الفرنسيّون هذا الأسلوب، لأنّه يؤدّي حينئذ عكس المراد قوله. لكنّني قدّرت، من بعد، وأنا أراجع نفسي، أنّني ربّما أخذت الجملة الأولى من الصيغة الفرنسيّة: ne...ni...ni في نحو: Il ne sera élu ni votre candidat ni le mien (لن يُنتخب لا مُرشّحُك ولا مرشّحي)، ولا نظير لها في العربيّة؛ فالآية الكريمة تقول: ******«لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًاً»***سورة الإنسان آيه رقم 9*** وتقول آية أخرى: «ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى»،***سورة البقرة آيه رقم 262*** ويقول الحديث الشريف في المُحْرِم، مثلاً: «لاَ يَلْبَسِ القَمِيصَ وَلاَ الْعِمَامَةَ»***حديث شريف***، حيث اكتُفي بنفي الفعل دون المفعول، ولم يكرّر النفي إلاّ عند العطف؛ وهو أسلوب مستعمل حتى في الفرنسيّة، في نحو قولهم: Il ne sait pas parler ni raconter (لا يُحسن الكلام ولا القَصّ). وهذا يوحي أنّني ربّما استعجمت لإقامتي في فرنسا عدّة سنوات، وكتابتي أطروحة الدكتوراه باللغة الفرنسيّة، ورجوعي إلى المراجع الفرنسيّة بين حين وآخر. لكنّ في العربيّة مثلاً مشهوراً هو: «فلانٌ لا في العِيرِ ولا في النَّفيرِ»، وتقدير معناه عندنا: فلان غير معدود لا في العِير ولا في النفير، حيث جاءت «لا» توكيداً لغَيْر، ولا نستطيع حذفها لأنّها في مَثَل. كما لا نستطيع تقدير هذا المثل بـ: فلان معدود لا في العير ولا في النفير؛ وأيّاً ما كان التقدير ودرجة فصاحته، فإنّ هذا المثل يبقى بصيغته التكراريّة رَوْسماً راسخاً في لاوعي المستعمل العربيّ، ويحمله على محاكاة أسلوبه، وعلى تسويغ الأسلوب الأجنبيّ المشابه له، ولعلّ ذلك هو سبب شيوع الصيغة المشار إليها.

يبقى جرّ أحد الأسماء الخمسة بالواو في «أبو ريّة» في الجملة الثانية. معروف أنّ الكنى أسماء يضاف فيها لفظ الأب أو الأمّ إلى اسم الولد البكر، الحقيقيّ أو غير الحقيقيّ؛ فمن الحقيقيّ: أبو القاسم، كنية النبيّ (ص)، وأبو الحسن، كنية عليّ (ر)، ومن غير الحقيقيّ: أبو بكر، كنية الخليفة الثاني (ر) وليس له ولد اسمه بكر، وأبو تراب، كنية عليّ (ر)، أطلقها عليه النبيّ (ص) لعلوق تراب المسجد بثوبه، وأبو خليل، كنية كلّ من يُدعى إبراهيم، لكون النبيّ إبراهيم يوصف بخليل الرحمن، وأبو الحُصَيْن، كنية الثعلب.. إلخ. كما قد تكون «أبو» في الكنى بمعنى ذي أو ما يقاربها، فتطلق مدحاً أو ذماً أو تحبّباً أو تفاؤلاً أو تطيّراً، كأن يقال للأعمى أبو بصير، وللحبشيّ الأسود أبو البيضاء، وللأسود أيضاً أبو دُلامة (كنية الشاعر العباسيّ زَند بن الجَوْن)، أي أبو سواد، وللرجل يكون أوّل من يصيب المرأة أبو عُذْرَتِها، ولمن يسير في الغَلَس أبو المُغلِّس (كنية عنترة العبسيّ)، وللفارس الكبير أبو الفوارس؛ ويقال إنّ كنية أبي نُواس كانت في الأصل لأحد ملوك حِمْيَر في الجاهليّة، لضفيرتين كانتا تنوسان (تهتزّان) فوق ظهره.. إلخ. و«أبو» في هذه الكنى جميعاً مصروفة: ترفع بالواو وتنصب بالألف وتجرّ بالياء وفق القاعدة المشهورة.

وهناك أسماء أماكن كُنيّية صرفها القدماء، مثل أبي قُبَيْس (جبل في مكّة)؛ ففي الحديث الشريف: «يَأْتي الرُّكْنُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْظَمَ مَنْ أَبِي قُبَيْسٍ». ونسبوا إلى أبي قُحافة، والد أبي بكر الصدّيق (ر)، كلاماً يخاطب به صغرى بناته بقوله: «أَيْ بُنَيَّةُ، اظْهَرِي بي عَلى أَبي قُبَيْسٍ». ونسب ياقوت الحمويّ في معجم البلدان بيتاً إلى بعض الشعراء يقول فيه:

أَجِدَّكِ هَلْ رَأَيْتِ أَبا قُبَيْسٍ
أَطالَ حَياتَهُ النَّعَمُ الرُّكامُ

لكنّ المتأخّرين جعلوا بعض الكنى أعلاماً للأسر، مثل أسرة الشاعر اللبنانيّ إيليّا أبو ماضي، وأسرة الشاعر السوريّ عمر أبو رِيشة، وأسرة اللغويّ المصريّ عليّ أبو المكارم، وقد طبّق مصطفى صادق الرافعيّ القاعدة المتعارفة - وكان متشدّداً في اللغة - فلم يخاطب محمود أبو ريّة في رسائله إليه إلا بعبارة: «يا أبا ريّة». لكن كلّ الناس تقريباً لا تغيّر اليوم صورة «أبو» في هذه الأسماء، إمّا لأنها مثبتة هكذا في الوثائق الرسميّة، أو خوفاً من التباس العَلَم بالكنية؛ فلو قلنا مثلاً: قرأت كتاباً لعليّ أبي المكارم، لظُنّ أنّ أبا المكارم هي كنية عليّ، وأنّ له ابناً حقيقيّاً أو متخيّلاً اسمه مكارم. صحيح أنّ حركة الإعراب في عليّ تمكّن من التفريق بين الحالتين، لكنّ اعتياد الناس تسكين أواخر الأعلام يُبقي الأمر ملتبساً، ولذلك تحاشوا الالتباس بإلزام «أبو» صورة واحدة. ومن أسماء البلدان أبو ظبي، ولا نعرف أحداً يغيّر «أبو» فيها، كما لا نعرف أحداًَ تكلم على منع الأسماء الخمسة من الصرف، ونحن نفضل اعتبار هذه الكنى المتّخذة أعلاماً للأُسر، والملتزمة صورة واحدة، أسماء مبنيّة على الحكاية لأنّها لا تتغيّر، وهذا يعني أنّ المتأخّرين استنبطوا ضرباً جديداً من الأسماء المبنيّة يمكن أن نسميه الأعلام الكنيّية المبنيّة، لاسيّما أنّ من الصعب فرض الصرف على اسم اختار المجتمع بناءه وعلميّته، وسُمّي به لغويّون مرموقون، يتقنون النحو ويعرفون‏ دقائقه، فلم يبدّلوه.

ولذلك كتبتُ اسم محمود أبو ريّة، في مقالتي، على الصورة التي كتبه بها صاحبه. والشيء نفسه يقال في من يبدأ اسمه بـ«أبي» أو «أبا» ونحن في لبنان نفرّق، مثلاً، بين عائلتين كبيرتين: أبو شقرا، وأبي شقرا، بكلمتي «أبو» و«أبي» اللتين لو غيرتا لالتبس الأمر؛ وتسمّى إحدى الأسر اللبنانية أبا الحُسَين، فلا يتغيّر لفظها. لذلك نتمنّى على المَجمَع أن يدرس هذه الظاهرة ويرى رأيه فيها.
-------------------------------
* أكاديمي من لبنان.

 

مصطفى عليّ الجوزو*