ذكرى أمل دنقل

ذكرى أمل دنقل

كنت أتصفّح جريدة «الدستور» القاهرية صباحاً، لفت نظري في رأس الصفحة المكتوب بالخط العريض «25 سنة على رحيل المارق.. ولايزال اسبارتاكوس معلقًا على مشانق الصباح».

أخذت أقرأ المقالة التي تبدأ على النحو التالي: «اليوم 21 / 5 / 2008 يمر ربع قرن (25 عامًا) على رحيل أمل دنقل. وأمل راحل له وضعية خاصة جدًا... شديدة التفرّد.. ومازالت كلماته تملأ كل الأوراق... وتحلق في كل الأجواء». وتمضي المقالة في الحديث عن أمل، وأرى رسمًا لوجهه في أقصى يمين الصفحة، الملامح الحادة، النظرة النافذة، الإصرار على الهدف الذي يصل ما بين الجبين وبقية ملامح الوجه، الشفاه المكتنزة التي تتناغم مع بقية الملامح، كأنه صورة أخرى من وجه «أخناتون» الذي مات صغيرًا، مؤمنًا بما انتهى إليه، غير متنازل عنه، أو متراجع فيه، كأنه الأصل الأول الذي تجسّدت به الكلمة التي ظلت تتردد عبر القزون والأجيال، ضد الشر والفساد والتنازل، في مواجهة كل ما يعتدي على كرامة الإنسان وحقه العادل في الحضور، أعني كلمة «لا تصالح» التي تتردد في مسامعنا، حيّة مثل قائلها الذي لايزال حيّا بكلماته، أكملت المقال الذي كتبه وليد كساب، ونظرت إلى أوراق النتيجة الموجودة على مكتبي، فاكتشفت أن اليوم هو الحادي والعشرون من مايو 2008، أي أن ربع قرن بالكامل مضى على وفاة أمل دنقل.

ياه! ربع قرن؟! دارت الأرض دورتها، حملتنا الشواديف من هدأة النهر، ألقت بنا في جداول أرض الغرابة، نتفرق بين حقول الأسى وحقول الصبابة، لاأزال أذكر يا أمل المشهد الأخير قبيل موتك، حين فتحت باب الغرفة رقم (8) في المعهد القومي للسرطان، كانت عبلة زوجك دامعة العينين، وغير بعيد عنها أخوك أنس دامع العينين بدوره، وما إن رأيتني حتى اكتسى وجهك بجدية صارمة، وأشرت إلىّ كي أقترب، وطلبت من عبلة وأنس أن يتركا لنا الغرفة، وقلت لي: ارفع الطرف الذي تحت رأسي من المرتبة، ففعلت. وقلت لي خذ رزمة النقود الموجودة، فأخدتها، فقلت ضعها في جيبك، ففعلت، إذ لم تترك لي صرامة نظرتك سبيلاً إلى السؤال أو حتى التعليق، وقلت لي: أعرف أنك رومانسي في أعماقك، اقمع هذه الرومانسية، واستمع إليّ، وافعل ما أطلبه منك إن كنت تحبني حقًا، ولا تقل أي كلمة, اسمع فقط. ولم أملك سوى أن أومئ برأسي علامة على طاعتي، عندما استرد أنفاسه اللاهثة، قال لي: أنا أعلم أني سأموت اليوم أو غدًا. كل ما أطلبه أن يصحبني أصدقائي إلى مأواي الأخير، وأن يركبوا معي الطائرة، بشرط ألا يتكلف واحد منهم مليمًا، معك النقود في جيبك، ادفع منها للتذاكر، ولا تدع أحدًا يدفع أي شيء في مصاريف جنازتي أو سفر أصدقائي. كل ما أريده مصاحبتكم لي إلى القبر الذي أراه الآن، وأرجو ألا تخذلني في هذا المطلب الأخير. كنا قد اقتربنا من الظهيرة، وحضر عبدالرحمن الأبنودي رفيق صباه، حاملاً معه شريط الكاسيت الذي طلبه أمل دنقل، وهو تسجيل لأغنية كتبها عبدالرحمن لمحمد قنديل بعنوان «ناعسة». واستمعنا إلى الأغنية التي طلبها أمل، ولفت نظري المقطع الذي يقول: «يا ناعسة لا لا، خلصت مني الجوالة (الكلام)، والسهم اللي رماني، جاتلني لا محالة». وبدا الأمر كما لو كان أمل رأى في هذا المقطع صورة الموت القادم إليه بلا رجوع، وظل يسمعها وهو يضيع منا تدريجيًا، فيتوقف عن الكلام، ويتباطأ تنفسه، ويتحشرج صوت النفس، ويدخل إلى عالم الموت، وأخذنا نعرف أنها النهاية، وأن سهم الموت قاتله لا محالة، وظللنا ننتظره طوال النهار، لكننا كنا نراه يقاوم، وتركناه في مساء متأخر، ونحن لانزال آملين في انتصار إرادته العنيدة على الموت، ولكن ما كاد صباح اليوم التالي يبين عن ضوئه الشاحب حتى رنّ التليفون، وأجابني صوت أنس باكيًا، فبكيت معه وأنا أرتدي ملابسي، وأهرع إلى المستشفى، وجاء الصديقان: عبدالرحمن الأبنودي وعبدالمحسن بدر، وأنا إلى جانب عبلة وأنس. وكان الجثمان قد فارق الغرفة لإعداده للسفر والدفن. وقد سبقتنا الأم الثكلى إلى البلدة النائية في أقصى الجنوب مع بقية الأقرباء، واتفقنا على السفر مع الجثمان بالطائرة. وانبرى الأبنودي معلنًا استعداده لتحمّل تكاليف كل شيء. فهو أولى بذلك من غيره، فأمل رفيق صباه، وتوأم عمره، وهذا حقه عليه، لكني أخبرتهم بما كلّفني به أمل، فسكت الجميع، وقال عبدالمحسن الذي كان يكبرنا جميعًا في العمر والمقام: لابد من تنفيذ وصية أمل. أما أنت يا عبدالرحمن فتولَّ الجانب التنفيذي، وقم بحجز التذاكر وقيادتنا في الأقصر، ومنها إلى القرية، وجابر يتولى دفع كل شيء كما أوصاه أمل.

أسلوب للوشاية

وقبل أن نفارق مكاننا، ويتركنا عبدالرحمن للحجز في أول طائرة في صباح اليوم التالي، كتبنا النعي، وذكرنا بقية أسماء من كان يحبهم أمل دنقل ويحبّونه. ولم نكن ندري أن أحد الكتّاب المرتزقة الذين لم يعد يسمع عنهم أحد، واسمه إبراهيم الورداني، سوف يهاجم النعي، ويلفت أعين الأمن إلى أن كل الموقّعين من الشيوعيين، كأنه يلفت أمن الدولة إلى القبض على هذه الخلية التي تعلن عن نفسها في النعي. ولكن، لحسن الحظ، كان العاملون في أمن الدولة أكثر إنسانية واحترامًا من هذا الكاتب الذي حكم عليه الزمن بما يستحق، فانمحى اسمه من الذاكرة الثقافية فور رحيله، وبقي اسم أمل دنقل في ذاكرة الأجيال الجديدة التي ينتسب إليها وليد كساب الذي ذكّرني مقاله بمرور ربع قرن على وفاة أمل الذي لايزال حيّا في ذاكرتي ووجداني وقلمي.

ولم نعرف ما كتبه الورداني - بالطبع - إلا بعد عودتنا من الجنوب، فقد نزلنا في الأقصر، ومنها إلى قرية أمل دنقل القريبة من قنا. وهناك اكتشفنا أن أخانا الشاعر الصعلوك الذي كان يتقبّل حياة الشظف والحرمان والنقص الدائم للمال بإباء وشمم ينتسب إلى أسرة بالغة الثراء، فعمه العمدة، وابن عمه لواء في الشرطة، وبقية أقاربه من أثرياء القرية وسادتها. وبالطبع، استقبلونا باعتبارنا منهم، لأننا أحباب ولدهم، وبالطبع، لم أجرؤ على أن أقول لهم إن أمل كلّفني ألا يدفع أحد غيره نفقات جنازته، فقد كان الأمر بمنزلة إهانة بالغة لهؤلاء الكبار الذين كان من حقهم أن يقوموا بواجبهم الأخير إزاء ولدهم، وسرنا معهم في جنازة أمل التي انتهت عند قبر أبيه، وتركناه في القبر، منفذين وصيته، والأسطر الأخيرة من قصيدة «الجنوبي» التي كانت آخر ما كتب، تتردد في أسماعنا:

هل تريد قليلاً من الصبر؟
لا
فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكون الذي لم يكنه
يشتهي أن يلاقي اثنتين:
الحقيقة... والأوجه الغائبة

وقلنا في أنفسنا، ونحن عائدون من المقابر، هأنت يا أمل قد قابلت الحقيقة التي ظللت تبحث عنها طوال عمرك، والأوجه الغائبة التي أصبحت تراها. وهأنا، الآن، بعد ربع قرن من ذلك اليوم، أتذكر رثاءك لمحمود حسن إسماعيل الذي كنت تحفظ الكثير من شعره، بعد أن عرفت أنه مات غريبًا في الكويت، فكتبت:

كل الأحبّة يرتحلون
فترحل شيئًا فشيئًا عن العين ألفة هذا الوطن
نتغرب في الأرض ونصبح أغربة في التأبين ننعي زهور البساتين
لا نتوقف في صحف اليوم إلا أمام العناوين
نقرؤها دون أن يطرف الجفن
سرعان ما نفتح الصفحات ما قبل الأخيرة
ندخل فيها نجالس أحرفها
فتعود لنا ألفة الأصدقاء وذكرى الوجوه
تعود لنا الحيوية والدهشة العرضية
واللون والأمن والحزن
هذا هو العالم المتبقي لنا، إنه الصمت
والذكريات، السواد، هو الأهل والبيت
إن البياض الوحيد الذي نرتجيه
البياض الوحيد الذي نتوحد فيه
بياض الكفن

الموت من حوله

هل كان أمل دنقل يرى في موت محمود حسن إسماعيل علامة على موته القادم؟ ممكن. ولكن بالمعنى الشعري، فالموت لم يفارق شعر أمل دنقل منذ عرفه القرّاء في مطلع الستينيات بكتابة قصيدته الشهيرة «كلمات اسبارتاكوس الأخيرة». ومن يومها وأمل يرى الموت حوله في كل مكان. ربما كان ذلك بسبب ما أحدثته هزيمة 1967 البشعة فيه من إحساس بالموت الذي تغلغل في كل شيء، فبدا شبيهًا بذلك الصوت الناطق في «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة»: الزاحف إليها في معاطف القتلى وفوق الجثث المكدسة. وبدا شعره محتفيًا بالموت الذي أصبح عناوين لقصائد من مثل «موت مغنية مغمورة» و«الموت في لوحات» و«ميتة عصرية» و«الموت في الفراش». وكان إحساس أمل بالموت، منذ هزيمة 1967، إحساسًا وجوديًا، يبدو معه الموت كما لو كان يتخلل ذرات الوجود. ولذلك كتب عن حياته قصيدة «سفر ألف دال» أي «سفر أمل دنقل»، وبدأ السفر الذاتي بالإصحاح الأول الذي يقول فيه:

القطارات ترحل بين قضيبين: ما كان - ما سيكون
والسماء رماد، به صنع الموت قهوته
ثم ذراه كي تتنشقه الكائنات
فينسل بين الشرايين والأفئدة
كل شيء - خلال الزجاج - يفرّ
رذاذ الغبار على بقعة الضوء
أغنية الريح
قنطرة النهر
سرب العصافير والأعمدة
كل شيء يفر
فلا الماء تمسكه اليد
والحلم لا يتبقى على شرفات العيون
والقطارات ترحل والراحلون
يصلون ولا يصلون

هذه الأبيات من المقاطع التي تلحّ على ذاكرتي دائمًا، عندما أتذكر أمل، وما أكثر ما أتذكره، خصوصًا في هذا الزمان الوغد، ودائمًا، أتوقف عند القطارات التي أراها تمثيلاً رمزيًا للحياة التي نندفع فيها أو معها ما بين الماضي والمستقبل، كأننا نسعى، دومًا، إلى التخلص من شباك الحاضر الذي يوقعنا في الما بين، ويخايلنا بالموت الذي يختفي وراء كل زاوية منه، فيبدو حضور هذا الموت كلي الوجود، كأنه المارد الكوني الذي يُحيل السماء إلى رماد، هو الموت، الذي يصنع منه قهوته التي هي، بدورها، شراب الموت الذي ينتثر في الهواء، كي تتنشقه الكائنات، بعد أن ينسلّ بين الشرايين والأفئدة، فيصبح الكائن الذي يرتحل بين الماضي والمستقبل، معلقًا في شباك الحاضر الذي يتنشق في خيوطه الموت، غير قادر على الإمساك بأي شيء، أو التعلق بأي يقين، فكل شيء يفر منه في اندفاع قطار الحياة ما بين العدم والوجود، وكل شيء يظهر ليختفي، فلا يبقى منه حتى الذكرى التي سرعان ما يمحوها العدم كالرياح التي تهدم شواهد القبور فتمحوها من الوجود، أو الرياح التي يتبخر معها الماء، فلا تمسكه الأيدي، ولا تستطيع أن تقبض عليه أصلاً، خصوصًا في زمن الوجود السيّال الذي يتبادل فيه الحلم مكانه والماء، فلا يتبقى كلاهما في اليد أو على شرفات العيون، أو حتى الذاكرة التي تظل معلقة، بدورها، بين سلب العدم وإيجاب الوجود.

هل كان أمل يشعر في رئته بهذا الرماد الذي صنع به الموت قهوته الخفية التي شربها أمل قبيل رحيله، وهو يستمع إلى المقطع الذي كان أشد انتباهًا إليه من سواه. الأمر ممكن. والطريف أن عبدالرحمن الأبنودي أخبرني بأن هذه الأغنية التي كتبها ليغنيها محمد قنديل، ولحنّها طه أمين، لم تغن على الجمهور إلا مرة واحدة، وأن أمل استمع إليها بالمصادفة، وقد فاجأ عبدالرحمن بمعرفته بها ورغبته في سماعها. ويبدو أنها ظلت كامنة في لاشعوره مع صور الموت الموازية التي انبثقت في اللحظات الأخيرة، وبدت أشبه بالمرآة التي رأى فيها نهايته التي كان يعرفها من قبل، خصوصًا في كتابته التي ظلت منطوية على هاجس الموت.

الغريب أن هذا الموت الذي لم يفارق قصائد أمل منذ 1967 كان يتجاور مع نهم شديد للحياة، التي كنت أرى أمل يحتسيها في نهم، كأن وعيه بالنهاية الحتمية للوجود هو الذي جعله واحدًا من الشخصيات الأبيقورية، التي تسابق الموت في التهام لذّات الحياة. ولقد رافقته سنوات طويلة، ولنا ذكريات ومغامرات مشتركة، لكن المؤكد أنه لا أنا ولا غيري من المقرّبين إليه كنا نستطيع مجاراته أو التفوق عليه في هذا النهم الذي لم يوقفه حتى المرض. وأنا مدين له بأنه هو الذي انتزعني من عزلة راهب العلم، التي كنت فرضتها على نفسي، مؤكدًا لي أنني لا يمكن أن أفهم العالم اللانهائى للإبداع الأدبي أو الفني إلا إذا عرفت الحياة التي ينبثق منها هذا الإبداع، وفي مواجهتها. هكذا، كسر جدران العزلة التي فرضتها على نفسي، واصطحبني معه، كأنه جلجامش وأنا أنكيدو، مقتحمًا بي ما كنت لا أجرؤ حتى على التفكير في اقتحامه، فعرفت عن الحياة والأحياء ماجعلني أفارق البراءة التي وجدني عليها. وما كان أعلى ضحكته العميقة، عندما كنت أنشد أمامه، في جلساتنا الحميمة التي كانت تمتد غالبًا حتى الصباح، أبيات صلاح عبدالصبور:

يا من يدل خطوتي على طريق الدمعة البريئة
يا من يدل خطوتي على طريق الضحكة البريئة
لك السلام
لك السلام
أعطيك ما أعطتني الدنيا من التجريب والمهارة
لقاء يوم واحد من البكارة

وكان يشاكسني بقوله: أيها الساذج، هذه بقايا الرومانسية التي ورثتها عمن قرأت لهم في صومعتك القديمة التي لاتزال تحمل آثارها، ولابد أن تتخلى عنها، فالحياة لا مكان فيها لهذه الرومانسية التي لاتزال تنطوي عليها. التهم الحياة قبل أن تلتهمك، لأني أخاف عليك من الخسّة البشرية.

الخسّة الإنسانية

وسرعان ما عرفت ماذا كان يقصد بهذه الخسّة البشرية عندما انتهى بي اعتراضي على معاهدة كامب ديفيد إلى الطرد من الجامعة. وقد عرف أمل الخبر، لأن أسماء المفصولين ذهبت إلى الصحف لنشرها، لكن السادات غيّر رأيه وسحب الأسماء، لكن بعد أن اطّلع أغلب العاملين في الصحافة على الأسماء المفصولة، وبالطبع، عرف أمل الخبر من مصادره الخاصة. وما كان أكثرها، فجاءني لكي يبلغني، ولما رأى استخفافي بالأمر وسخريتي، كرر لي الجملة التي لا أنساها: أخشى عليك من الخسة الإنسانية، فسرعان ما سوف تجد فرار الذين يُظهرون لك الود، وابتعاد الذين يلحون عليك بالنفاق من أصحاب المصالح. وقد كان.

ومرت الأيام، وتركت الجامعة، وذهبت إلى السويد، وعدت منها، فوجدت المرض اللعين، السرطان، قد أخذ يفتك بأمل.

وكنا نعرف أمر احتمالات هذا المرض منذ سنوات عدة، فقد هاجمه في السبعينيات، ولا أذكر متى على وجه التحديد، وأبلغه بذلك الدكتور إسماعيل السباعي الذي كان أشهر جرّاحي السبعينيات في مصر، وعلمنا أن المرض ناتج عن بلهارسيا قديمة، ودخل أمل مستشفى العجوزة في مصر. وأبلغنا الدكتور إسماعيل السباعي - رحمه الله - أن عملية الاستئصال التي قام بها للورم الخبيث ناجحة، وأنه لو مضت سنوات خمس من دون عودة المرض مرة أخرى، فإن ذلك يكون علامة على النجاة الكاملة. وكانت كل سنة تمر تحمل معها الأمل في الشفاء الكامل، إلى أن كرّت أعوام أربعة، ونسينا المرض واحتمالاته، ولكن المرض عاد بضراوة في آخر السنة الخامسة، إن لم تخني الذاكرة، وبدا أكثر توحشًا. لكن إرادة الحياة عند أمل ظلت تقاوم المرض مقاومة أدهشت الأطباء الذين أخذوا يتابعون حالته في الغرفة رقم (8) بالمعهد القومي للسرطان، وسرعان ما تحولت هذه الغرفة إلى مزار لكل مثقفي مصر، ابتداء من لويس عوض ويوسف إدريس مرورًا بآخر الأجيال التي اختارت طريق أمل الشعري.

ولا أعرف كيف أقنع أمل الأطباء بالسماح له بالخروج من المستشفى والعودة إليه، وكانت مهمتي أن أصحبه في سيارتي، نمر أولا على المختص في العلاج الطبيعي الذي كان يعالج عظام ساقيه اللتين تيبستا وضمرتا من كثرة الرقاد، وبعد الجلسة نذهب إلى الأماكن التي يريد أمل السهر فيها، وتحولت هذه الشعيرة إلى برنامج شبه يومي. ويبدو أن الأطباء قد أدركوا أن الحالة ميئوس منها. فتركوا أمل ليفعل ما يريد، ويحتسي الحياة من الموت. هكذا كنا نذهب للسهر ولقاء الأصدقاء، وتدب في أمل قوة عجيبة، لا أعرف من أين كانت تأتيه، فيرتفع صوته في النقاش، وتتزايد حماسته وحركات جسده كما لو كان في كامل صحته وعافيته.

ولن أنسى، في هذا السياق، أن قصيدة أمل «لا تصالح» كانت قد تحولت إلى قصيدة قومية تتردد في كل مكان، وكانت صحة أمل قد انتكست في فترة سمح له الأطباء فيها بمغادرة المستشفى، على أن يعود إليه إذا ساءت الحال. وجاء مهرجان الإبداع الثاني الذي كان يشرف عليه المرحوم عزالدين أسماعيل، وكنت أعاونه في المهرجان الذي كان يتضمن أمسية للشعراء العرب كل يوم. وكانت القصائد تُلقى في أحد المسارح بشارع قصر العيني. وكانت حالة أمل الصحية لا تسمح، في ما نرى، بأن نذهب، لكن زاره أصدقاؤه من الشعراء العرب، وقالوا له: لقد جئنا لنسمع «لا تصالح» وجاء يوم أمل، وذهبت إليه في المساء قبيل الموعد، ووجدنا منه إصرارًا على الذهاب، وتساند عليّ وعبلة زوجه، وحملنا العكاز الذي كان لايسير من دونه، وذهبنا إلى القاعة، وصعدنا به إلى خشبة المسرح وراء الستار. وما إن أعلن المذيع عن اسم أمل دنقل حتى ضجّت القاعة بتصفيق الذين ملأوها ولم يجدوا مكانًا حتى في الممرات التي ازدحمت بحضور ما كان أحد يتخيل إمكان رؤيته. ودخل أمل إلى منتصف المسرح، يتحرك في إرهاق أكثر من ملحوظ. وتوقف أمام الميكروفون. واندفعت الأسطر الأولى من فمه، ثقيلة، خافتة، لكن ما كاد يترك السطر الرابع حتى أضاء وجهه، ودبّت فيه قوة عجيبة، وإذا به يُلقي العصا التي يتعكز عليها، ويقف منتصب القامة كالرمح، ويجلجل صوته بقوة بدت لي كأنها ترجّ المسرح رجّا، وتدافعت الأسطر كطلقات الرصاص. ولم يهدأ أو يسترح إلا بعد أن ألقى السطر الأخير من القصيدة، وسار عائدًا إلى حيث كنا ننتظره ومعنا العكاز، والقاعة كلها تضج بتصفيق استمر دقائق عديدة، أكاد أسمع أصداءه في هذه اللحظة.

وخرجنا مع أمل عائدين إلى حيث كنا، ولحق بنا عدد ممن يحبهم ويعرفون قدره، وعلى رأسهم لويس عوض، رحمة الله عليه، وظل أمل يتحدث إلى أحبابه إلى ما بعد منتصف الليل، كما لو كان قد برئ من كل شيء. وأخذ يسمعنا من قصائده التي طلبها منه الحضور، ولم أنس أن أعلن رغبتي في الاستماع إلى قصيدة «من أوراق أبي نواس» وقصيدة «سفر ألف دال» اللتين أراهما من أنضج قصائد أمل وأكثرها إنسانية.

الزيارة الأخيرة

ولكني، مع الأسف، كنت أعرف أن هذه كانت المرة الأخيرة التي يصعد فيها أمل إلى خشبة مسرح كي يواجه جمهوره الذي أخلص له الكلمة والمكاشفة. وساءت حالة أمل، بعد ذلك، وعاد إلى الغرفة رقم (8) بادئًا رحلة النهاية التي تحول فيها الموت إلى موضوع للتأمل، فكانت قصيدة «ضد من» التي تبدأ على النحو التالي:

في غرف العمليات
كان نقاب الأطباء أبيض
لون المعاطف أبيض
تاج الحكيمات أبيض، أردية الراهبات
الملاءات
لون الأسرّة، أربطة الشاش والقطن
قرص المنوم، أنبوبة المصل
كوب اللبن
كل هذا يشيع بقلبي الوهن
كل هذا البياض يذكّرني بالكفن

وتولدت قصائد: «زهور» و«السرير» و«الموت». وفي القصيدة الأخيرة، تحديدًا، يتخيل أمل الموت طفلاً مشاكسًا، يجلس في الميادين، يطلق نبلته بالحصى، فيصيب بها من يصيب من السابلة، أو صياداً يتوجه للبحر في ساعة المد، يطرح في الماء صنارة الصيد، ثم يعود ليكتب أسماء من علقوا في أحابيله القاتلة:

أمس: فاجأته واقفًا بجوار سريري
ممسكًا - بيد - كوب ماء
ويد - بحبوب الدواء
فتناولتها..
كان مبتسمًا
وأنا كنت مستسلمًا لمصيري.

ولاأزال أرى في هذه القصائد القصيرة البديعة نوعًا من أنسنة الموت وترويضه ومقاومته في آنٍ، وكأن أمل كان يريد أن يواجه بالشعر الموت، وينتزع أقصى مدى ممكن من الحياة. وظل الحال على هذا النحو، يعطينا أمل كل شهر تقريبًا قصيدة جديدة ننشرها في مجلة إبداع التي كان يرأس تحريرها الدكتور عبدالقادر القط، رحمة الله عليه، إلى أن جاءني سامي خشبة مدير التحرير، وكان قد أخذ منه قصيدة «الجنوبي» ليدفع بها إلى المطبعة، وطلب مني قراءتها، فأدركت أنها قصيدة أمل الأخيرة، وأنه تعب من المقاومة، ولم يبق سوى أن يشتهي الموت كي يرى الحقيقة والأوجه الغائبة. وبالفعل، كانت قصيدة «الجنوبي» آخر قصائده. أما نحن الذين أحببناه فلم نفقد الأمل، وظللنا نتحلق حوله، نتطلع إليه بأعين حانية راجية، كأنها تقول له: قاوم يا أمل وحارب، ولكنه لم يقاوم ولم يحارب، فقد أنهكته المقاومة، ولم تُبق فيه أي قدرة أو رغبة في المقاومة والبقاء.

هكذا، تركناه، يتركنا، وحملناه إلى القبر الذي اختاره، وعدنا من دونه إلى المدينة التي ظل يعشقها حتى النهاية، والتي ظل يرسم صورها في شعره إلى أن ودّعها. وأذكر أن أول ما فعلته بعد العودة هو جمع شعره الأخير. وكانت عبلة الرويني قد قامت بهذه المهمة، ولم يبق سوى ترتيب القصائد، وإعداد تذييل توضيحي، واختيار عنوان، ولم أجد عنوانًا أفضل من «أوراق الغرفة رقم 8»، وهو رقم الغرفة التي عاش أيامه الأخيرة فيها، واخترت مقطعًا من قصيدة «بكائية لصقر قريش» كي تكون مفتتحًا للديوان كله:

عم صباحًا أيها الصقر المجنح
عم صباحًا
سنة تمضي وأخرى سوف تأتي
فمتى يقبل موتي
قبل أن أصبح - مثل الصقر -
صقرًا مستباحًا

والمؤكد أن أمل لم يكن، قط، صقرًا مستباحًا، فقد ظل دائمًا صقرًا محاربًا من أجل أمته. ولذلك ظل، ولايزال، شاعرًا قوميًا تترجّع أصداء صوته في أزمنة التراجع العربي التي نحياها كي نقاوم، ولا نصالح:

إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة
النجوم لميقاتها
والطيور لأصواتها
والرمال لذرّاتها
فما الصلح إلا معاهدة بين ندين
في شرف القلب
لا تنتقص.

 

 

جابر عصفور