حنا مينه أفكار ورؤى في القصة القصيرة

حنا مينه أفكار ورؤى في القصة القصيرة

قبل 62 عامًا، نشرت مجلة «الطريق» اللبنانية قصة قصيرة جدًا، بعنوان له وقعٌ غريب: «طفلة للبيع» موقّعة باسم: حنا مينه (اللاذقية)... وكان في ذلك الحين، في الواحد والعشرين من عمره، يعمل حلاقًا في دكان صغير بحيّ شعبي في مدينة اللاذقية على الساحل السوري.

لعلّي أجزم أن هذه القصة القصيرة جدًا، هي أول نصّ إبداعي يُنشر للشاب حنا مينه، وأجزم أيضًا أن هذا الشاب لم يكن في تصوّره - آنذاك - أن هذه القصة ستكون نقطة البداية في رحلة إبداعية خصبة للشاب الفقير في ذلك الحيّ الفقير.

ربما كان يعتمل في داخل الشاب طموح غامض، تشوّق غامض لإحراز شيء ما سيأتي، ربما... فبعد سنوات سينشر حنا مينه روايته الأولى «المصابيح الزرق» (1954)... لتتوالى بعدها روايات له وروايات، وصلت إلى الرقم 34 رواية، حتى يومنا هذا.

وسيستعيد حنا مينه، في العام 1998، أصداء ذلك الطموح الغامض القديم. في فقرة من مقالة له، يتمازج فيها الغموض بما يشبه الرؤية النظرية، حيث يتحدث عن علاقة الرواية بالقصة القصيرة، فيقول: «... الرواية خرجت، غالبًا، من قميص القصة القصيرة، وليس العكس، والسبب، تقديرًا: أن كتابة القصة كانت تمرينًا لكتابة الرواية، وكانت، إذا جاز التعبير، خربشات أولى، رسومًا أولى، تخطيطات أولى، لما تلاها من روايات...» (كتب حنا مينه هذه الملاحظة ضمن مقالة له نشرت في جريدة «الرياض» بعنوان «النقد... والفارق بين القصة والرواية»).

... فهل خطر ببال ذلك الشاب الذي كانه حنا مينه، عندما «خربش» قصته القصيرة تلك، أنه بهذه «الخربشة» بالذات، يدخل في أفق ممارسة نوع من التمرين الكتابي السردي سوف يوصله، ليس فقط إلى كتابة رواية أو أكثر، بل إلى أن يصير واحدًا من أهم بناة عمارة الرواية العربية الحديثة؟

لهذا: فإن هذه الأقصوصة، التي لم تأخذ لنفسها سوى مساحة ثلاثة أرباع صفحة واحدة من صفحات مجلة «الطريق»، ولم يدرجها أحد في التاريخ الكتابي لحنا مينه - هذه القصة تستحق من الصديق حنّا أن يضع هو صورة لها ضمن برواز خاص ويعلّقها على جدار غرفته المخصّصة للكتابة، إلى جوار صور آخرين من أحبابه أعلام القصة والرواية، الذين علّق حنّا صورهم في غرفته هذه، فراحوا يتأمّلون حنا باستمرار، وهو مغمور بالكتابة، مهموم بها، ومستمتع بفعل الكتابة هذه، حيث تتوالد الشخصيات، وتتصارع وتحيا.

اقتراح وفاء لهذه الأقصوصة الأولى - فهل يفعلها حنّا؟

مقاربات في النقد

على أن موضوع هذه المقالة ليس: فنون القص عند حنا مينه، بل مقاربة (الناقد الأدبي) الموجود في أهاب الروائي حنا مينه، وقد ظهرت معالم من رؤاه النقدية سابقًا في ثلاثة كتب صدرت له هي: «هواجس في التجربة الروائية» (1984)، «كيف حملت القلم» (1986)، «حوارات وأحاديث، في الحياة والكتابة الروائية» (1992)... ثم صدر له، في العام 2000، كتاب نقدي توجيهي حول نظرية القصة وفنونها، ضمن سلسلة «كتاب الرياض»، بعنوان «القصة والدلالة الفكرية»، وهو الكتاب الذي أحب أن أتناوله في هذا الحديث:

يصف حنا مينه مقالات كتابه هذا بأنها: «تشكّل، في تعدّدها وتنوّعها، بعضًا من رأيي، وكثيرًا من آراء كبار كتّاب القصة القصيرة، وكبار نقّادها أيضًا (....) وحسب هذا القارئ أن يتوصّل، بتأنٍّ، إلى الخروج بفكرة، أو فكرات، تساعده في فهم مكوّنات القصة القصيرة، ومقوّماتها، وتسعفه، فكريًا، في أنحاء قدراته الإبداعية، من خلال الموهبة وصقلها» (ص:5).

فهذا الكتاب، إذن، أقرب أن يكون كتابًا تعليميًا توجيهيًا في فنون القص، وأساليب كتابة القصة، وبالرغم من حرص حنّا على الإشارة إلى أن مقالات الكتاب تحمّل بعضًا من رأيه، وكثيرًا من آراء كتّاب القصة ونقادها، فإن الكتاب ينهض فوق أساس فني، عميق الغور وواسع المدى من التجربة الحية الإبداعية واللغوية، وموهبة القص أساسًا، التي راكمها حنا مينه ووعاها بالفكر وعاشها بالممارسة، منذ تلك القصة القصيرة جدًا (عام 1945) مرورًا بعشرات الروايات له، وصولاً إلى كتابه هذا عام 2000.

فهو في رؤاه النقدية وتعاليمه الفنية وتوجيهاته، إنما يعتمد مخزونه المعرفي، عبر قراءاته، ومخزونه الفني عبر تجاربه الكتابية، وتوصّله بعد مكابدات ومكابدات إلى ما يصفه بـ «المعلّمية» في فن القص والصياغة.

فلابدّ للقاص الشاب، المبتدئ - الذي يتوجّه إليه الكتاب أساسًا - أن يقرأ هذه المقالات بكثير من التأنّي، وكثير من الشغف المعرفي. فالموهبة الموهبة تعرف مع ماذا تتفاعل، وماذا تأخذ، وماذا لا تأخذ أيضًا.

ويلحّ حنا مينه، في أكثر مقالاته هذه، على أن ما يهمّ القارئ في القصة القصيرة، هو أن تستهويه بالدرجة الأولى، وأن تستحوذ عليه، وتعطيه الصدمة، وتُكسبه تجربة أعمق وخبرة أوسع، على أن الجذر المعرفي في العمق من هذه الخصائص التشويقية أن يكون عند القاص، بدءًا، ما يقوله من خلال القصة. أما الجذر الفنّي لعامل الاستهواء هذا، الذي يعطيه حنّا أهمية قصوى، فهو: الحبكة في القصّة المتأتيّة من النسيج الحكائي، الطالع من الأساس التكويني لكتابة القصة والرواية على السواء... و«الحكاية» هنا، ليست مجرّد وسيلة جذب للقارئ وإغراء له بمواصلة القراءة، بل هي الحاملة للقول الذي يريد القاص إيصاله، وهي أيضًا، في الوقت نفسه وبالدرجة نفسها من الأهمية، الحاملة، في نسيجها التركيبي، ذلك التوهّج الفنّي وتجليّات الموهبة، التي لا يكون الفن ولا الأدب - من دونها - فنًا أو أدبًا.

وإذ يوضح حنا مينه أن البيئة الاجتماعية هي الخلية الأولى، هي المهاد الضروري والمعين الذي يوفّر للقاص المادة الخام، فهو يدعو القاص إلى ملاحظة جريان الحياة، ومعايشة الناس حيث هم، والتأمّل في طرائق استخدامات الناس للغة، ولكنه - إلى هذا - يعلّق أهمية كبرى، مساوية، على القراءة في نظرية القصة القصيرة، مفهومها وتنويعاته، والآراء والدراسات حول هذا الفن وتجارب المبدعين.

الموهبة الحقيقية

ولكن، لابد هنا من الملاحظة والتأكيد: إن موهبة الكاتب، أولاً، في فنّ القصّ، والسلاسة الحكائية في أسلوبه، هي المنطلق الأساس في كتابة القصة وفي توهّجها الفنّي والحياتي، حتى قبل أن يوجّه هذا الكاتب اهتمامًا جدّيًا بالقراءة حول أصول كتابة القصة وعناصرها وطرائقها، ففي تاريخ الأدب أن القواعد والأصول والمذاهب والأنواع إنما يستخلصها النقّاد - بدءًا - من النتاج الإبداعي نفسه. ولعل ما يُكتب من دراسات ومقالات حول نظرية القصة، هو في أساسه، تبيان لاحق لمسألة: كيف كتب المبدعون القصة، وليس كيف ينبغي أن تُكتب القصة!

طبعًا، كل التجارب السابقة، والكتابات النقدية، في هذا الفن، تشكّل معالم مساعدة في طريق الإتقان والتجويد.. ولكن الموهبة، الرؤية، المخزون الحياتي والطاقة الإبداعية، هي البدء والأساس، ويخبرنا تاريخ الأدب: إن الموهوب المبدع يغيّر ويبدّل ويضيف جديدًا في طرائق القص، وحتى ينسف ويتجاوز - بإبداعه - مختلف المفاهيم المتكوّنة، بحيث تحمل كتاباته القصصية الجديدة عناصر لمفاهيم ورؤى و«قواعد» نقدية جديدة، ومختلفة.

ربما من هذا المنطلق، حرص الروائي حنّا مينه على أن يستدرك، في مقالة أخرى له، فيؤكد: «إن أخذ الدروس في فن كتابة القصة، أو الرواية، لا يؤهّلنا أن نكون قصّاصين أو روائيين، والزعم بأننا تخرّجنا في الجامعة بمادة القص، فصار في وسعنا أن نكتب القصة، هو زعم فيه تعميم...» (ص: 19).

فدراسة النظرية والمفاهيم ومعرفة مكوّنات العمل الإبداعي، تلعب، بالتأكيد، دورًا في إتقان الكتابة القصصية، وفي جعل الكاتب يتعرّف «أسرار المهنة» لدى المبدعين الكبار، ولكنها لا تكوّن بذاتها إمكانية أصيلة لكتابة فنيّة إبداعية.

ومن اللافت في هذا الكتاب، أن حنا مينه عندما يأتي على ذكر أحاديث له مع صديقه القاص الرائع يوسف إدريس عن القصة القصيرة، ومعنى الإبداع في القصة، ومكان التجربة والثقافة في الكتابة، يصير حديثه مشوّقًا أكثر، وجاذبًا، وأقرب إلى التناول المؤنس، وأعْلق في الذاكرة والتذوّق الفنّي والعقل النقدي، بما يختلف، جماليًا، عن تلك المواصفات التي يوردها بشأن الأسلوب وطرائق القصّ وصياغات اللغة، إلخ... لهذا، كنت أتمنى أن يغرف حنّا من تجربته الإبداعية نفسها بأكثر من استشهاداته - الضرورية - بنقاد ومنظّرين آخرين. وقد سبق أن غرف حنّا من مخزون تجاربه الروائية في كتاب أصدره في العام 1992 بعنوان: «حوارات وأحاديث، في الحياة والكتابة الروائية»، فجاءت تلك الأحاديث عن تجاربه نفسها أكثر إمتاعًا، وقد أقول إنها أكثر فائدة أيضًا للقرّاء وللروائيين الجدد وللباحثين على السواء.

وفي إشارة مهمة إلى ذلك التدامج السعيد بين القراءة والتثقّف مع التجربة الإبداعية، يورد حنّا تعبيرًا متعدد الأبعاد قاله له يوسف إدريس (وهو يطلق ضحكة إدريسية مفرقعة): «أنا أكلت تشيخوف، أكلته، هضمته، ثم نسيته، وهذه نعمة النسيان!». ويوضح حنّا، هنا، أن فن تشيخوف صار نسغًا في عروق إدريس، لكنه يؤكد أن الدم القصصي لهذا الفنان الحقيقي لم يتحوّل إلى دم تشيخوفي، بل ظل هو هو: دما مصريا إدريسيا منفتحا للتفاعل الخلاّق مع تجارب المبدعين في مختلف أنحاء العالم، وبالأخص مع أحد أكبر أساتذة القصة القصيرة في العالم: أنطون تشيخوف. ومن المهم جدًا الإشارة، هنا، إلى أن حنا مينه، بعد أن يورد مجموعة من التوجيهات والمواصفات والتعاليم، كان يحرص على أن يتولّي دور المحرّض المجرّب، أن يتخذ الوجهة المقابلة - وربما المكمّلة - فيحرّض المبدعين الجدد على عدم التقيد الصارم بالنصائح والقواعد، بل يتدبرونها، بأخذها باعتبارهم، يزيدون بها مخزونهم الثقافي، ويعملون، في الوقت نفسه، على تجاوزها، أو نسيانها.. فالإبداع يتضمن دائمًا، فعل التجاوز.

مفهوم العالم

على أن حنا مينه - في حرصه على أن تتكامل العدّة الثقافية لدى كاتب القصة أو الرواية - يفترض أن يمتلك القاص (مفهومًا عن العالم). وهذا طبيعي... ولكن مينه يبالغ كثيرًا في التطلّب من القاص - وبخاصة عندما يكون في البدايات الغامضة لتشييد مشروعه الفنّي - أكثر مما يحق لنا أن نطلبه منه، بحيث يقارب هذا القاص، في ثقافته المعرفية، ما يشبه ثقافة ومعرفة عالم الاجتماع مثلاً، أو الباحث الفلسفي، ومستوعبًا لنظرية التطور الكوني العام، والتحوّلات من نظام اجتماعي إلى آخر... ويفصّل حنا هذا التطلّب، بما نحاول إيجازه في ما يلي:

- «إن امتلاك مفهوم عن العالم يتم من خلال امتلاك عناصر ثلاثة:

1 - الفلسفة بكل تفرّعاتها، وكل نظريّاتها، المادية والمثالية لمعرفة قوانين الكون، ودورها التاريخي، في الانتقال من نظام إلى نظام، بدءًا بالمشاعية الأولى، ومرورًا بنظام الرق، فالإقطاع، فالرأسمالية، وأخيرًا الاشتراكية (....) إلخ.

2 - علم الاجتماع، وما فيه من نظام العمران، وما يفضي إليه العمران من تقدم، وما يرافق هذا التقدم من تطور المجتمع (....) إلخ.

3 - علم النفس، وارتباطاته بنشوء الإنسان وتطوره وتنوع النفس البشرية، وتعدّدها، وغناها (....) إلخ. (راجع مقال: المفهوم عن العالم. ص: 15 - 20).

طبيعي، إن امتلاك هكذا مفهوم، بعناصره ومكوّناته الثلاثة أعلاه، يغني ويعمّق المشروع الفني للقاص أو الروائي أو المبدع إجمالاً. ولكن الواقع أن الساعين من المبدعين إلى امتلاك هذا المفهوم في اتساعه هذا وشموليته، حسب تعداد حنا لعناصره ومكونّاتها، قليلون جدًا بين كتاب القصة والرواية، كما أن إرادة امتلاك هذا المفهوم عن العالم، إنما تتحقق مفاعليها وتتكامل مع حركة التكامل والتنامي في المشروع الإبداعي - والمعرفي - على المدى الزمني لتكامل هذا المشروع.

وإذا كنا نرى مبالغة ما في طرح هذه المتطلبّات المهمة أمام المبدعين من كتّاب القصة والرواية، فقد لا يحق لنا أن نبتعد عن ذلك التفاؤل في إمكان أن يمتلك المبدع مثل هذا المفهوم الشمولي عن العالم.

قضية الأسلوب

في مقالة متميّزة بعنوان «قضية الأسلوب» يركّز حنا مينه على مسألة الصراع والتناقض بين سعي الفنان إلى تملّك أسلوبه الذاتي الخاص، الذي يميّزه عن أسلوب أي فنان آخر، وبين أن يستسهل الطريق فيتجه نحو تقليد أساليب الأخرين، وإغراءات هذا التقليد... على أن أخطر أنواع التقليد ذلك الذي يغري بالتماثل مع الأساليب والأنواع الحديثة التي جلبت لأصحابها الشهرة على صعيد العالم، وسعة الانتشار في مختلف الأنحاء، وجلبت لهم الجوائز العالمية الكبرى.

وينتقد حنّا بشدّة - وعن حق - ذلك اللهاث، العبثي، وراء «الموضة» الفنية، واصطناع الكتابة على غرارها، والهوس بتقليد الآخرين، بما يؤدي - حتمًا - إلى خسران الذات وإضاعة الأسلوب الخاص... ويذكّر حنّا، في هذا السياق: «بما أقدم عليه بعض الروائيين العرب، بعد أن صدرت رواية (مائة عام من العزلة) لماركيز، ونال عليها جائزة نوبل، فتهافت بعضهم على محاكاته، ومجاراته، حتى لا أقول تقليده، فكانت النتيجة سلبية، مضرّة، مؤذية لهم، كما كانت مؤذية، بالغة الضرر، محاولات تقليد كافكا أو تقليد آلان روب غرييه» (ص:35).

وخلص حنّا إلى أن التفاعل الفنّي الخلاّق، لهذا الفنان الموهوب، مع كل نتاج إبداعي، هو الأساس، وهو من أهم عناصر الإغناء الإبداعي، والتميّز، والأصالة، وليس أبدًا ذلك اللهاث وراء التقليد والمحاكاة بأي حال من الأحوال.

إنقاذ فن القصة

لقد أشرنا إلى واقع أن حنا مينه لم يُصدر سوى مجموعتين قصصيتين بين 34 رواية... فما هي دوافع حنا مينه لتخصيص كتاب نقدي توجيهي عن فن القصة القصيرة، وعن كيف كُتبت وكيف يمكن أن تُكتب، واستشهد بأقوال عديد من النقّاد وكتّاب القصة لرسم مواصفات، ولو عامة، لفن كتابة القصة القصيرة وتحوّلاتها؟

أعتقد أن حنا مينه ما كان ليكتب هذا الكتاب لو لم تكن لديه أسباب فنّية وفكرية وحياتية لكتابته، وأن ضميره الفنّي يملك أجوبة ما عن هذا السؤال.

وفي ظنّي أن حنا مينه رأى حركة هبوط، كمّي ونوعي، في حركة كتابة القصة القصيرة عندنا، فحاول شيئًا من الدفع والتحفيز، وحاول - مستشهدًا بنقّاد ومبدعين آخرين - وضع معالم ما للطريق، في حركة تسهم في إعادة إحياء هذا الفن الفاعل والجميل. الذي سبق أن شهدت بلادنا حركة ازدهار له وانتشار وفاعلية وتحوّلات وإنجازات فنية خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي - لعلّ وعسى!... والأمل يداعب حنّا الفنان، فيعلنه بالقول: «... في رأيي أن جيلاً جديدًا، واعدًا، يأتي الآن إلى ميدان القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًا... وأن هذا الجيل أفضل ثقافة، أفضل اطلاعًا على نظريات القصة ومفاهيمها، ولديه تحدّيات من الذين سبقوه، من العرب والأجانب» (ص:201).

في كلماته الختامية لكتابه، ما يؤكد أمله هذا، وما يوضح هدفه منه: «... إنني آتٍ إلى ختام هذه الحلقات، آملاً أن أكون قدمت فيها ولو بعض النفع، لأصدقائي، وموضع ثقتي ورجائي: الكتّاب الشباب، أصحاب المواهب والوعود» (ص: 203).

وبدوري، فإن ثقتي أكيدة بأن مقالات حنا مينه هذه من شأنها أن تقدم للموهوبين من هؤلاء الشباب - إضافة إلى النفع - الكثير جدًا من الدفع والتحفيز.

ومَن يدري؟... فقد ينضم حنا مينه نفسه - وقد بلغ من العمر، ومن الإنتاج الروائي، عتيّا - إلى هذا الرفّ الشبابي الآتي لإنهاض القصة العربية القصيرة..

في شروحه للواقعية التي يكتبها، يحرص حنا مينه على إضاءة «البعد المستقبلي» في هذه الواقعية... أستعير منه هذا التطلّع لأختم هذا الحديث.

فذات عام، سئل حنا مينه: «لماذا تركت كتابة القصة القصيرة؟» - أجاب: «لم أترك كتابة القصة القصيرة، لكنني لست معلّمًا فيها كما ينبغي، بالرغم من أن بعض القرّاء والنقّاد يرون أنني كاتب قصة جيّد».

ربما أميل إلى القول: إن حنا مينه منظّر، بشكل ما، لفن القصة القصيرة، أكثر منه كاتب قصة قصيرة... وأن بعض أقاصيصه أشبه بتكثيف فني لأعمال روائية لاحقة - إنه روائي أولاً وآخرًا.

ولكنني لا أسمح لنفسي، أبدًا، أن أصادر تحوّلات المستقبل.

فمن يدري؟... قد يجد حنا مينه نفسه، ذات يوم أو ذات عام، مندفعًا إلى كتابة القصة القصيرة، بخصوصيّتها في التكثيف والتركيز، من حيث قد يرى أنها أقدر تعبيرًا عمّا يريد قوله وإيصاله، في ذلك الحين الآتي... فليس بيد الفنان - ولا بإرادته - أن يكون هو الحاكم المطلق في تقرير النوع الفني الذي يجب أن يكتبه - الآن - دون الأنواع الأخرى... فمن يدري؟... هذا السؤال لا يستطيع حنا مينه نفسه أن يجيب عنه بوضوح وحسم، ولا حتى بالاختيار الحر!

لعلّ في إصدار حنّا مينه لهذا الكتاب، ما يحمل جوابًا - ولو خفيًا - عن هذا السؤال.

طفلة للبيع!*

كان لباسه قد دل عليه، فعرفت للحال أنه فلاح فقير، من أولئك الفلاحين الفقراء، الذين تضطرهم قسوة الملاكين، لهجر الريف إلى المدينة.

شاهدته من وراء زجاج المقهى، في يوم بارد ممطر، يستوقف المارين، يعرض عليهم «بضاعته» فمنهم مَن يقف لينظر إليها، ومنهم مَن يهز رأسه ويتابع المسير.

كانت هذه «البضاعة» طفلة في الثالثة عشرة من العمر تقريبًا، هزيلة البنية، سمراء البشرة، ناعمة الملامح، حافية القدمين. ولم يكن هو بخير من طفلته، فقد كان حافيًا، رث الثياب، تبدو على سيمائه سورة ألم ممض هو - ولاشك - وليد فقره الشديد الأسود.

اقتربت منه، وكان لايزال ينادي بصوته الواهي الكسير:

- طفلة... للبيع!

طفلة للبيع؟ ياله من إجرام في ذات الإنسانية وفي ذات الحضارة!

اقتربت منه، فنظر إلي نظرات مسكينة، فيها كثير من التوسل والرجاء.

- طفلة... للبيع.

أعاد نداءه، ثم تقدم نحوي وأشار إلى طفلته قائلاً:

- إنها شاطرة.... يا أفندي... وأمينه، والله.

فقاطعته بقسوة:

- ولكنها صغيرة... صغيرة جدًا.

وحرام أن تعمل، هذه الطفلة، في مثل هذه السن، وأحرم منه، أن يباع الأطفال يا رجل. أليس لك قلب؟

فما راعني إلا هلع غريب يستولي عليه، وبسمة ساخرة، مرة، يفتر عنها ثغره:

- بلى... يا أفندي... لي قلب (أجابني بهدوء. كالذي يسبق العاصفة).

ولكن ألا ترى بيعها - لعدة سنين - أفضل من موتها جوعًا وبردًا؟!

قلت: نعم! أرى، في مثل هذه الحال، بيعها أفضل ولكن...

- ماذا؟

- لم لا تعمل حتى تعيلها، وتكفيها شر الجوع والبرد؟! أنت فلاح، فماذا كنت تفعل في الصيف؟!

- في الصيف؟!

- أجل.

- أوتظن أنني كنت ألعب؟

- هذا ما يبدو لي! (وتذكرت للتو حكاية لافونتين عن الصرصور والنملة).

- أنت واهم! (أجابني بنبرة تأكيدية) في الصيف! كنت أجمع ما بذرته في الشتاء.

- وأين الغلال التي جمعتها إذن؟

فنظر إلي، كمن تنبه لشيء، ثم راح يتمتم:

- صحيح... أين الغلال التي جمعتها!؟

ثم قال: والله... لا أدري! ولكنني أقسم، على أنني ما تقاعست قط.

وسحب طفلته ومضى... فبقيت لوحدي أفكر بــ«الجراد» الذي أتى على غلة هذا «الصرصور»!
-------------------------------
* أول قصة نشرت لحنا مينه في مجلة «الطريق» اللبنانية منذ 26 عاما.
-------------------------------

مقلةُ الشّرقِ! كم عزيز علينا أن تكوني رميّة الأقذاءِ
شرّدتْ أهلَك النّوائبُ في الأر ضِ وكانوا كأنجم الجوزاءِ
وإذا المرءُ ضاق بالعيش ذرعاً ركب الموت في سبيل البقاء
لا يُبالي مُغرّبٌ في ذويهِ أن يراهُ ذووه في الغرباءِ


إيليا أبو ماضي

 

 

محمد دكروب