اسمي علاء

اسمي علاء

صار اسمه ابن (....)، منذ فرار أمه مع عشيقها! لم يتوقع علاء الذي لم يكمل الثامنة من عمره أن الحياة ستجرحه باكرًا، وأنه سيستيقظ ذات صباح وقد خلا البيت من أحب إنسان إلى قلبه: أمه، التي فرّت مع رجل آخر تاركة أربعة أطفال أكبرهم علاء لأب فقير مهنته عامل بناء، ويعاني مرضًا يجعل جلده سميكًا كحراشف السمك، مرض اسمه الصدف.

تقبّل علاء الزلزال الذي هز حياته بكبرياء وشجاعة، كتم ألمه الكبير بغياب أمه وصار عليه مواجهة نقمة والده وغضبه العاصف الذي صبّه على ابنه البكر، لأن له وجه والدته تمامًا، يوقظه كل صباح بلكزة من قدمه في خاصرته النحيلة صارخًا: قم يا ابن (....)، استيقظ، والله أنت مثل أمك تنام كدب، هيا يا حمار ستتأخر عن عملك.

منذ فرار والدته، أخرجه والده من المدرسة وألحقه بالعمل في مقهى كبير متخصص بتقديم كل أنواع النارجيلة، يعمل علاء في المقهى حتى ساعة متأخرة من الليل، يشغل الفحم للأراجيل، ويضع الجمرات على رأس النارجيلة ثم يسحب شهيقًا عميقًا متلاحقًا، حتى يخرج الدخان كثيفًا من فمه، ثم يقدم خرطوم النارجيلة للزبون، وقد يتلقى بقشيشًا تافهًا، فيشكر الزبون من قلبه، ويتمنى لو تزيد النقود في جيبه عساها تخفف قليلاً من غضب والده وشتائمه التي تنهال عليه كل يوم.

في أقل من شهر، نجح علاء في جعل نفسه شخصًا لا يمكن الاستغناء عنه في أكبر مقهى لتقديم الأراجيل في المدينة، كان يحمل الشعّالة المتوهجة بالجمرات بيد، وملقطًا معدنيًا كبيرًا باليد الأخرى، ويتسلل بين الطاولات ملبيًا النداء اللحوح «نارة يا ولد»، أكثر ما يؤلمه أنه لم يعد يسمع أحدًا يناديه باسمه، فهو في البيت ابن (....)، وفي المقهى «نار يا ولد». لكنه من حين لآخر، كان يستسلم لأحلام يقظة عذبة ويغمض عينيه الدامعتين منصتًا لصوتٍ بعيد بعيد يعشقه، صوت أمه تناديه: علاء، علاء..

لم ينتبه علاء أنه بعد ستة أشهر من عمله صار يعاني من نوبة سعال حاد، كسعال رجل عجوز عاش عمره مدخنًا.

ولم يفهم شعوره الخام بأن وجهه غريب عنه، حين يطيل تأمله في المرآة! تُرى لماذا يحس أن وجهه غريب عنه، كما لو أنه وجه طفل لا يعرفه، لم يفهم علاء أن حزنًا عميقًا ومهيبًا ارتشح في ملامح وجهه، ملامحه الحلوة التي هي ملامح وجه أمه تمامًا.

لم يرد علاء أبدًا على إهانات والده، وصفعاته المفاجئة من دون سبب, تظل شفتاه مطبقتين بقوة كجرح، كان والده يخلصه كل نقوده ويترك له أجرة المواصلات فقط. لم يعرف علاء الذي زلزله غياب أمه كيف يتعامل مع جرحه، يحس بألم فظيع في حنجرته وبضيق في صدره، يدخل الحمام الضيق القذر، يتكوم على نفسه كجنين، متخيلاً أنه جالس في حضن أمه، يجهش ببكاء متقطع، لكنه أحيانًا يعجز عن ذرف الدموع، فتصدر عن حنجرته أصوات مختلفة تنضح بالقهر.

لم يكن علاء جاهزًا لهذا القدر الهائل من الألم، يحس أنه مبلبل دومًا، وعاجز عن التعامل مع تلك الحقيقة، يحاول أن يفرغ ألمه وغضبه بالمشي السريع، يحس أن خطواته التي تتسارع تحرره قليلاً من وطأة ألمه، يمشي طويلاً وهو يلهث ودموعه تبلل وجنتيه، يحلم حلمًا وحيدًا أنها ستعود وسيغفر لها، بل صارت لحظة غفرانه لها هي عزاءه الوحيد في أيامه القاسية، كان يفكر وهو يتنقّل بجسده الضئيل حاملاً سلة الجمرات المتوهجة كقلبه، هل يُعقل ألا يبقى شيء من أمه؟ يرنو إلى الجمرات تلفح وجهه النحيل الشاحب بلهيبها ويتساءل بإحساس رقيق وقلب نقي: هل يُعقل ألا يبقى شيء من الماما؟ وأحيانًا يعصف به الشوق إليها لدرجة أنه يخرج إلى الشارع، ويضيع في الزحام والضجيج، وهو يصرخ بصوت يتبدد كأحلامه ماما، ماما.. ثم تعلّم مع الوقت أن يكبح شوقه ويحوّله إلى ابتسامات يوزعها على الزبائن.

مرّ عامان دون أن يراها، أن يسمع عنها شيئًا، وذات يوم ألهب شوقه لها كيانه الغضّ، فسأل والده: أين الماما، فكان الجواب صفعة مدوية، تركت طنينًا في أذنه لأيام.

لكن إحساس علاء أنه ينتظرها لم يخمد أبدًا، نجح مع الوقت في استحضار شخصها أو روحها، وأمكنة أن يتنشق شذاها العطر، ورائحة صابون الخزامى التي تفوح من جسدها وتخدره، وتصيبه بنعاس لذيذ، يشعر أن وجودها يحوم حوله كنسيم لطيف، إحساسه بها يجعل روحه تحلّق كعصفور يغرّد سعيدًا بالحياة، عارفًا أن أساس سعادته وجود أم، تحتضنه.

تلاحقت نوبات السعال عند علاء، لدرجة يشعر معها بأنه سيموت مختنقًا بالبلغم الأسود الذي يبصقه، وأحيانًا تنتهي نوب سعاله بالإقياء، وتتركه كخرقة مبللة بالعرق. لم يبال والده بسعاله إلا حين أخذ يستيقظ من نومه منزعجًا من ابنه الذي يقلق راحة نومه، اشترى له دواء وشرابًا مقشعًا، فتحسن علاء قليلاً، لكن نوبة سعاله لم تخمد، فأمره والده بأن ينام في المطبخ.

في ظلام المطبخ حيث يسمع دبيب الصراصير، يحسّ أن روحه منكمشة، لكنه يحدّق في زاويتها، حيث كانت تقف تجلو الصحون، وهي تدندن بأغانٍ عاطفية حزينة، يفرد خياله صورها في فضاء المطبخ الضيق المعتم، يمسح دموعه وهو يناديها ماما، ماما متذوقًا نشوة اللفظ، يشعر كيف يشف الظلام الكثيف عن نور شاحب مزرق.

ذات مساء بارد، كان علاء يلوح بقوة بسلّة الجمرات عند الباب الخارجي للمقهى، شاردًا بنظراته في سيل السيارات الذي لا ينقطع، حين هوى قلبه فجأة، فقد رآها تجلس بجانب رجل في سيارة أنيقة، إشارة المرور حمراء، وهي على بعد خطوات منه، أحسّ بلحظة كيف يتحوّل حبه لها إلى كهرباء يهزّ جسده، كهرباء تنطلق من جسده إلى جسدها، وخُيِّل إليه أنه سمع صوتها، الذي اخترق سمعه كشرارة من نار ألهبت روحه.

كاد ينصاع إلى رغبة جامحة أن يركض باتجاهها، تركّزت في نظرته مأساة روحه، وارتسمت علامات الانهيار على وجهه النحيل، وبالرغم من أن المسافة بينه وبينها خطوات، فإنه أحسّ أن هوّة سحيقة تفصله عنها، وبأن شيئًا قاهرًا خارجًا عنه يشلّه ويمنعه من الركض نحوها، هل ناداها ماما، أم خُيّل إليه أنه يناديها، خنقته نوبة سعال عنيفة جعلته يترنّح، سعال جعله يترنّح ويضطر لوضع سلّة الجمرات جانبًا، جحظت عيناه واحتقنتا، وهو يقاوم السعال الوحشي الخشن، أصابه فزع حين انتهى سعاله بكومة من البصاق المُدمى، دم أحمر دافئ، أحسّه خارجًا من قلبه المتورم بالحب لأم لم يبق منها شيء، لأم تتبدد كدخان النارجيلة.

أحسّ بدوار، غامت الدنيا أمام عينيه، إشارة المرور خضراء، أحسّ بغثيان، فانتحى زاوية والتصق بالجدار، تقيأ دمًا، ونضح عرق بارد من جسده، كانت شفتاه ترتعشان بقوة، كما لو أنهما تجاهدان لتنطقا كلمة ماما، لم ينتبه إلا وصراخ فظيع ينقض على رأسه، ويد خشنة تهرس كتفه النحيل، ألم تسمع يا ولد... نارة، الزبائن يريدون نارة.

سلة الجمرات بجانبه، ودّ لو يذوب في قلبها، يتدفأ أو يحترق، لا فرق، ربما في قاع تلك الجمرات يمكنه أن يشعر بحنان أمه.

 

 

هيفاء بيطار